سنوات المعرفة: ذكريات من مهرجان لندن السينمائي

Print Friendly, PDF & Email

كنت أعتقد، قبل أن أحضر للإقامة في العاصمة البريطانية لندن عام 1984، أن مهرجان لندن السينمائي يقتصر فقط على عرض الأفلام “الفنية”، أي تلك التي لا تسعى للوصول إلى الجمهور العريض، لكني وجدت عند حضوري أول دورة لي في نوفمبر- ديسمبر 1984 أن المهرجان ربما يكون الأكثر إحتفالا بالسينما الأمريكية: هوليوود والسينما المستقلة. وهو احتفاء استمر مع المهرجان رغم تغير مديريه مرات عدة خلال الثلاثين سنة التي تابعته فيها بشكل أو آخر رغم غيابي عنه لفترات متقطعة بسبب تركي لندن لبعض الوقت حينما كنت أذهب للإقامة في القاهرة أو لخوض تجربة العمل في الخليج مرتين: في أبو ظبي والدوحة وهما تجربتان لم يكتب لهما النجاح، ليس لسبب يتعلق بظروف العمل بل بسبب عدم قدرتي على التأقلم مع العيش هناك.

ربما يكون الاهتمام بعرض أكبر عدد من الأفلام الأمريكية الجديدة والاحتفاء بها وبنجومها الأمريكيين، أصبح في مرحلة تالية، أكبر من إهتمام المهرجان “البريطاني” بعرض الأفلام “البريطانية” المتميزة لكبار السينمائيين البريطانيين مثل بيتر جريناواي وستيفن فريرز ومايك لي وكن لوتش ونيل جوردان، وهو ما دفعني منذ سنوات، تحديدا خلال دورة عام 2007، إلى الكتابة لمديرة المهرجان في ذلك الوقت، ساندرا هيبرون Sandra Hebron منتقدا سياستها في الاكتفاء بتسليط الأضواء على الأفلام البريطانية “التي هي أقرب ما تكون إلى أعمال تجريبية شبابية غير مكتملة أو ليست على المستوى الاحترافي بدرجة كافية ومعظمها مصنوع للتليفزيون أساسا، مع تجاهل تام لأفلام “البريطانيين الكبار” الذين صنعوا السمعة الجيدة للسينما البريطانية في أوروبا والعالم” كما قلت لها حرفيا. والمفارقة أن معظم هؤلاء المخرجين الذين أشرت إليهم كانت لهم أفلام جديدة جيدة متوفرة في تلك السنة لم تسع السيدة هيبرون وطاقمها، للحصول عليها وتقديمها بما كانت تستحقه من اهتمام، بل ذهبت تلك الأفلام للعرض في مهرجانات أخرى، مثل كان وفينيسيا وبرلين.

وقد تلقيت أكثر من رسالة من مديرة المهرجان تدافع فيها بشدة عن موقفها واختيارها للأفلام الأولى للمخرجين المبتدئين، مبررة غياب أفلام الكبار بأنهم هم الذين يمتنعون عن عرض أفلامهم في مهرجان لندن، في حين أن المعروف أن المهرجان الأخير يقام بعد أن تكون المهرجانات السينمائية الرئيسية الثلاثة قد أقيمت وانتهى الأمر، أي أن بوسع مهرجان لندن الحصول على حق عرض هذه الأفلام في “بلد المنشأ”، ويكون بذلك يؤدي خدمة كبيرة في الترويج لها وسط جمهورها الطبيعي، وهو ما سترحب به بالتأكيد شركات التوزيع والإنتاج البريطانية التي تقف وراء تلك الأفلام. وقد ذكرت هذا في إحدى رسائلي لساندرا هيبرون وأبديت دهشتي من لهجتها العصبية في رفض ما وجهته لها من انتقادات بسبب اختياراتها في هذا المجال فكان أن ردت بالقول إنها إذا لم ترد بهذه القوة والحسم، لفقدت وظيفتها، لأنني أشكك في قدراتها، ولو نشرت رأيي هذا   لربما يضر بسمعتها!

أعود إلى قصتي مع المهرجان لأقول إن دورة 1984 كانت بحق، دورة حافلة. لكني أتذكر جيدا أن مؤسسة السينما البريطانية (وهذه أفضل ترجمة في رأيي لما يسمى بالإنجليزية British Film Institute ويترجمه معظم النقاد العرب “معهد الفيلم البريطاني”، في حين أنه ليس معهدا تعليميا كما قد توحي الكلمة للقاريء العربي، كما أنه ليس عن “فيلم” بل المقصود هنا ثقافة السينما وتراثها بشكل عام، فالمؤسسة معنية بالحفاظ علىالتراث السينمائي البريطاني من خلال أرشيف الأفلام البريطانية (يترجمونه خطأ أيضا بـ”أرشيف الفيلم” في حين أنه ليس لحفظ فيلم واحد بل آلاف الأفلام).

