دعوة للحوار: سينما مستقلة على موجة سيد درويش

Print Friendly, PDF & Email

قبل أحد عروض أفلام مهرجان القاهرة السينمائى )أظنه الفيلم المصري المستقل الطريق الدائري)، التقيتُ المخرج الموهوب إبراهيم البطوط، وتحدثت معه طويلاً حول فكرة تشغلنى كثيراً وهى علاقة السينما المستقلة بالجمهور، وقلقي الشديد من أن تصبح هذه السينما المختلفة المليئة بالمواهب الحقيقية، وبالأفكار الطازجة، مجرد تجارب منفردة تذوب مع الزمن لأنها غير قادرة على الاستمرار والوصول الى شرائح الجمهور المتعددة.

 تكلمتُ كثيراً، وتبلورت عدة أفكار سأحاول أن ألخصها هنا دون أى ادعاء بأنها تمثل إجابات أو كلمات نهائية. الحقيقة أننى أراها أسئلة وعلامات استفهام تفتح أبوابا للنقاش لأن الهدف واحد وهو ألا تكون السينما “المستقلة” مستقلة عن الجمهور الواسع العريض.

الإبداع المختلف

كان محور فكرتى الأولى أن نوسّع قليلاً من مفهوم السينما المستقلة بحيث لا يقتصر على المعنى الاقتصادي، ولكن يمتد أساساً الى معنى “الإبداع المختلف” حتى لو جاء من قلب السينما السائدة. ضربت مثلاً ببعض أفلام محمد أبو سيف مثل “خالى من الكوليسترول” الذى رأيت فيه ما يدعم معنى السينما المستقلة رغم أنه لم يصوّر بكاميرات الديجيتال، بل إننى اعتبرت أفلام عاطف الطيب أو محمد خان نماذج للسينما المستقلة فى معناها وهدفها رغم أنها انتجت فى قلب الصناعة ومن خلال مشاركة نجوم السينما السائدة.

كان طموحى من وراء هذا الطرح أن تشكل السينما المستقلة ومخرجوها الموهوبون سلاحاً لاختراق السينما السائدة والتأثير فيها. فى وقت من الأوقات جاء الكثيرون مثل خيرى بشارة وداوود عبد السيد من الفيلم الوثائقى فغيّروا الكثير فى السينما السائدة، فلماذا لا يلعب مخرجو الأفلام المستقلة هذا الدور وبجرأة أكبر؟

أعترف بأننى كنت متأثراً فى هذا الطرح بضعف تأثير جماعة السينما الجديدة بفيلميها “أغنية على الممر” و”الظلال في الجانب الآخر” على التيار السائد للفيلم المصرى (رغم أهمية التجربتين). أريد تأثيراً للفيلم المستقل يتجاوز سينما الديجيتال، أجيال ومواهب تضع بصمتها كما فعل نجوم الواقعية الجديدة، وتفسح المجال لمواهب صاعدة تجرب وتبدع فى سينما الديجيتال وهكذا.

أحلم أيضا بأن يقوم أى مهرجان مصرى بتنظيم حوار بين المنتجين وصنّاع السينما المستقلة، تبادل حرّ للأفكار دون تربُص أو أفكار مسبقة. ليس كل المنتجين يصنعون سينما رديئة، وليس كل المستقلين يصنعون سينما عظيمة، وفى النهاية لن يقبل المستقلون إلا ما سيقتنعون به. ومرة أخرى، الإستقلال هنا بالمعنى الإبداعى بالدرجة الأولى.. لماذا لا نجرّب ونحاول؟

كانت الفكرة الثانية هي أن السينما المستقلة المصرية نجحت فى تطوير وسائل للإنتاج الصغير قليل التكاليف عالى الجودة، ولكنها لم تبتكر حتى الآن وسائل مماثلة فى التوزيع والعرض. أذكر أننى طالبتُ فى نهاية مقالى عن فيلم “ميكروفون” بأن ينزل هذا الفيلم الى الناس لأنه لن ينجح إذا عرض لجمهور “المولات” (الأسواق المجمعة). كان رأيى أنه فيلم يخاطب الشباب، ويجب أن يصل إليهم فى النوادى والجامعات والشواطئ، فيلم يناسبه العرض فى الهواء الطلق. الفيلم الروائى المستقلّ يتوه عادةً عن جمهوره فيفقد الحلقة الأقوى فى العملية الإنتاجية: الجمهورالواسع. الفكرة هنا أنه بدون تطوير وسائل مختلفة للتوزيع والعرض لن تكون هناك قدرة على استمرار وسائل الإنتاج والإبداع.

قواعد الدوجما

أما الفكرة الثالثة الأكثر أهمية فتتعلق بالتحذير من تحويل فكرة صناعة فيلم روائي طويل ومستقل الى ما يشبه قواعد “الدوجما”. لا يجب أبدًا أن يتوقف المبدعون عند شكل أو أسلوب واحد للسرد تحت ضغط أن يكونوا حداثيين أو مختلفين. لو سألت متفرجا خبيراً بالسينما ومتابعا لها عن توقعاته قبل مشاهدة فيلم روائى طويل مستقل لقال لك: سيكون عملاً مصوراً بكاميرا ديجيتال (لظروف إنتاجية). فيلم شخصيات له مسحة تسجيلية مقصودة. السرد يتم من خلال خطوط متوازية وحبكات صغيرة أو بدون حبكة على الإطلاق. أخشى أن تصبح هذه الملامح بمثابة “دوجما” جديدة تجمد الإبداع عند نقطة محددة.