عصر مضى

كان مدير المهرجان في تلك الدورة الأولى التي أحضرها، ديريك مالكولم، ناقد صحيفة “الجارديان” وقتذاك، أهم الصحف اليومية البريطانية (القومية)، وكان توزيعها يتجاوز في ذلك الوقت النصف مليون نسخة، لأن قراءها كانوا – ومازالوا- من النخبة، قياسا بأرقام توزيع الصحف الشعبية التي تهتم بالأخبار المثيرة والصور العارية ونشر فضائح نجوم المجتمع مثل جريدة “ذي صن” أو “الديلي ميرور” و”نيوز أوف ذي وورلد” الاسبوعية، وهي الصحف التي يطلقون عليها صحف “التابلويد” بسبب القطع الصغير الذي كان يميزها عن الصحف الرصينة “القومية” مثل الجارديان والتايمز والتليجراف ثم الاندبندنت بعد ذلك بسنوات. وكان توزيع صحيفة مثل “ذي صن” The Sun مثلا يبلغ في ذلك الوقت نحو خمسة ملايين نسخة. والغريب ان الصحف الرصينة التي ذكرناها لحقت بالصحف الشعبية منذ مطلع الألفية الثالثة، فأصبحت تصدر في قطع “تابلويد” أيضا، في محاولة منها أولا، لخفض التكاليف، وثانيا لمنافسة الصحف الشعبية، وهو ما لم يتحقق في رأيي، بل أصبحت مواقع تلك الصحف على الانترنت تلقى إقبالا أكبر بكثير مما تلقاه الطبعات الورقية منها!

ديريك مالكولم وقتذاك

كان ديريك مالكولم محظوظا بالطبع أن يعمل ناقدا سينمائيا متخصصا ومتفرغا في “الجارديان”، وقد ظل يعمل بها حتى تقاعد، ثم أصبح يكتب لصحيفة “إيفننج ستاندرارد” اليومية التي توزع الآن مجانا، ولكنه لم يعد يتمتع بما كان يتمتع به في الماضي من اهتمام بل أصبح له منافسون كثيرون من جيل الشباب ممن يكتبون النقد السينمائي على طريقة “التيك أواي” أي الوجبات السريعة!

لكن مشكلة مالكولم أنه كان قد أصبح مديرا لمهرجان لندن السينمائي الذي تنظمه مؤسسة السينما البريطانية British Film institute وهي مؤسسة عتيقة بيروقراطية تجمع في داخلها عددا كبيرا من الموظفين الباحثين أيضا عن فرصة من خلال ذلك المهرجان وهومناسبة للظهور على الساحة الدولية، وكان الكثيرون في تلك المؤسسة يعتقدون أنهم “أحق” من ديريك في إدارة المهرجان، لذلك واجه من اللحظة الأولى هجوما شديدا عليه. وقد تعرفت عليه في ذلك الوقت. ولم يكن يوجد من النقاد العرب ممن يترددون على مهرجان لندن السينمائي في ذلك الوقت أكثر من إثنين أو ثلاثة أذكر منهم الصحفي الذي تحول للكتابة السياسية فيما بعد أي عادل درويش، والصحفي المصري المخضرم بكر الشرقاوي. قبل أن يظهر عدد كبير من الصحفيين العرب العاملين في الصحافة العربية في لندن في المهرجان بعد ذلك. ومن مصر في الثمانينيات كان يأتي سنويا إلى المهرجان (لأربع سنوات متتالية تقريبا) الناقد الأدبي الكبير الأستاذ توفيق حنا، ولابد أن يكون حاليا في التسعينات من عمره، فهو من جيل الأربعينيات من القرن الماضي، من أعضاء جماعة “الخبز والحرية” التي جاءت إمتدادا لجماعة “الفن والحرية” التي أسسها الفنان التشكيلي آدم حنين، وكانت جماعة أدبية اشتراكية طليعية، تأثرت بأفكار أندريه بريتون السيريالية. وأظن أنه يقيم حاليا في الولايات المتحدة متعه الله بالصحة والعافية. وكانت الصحفية خيرية البشلاوي أيضا تأتي أحيانا، وأظن أن كلا من توفيق حنا كان يحصل على دعوة خاصة من المجلس الثقافي البريطاني في القاهرة. لكن بينما كان توفيق حنا فرحا مبتهجا  بالمهرجان وأفلامه، وكان أحيانا يندمج في المشاهدة فيصفق أثناء إذا أعجبه مشهد ما في الفيلم الذي يشاهده، وهو أمر كان غريبا تماما على أجواء المشاهدة وسط جمهور إنجليزي متحفظ بطبعه لا يميل- حسب التربية الإنجليزية التقليدية- إلى التعبير عن مشاعره وانفعالاته، لم تكن البشلاوي سعيدة كثيرا بالمهرجان، وكانت تبدي تبرمها من الكثير من الأشياء التي لم تكن تروق لها، وكانت تفضل أن تغادر المهرجان قبل أن ينتهي إلى مهرجان نانت في فرنسا، المخصص لأفلام القارات الثلاث.

المهم.. كان ديريك وقتها، يخطب ودنا جميعا، أي النقاد والصحفيين من البريطانيين والوافدين، لكي يدعم موقفه ويبقى ويضمن التجديد له في موقعه، لكننا للأسف كنا ننتقده كثيرا، ووقعت بين “الشلة” التي كنت أنتمي إليها في ذلك الوقت، وبينه مواجهات ساخنة، فقد كنا نطالب بتخصيص قاعة للعروض الصحفية، بدلا من التطفل على العروض العامة، وقد نحصل على بطاقة للمشاهدة مع الجمهور أو لا نحصل، وكنا نتهمه أيضا بتحويل المهرجان، من مهرجان نخبوي يهتم بأفلام الفن الرفيع وسينما المؤلف film d’auteuer إلى مهرجان يخصص مساحة واسعة للسينما الأمريكية ولأفلام النجوم الكبار، بل وكان ديريك مالكولم أيضا أول من نقل المهرجان من عروضه المحدودة في دار السينما الوطنية National Film Theatre ببقاعتيها الشهيرتين على الضفة الجنوبية لنهر التايمز، إلى ساحة ليستر أو كما يعرفه الجميع باسم “ليستر سكواير” في قلب العاصمة البريطانية النابض بالصخب والمليء بالسياح بالقرب من ساحة البيكاديللي الشهيرة.

ديريك مالكولم حاليا (بعد أن تجاوز الثانية والثمانين)

كانت الضفة الجنوبية للنهر في ذلك الوقت لاتزال مظلمة، ناحية ووترلو، كئيبة معتمة مقفرة، خصوصا في موسم الشتاء حينما يقام المهرجان، ولم تكن قد شهدت بعد ما شهدته بعد ذلك بسنوات طويلة، من توسع ومنشآت جديدة حيث أصبحت الآن تمتليء بالمطاعم والمقاهي بعد أن لم يكن هناك من مقصف لتناول المشروبات- البريئة وغير البريئة- سوى ذلك المقصف الكائن في دار السينما الوطنية والمطل على نهر التايمز مباشرة، أو الآخر الكائن داخل مبنى المسرح الوطني البريطاني National Theatre بتصميمه الأسمنتي الكئيب. لقد أدركت بلدية لندن بعد ردح طويل من الزمان انه يتعين عليها تطوير الضفة الجنوبية وجعلها بؤرة لجذب جمهور الشباب، ومنافسة مثليتها الباريسية، وقد نجحت حتى الآن- جزئيا- في ذلك، فلايزال هناك الكثيرالذي يمكن عمله.

أعود إلى ديريك مالكولم، الذي نجح في استقدام الكثير من “التحف” السينمائية لعرضها في المهرجان، كما دعا الكثير من كبار السينمائيين في العالم مثل فرنشيسكو روزي الذي ناقش مع الجمهور فيلمه “كارمن” (1984)، وكريس ماركر الذي أحضر فيلمه الوثائقي الكبير “دون شمس” (1983)، وإدجار راتيز الألماني وفيلمه “هايمات” (أو الوطن) الذي يعد إحدى التحف النادرة في تاريخ السينما. وقد عرض الفيلم، الذي صور للسينما أساسا وليس للتليفزيون ويبلغ زمن عرضه أكثر من 16 ساعة، على خمسة أيام في المهرجان، كما ابتدع ديريك مالكولم ما عرف بـ”مناقشات الجارديان” التي أشرفت عليها ومولتها صحيفة الجارديان التي كان يعمل بها، وحضر رايتز وقضى الجمهور معه ساعتين في مناقشة مفتوحة (بتذاكر مباعة) واستمعنا إلى تجربته الثرية في صنع هذا العمل الملحمي الكبير الذي حاول فيما بعد مده على استقامته والنسج على منواله واستكمال قصصه في أفلام أخرى أحدثها ما عرض في مهرجان فينيسيا السينمائي 2013، ولكن دون نجاح يضاهي ما حققه العمل الأصلي من نجاح كبير.