أسأل نفسى أحيانا هل مما يخدش الفيلم المستقل أن يحكى حدوتة تقليدية تصل بسهولة الى أحفاد كتّاب “ألف ليلة وكان يامكان ……”؟

هل من “العار الإبداعى” أن يبتعد مخرج مستقل عن المعالجة الجادة لأفكاره ويقدم فيلما مرحاً أو فرجة شعبية تنسجم مع طبيعة شعب وصفت ثورته بأنها “ثورة ضاحكة”؟

هل مما يهزّ المصداقية الابتعاد عن المسحة التسجيلية قليلاً لجذب جمهور لم يتعود على مشاهدة الفيلم التسجيلى فى التليفزيون فما بالك بمتابعته فى دار للسينما؟ هل من التنازل الإبداعى أن يكتب المخرج/ المؤلف فيلمه وعينه على سينما كمال سليم وصلاح ابو سيف بدلا  من أن تكون عينه على السينما الأوروبية؟ هل البساطة تخاصم الإبداع؟

أليس من الممكن التوفيق بين طموح المبدع والتواصل مع الجمهور العريض؟ هل هناك مشكلة فى أن يطور المخرج المستقل أدواته وطرقه فى التعبير مثلما فعل رضوان الكاشف الذى صنع “عرق البلح” بخصوصيته، وصنع أيضاً “الساحر” بتواصله الرائع مع الجمهور؟

أعرف أن مشكلة صانع أى فيلم (مستقل أو غير مستقل) أن فيلمه الأول قد يكون فيلمه الأخير مما يجعله تحت ضغط هاجس قاهر بأن يقول كل شئ ويفعل كل شئ ويتحقق (الآن وفوراً) وإلا فلن يتحقق إلى الأبد. حسناً ، فلنفكر بنفس المنطق ولكن بصورة أخرى، على المبدع أن يسأل نفسه:  لمن سأقول كل شئ؟ الجمهور هو الطرف الثالث فى المعادلة، وهو أيضاً هدف الطرفين الآخرين: المبدع والناقد.

لماذا لا أقول ما أريد لجمهور أكبر من الجمهور المتعلم؟ لماذا لا تكون السينما المستقلة جماهيرية؟ ما الذى يمنع أن أقول نفس الشئ بمليون طريقة؟ أقول دائما إن الفنان هو الساحر أو الحاوي، هو الذى يمتلك المهارة التى تجعل اللعبة ناجحة، فإذا فشلت اللعبة فالمشكلة توجد عند الحاوي او الساحر.

مليون طريقة

ليس فى ذلك أى حجْر على حق الفنان المُطلق فى أن يختار الشكل والأسلوب الذى يرضى طموحه، إنما أردت لفت الأنظار الى أن هناك مليون طريقة لكي تقول بها نفس الشئ، أردت أن أذكّر فنان السينما المستقلة بأن “الدوجما” الشكلية كارثة. أردتُ أن أذكّره بمقولة فيللينى بأن المخرج مزيج بين “القديس” و”مهرج السيرك”. أنت أنت قائد العملية الإبداعية، وأنت الذى يجب أن تحلم (قبْلي) بأن تصل أحلامك الى أكبر عدد من الناس.

أمامى دائماً تجربة سيد درويش العظيم. بكل المعايير كان نموذجا للفنان المستقل وفقاً لظروف عصره. كان يقدّم موسيقى مختلفة تماماً عن السائد ولكنها ليست منقطعة تماما عنها. اشتغل على نفس القوالب (الطقطوقة / الدور/ الموشّح/ الأغنية المسرحية)، ولكنه غيّر من ملامح القالب وقام بتطويره. فى البداية لم يكن مألوفاً أو مقبولاً، ولكنه حصل أخيراً على الإعتراف الجماهيرى لسببين: لأنه كان واقفاً فوق نفس الأرضية التى يقف عليها جمهوره، ولأنه (ثانياً) اخترق السائد وغيّره بدلا من ان ينقطع نهائيا عنه. إننى أحلم بأكثر من سيد درويش فى مجال السينما المستقلة. أحلم بفيلم جماهيرى مستقلّ يرضى المبدع والجمهورمعاً. أحلم بتأثير أكبر لكل هذه المواهب الذين امتدحت تجاربها فى مقالات مطولة منشورة، وفى ظنى أن هذا التأثير يمكن أن يتم عبر وسيلتين: اختراق السينما السائدة وتغييرها كما فعل خان وداوود والطيب وعرفة، استخدام نفس أدواتها ولكن فى اتجاهات أخرى، غزوها وتطويرها بنفس أسلحتها، أما الوسيلة الثانية فمن خلال ابتكار حيل ووسائل فى السرد والحكى والعرض والتوزيع تجعل الفيلم المستقل أكثر قرباً وتأثيراً فى الجمهور العريض .

ليست هذه إجابات، ولكنها أسئلة متنكرة تستهدف تعظيم حصاد سينما رائعة ولا تحاول مسخ هويتها أو تفردها، أفكارى مجرد محاولة لتوسيع زاوية الرؤية حتى لا نخرج من “دوجما” تجارية رديئة الى “دوجما” مستقلة مغلقة على نفسها.

السينما للناس وليست للنقاد. لا أطالبك بالنزول إلي الجمهور، ولا أطالب الجمهور بالصعود إليك، أريد أن نقف معاً على قدم المساواة وفوق نفس الأرضية، أريد أن نأخذ النغمة من الناس ونعيدها إليهم مثلما فعلت أغنيات الشيخ سيد: فيها بصمته وعبقريته وإبداعه وفيها أيضا روح الناس ومزاجهم.. قل لى بالله عليك: هل من المستحيل أن تصبح أنت وشعبك على نفس الموجة؟

Visited 44 times, 1 visit(s) today