مناقشات الجارديان استضافت في 1984 أيضا دوجلاس فيربانكس الصغير، إبن الممثل الأسطوري الذي كان قد دخل تاريخ السينما منذ أكثر من نصف قرن، كما استضافت المخرج الفرنسي الكبير جان لوك جودار، والممثل السويدي المرموق ماكس فون سيدو، والمخرج الأمريكي الراحل الكبير روبرت التمان، وغيرهم.

كانت لي جلسات ووقفات مع ديريك بعد ذلك، عندما كنا نلتقي بشكل خاص في مهرجان فينيسيا منذ 1986، وقد روى لي أنه لم يكن مهتما بالسينما أصلا، وأنه بدأ حياته في العمل كـ”جوكي” أي مدرب للخيول، أو بالأحرى، مشرف عليها، يرعاها ويروضها، وكانت بداية علاقته بصحيفة الجارديان كمراسل يغطي لها سباقات الخيل. وبعد أن تقاعد من العمل كناقد سينمائي للصحيفة، اتجه للعمل ناقدا لصحيفة “ذي إيفننج ستاندراد” قبل أن يأخذ مكانه ناقد آخر، رغم استمراره في الكتابة لتلك الصحيفة التي أصبحت توزع بالمجان بعد ظهر كل يوم في العاصمة لندن. وقد أصدر مالكولم ثلاثة كتب أولها يضم اختياراته الشخصية لأفضل مائة فيلم شاهدها، والثاني يروي فيه ذكرياته العائلية وهو بعنوان “أسرار عائلية”، والثالث عن الممثل الأمريكي روبرت ميتشوم. ومن ضمن المعلومات التي صدمتني عندما قرأت كتابه “أسرار عائلية” اعترافه بأنه كان يكره والده كثيرا، بسبب معاملته السيئة لوالدته، وكيف أنها كانت تخونه، وأنه قتلها انتقاما منها لذلك، ولكنه لم يلق أي عقاب، وكان ذلك على ما أتذكر، في وقت بعيد من ثلاثينيات القرن الماضي، واعتبرت الجريمة على ما يبدو من “جرائم الشرف” التي لم يكن القانون يعاقب عليها، أو ربما تمكن والد ديريك بطريقة ما من إخفاء جريمته، وكلها أشياء تبدو قريبة من عالم الأفلام التي كان يخرجها هيتشكوك في وطنه الأصلي، قبل أن يرحل إلى هوليوود!

عصر شيلا ويتيكر

 لم يستمر ديريك على رأس مهرجان لندن سوى عامين، ففي عام 1986 نجح اللوبي النسائي البيروقراطي في مؤسسة السينما البريطانية في الإطاحة به لصالح تعيين مديرة البرامج السينمائية بالمؤسسة شيلا ويتيكر، مديرة لمهرجان لندن السينمائي، وهو المنصب الذي قضت فيه أكثر من عشر سنوات.

كانت شيلا يهودية بريطانية، ولم تكن تتمتع بجاذبية البريطانيات الشكلية بوجه عام، وكانت متجهمة معظم الوقت، يأتيك صوتها مثل الصفير، وتتدافع كلماتها من بين أسنانها في سرعة وحدة، وكانت معروفة بانتمائها لليسار التقليدي، كما كانت أيضا من معسكر نساء “الفيمينزم” feminism أي الحركة النسائية المتعصبة للمرأة ضد كل ما يتعلق بالرجل (باستثناء الرجال الذين يؤيدون الفيمينست feminist بالطبع، أو على الأقل، يتظاهرون بتأييدهن ضد أنفسهم!). وكانت ترتبط بصداقة خاصة مع الممثلة الشهيرة جولي كريستي، ولم تتزوج طيلة حياتها كما لم تنجب أطفالا.

شيلا ويتيكر

وقد سجلت مقابلتين مع شيلا الأولى للصحافة في أوائل التسعينيات عام 1991، والثانية لتليفزيون بي بي سي العربي في 1995. وكنت أتطوع أحيانا بترشيح الكثير من الأفلام العربية، وكانوا وقتها في المهرجان يخصصون قسما للأفلام التي تنتمي- حسب التعبير المفضل لدى الإنجليز- إلى “الشرق الأوسط”، كما كان هناك اهتمام كبير عموما بسينما العالم الثالث أوالقارات الثلاث، وكان هذا الاهتمام موازيا للاهتمام السينمائي الكبير بشراء وعرض هذه النوعية من الأفلام التي تمتلك الكثير من التحف الفنية التي لا تنسى، على شاشة القناة الرابعة البريطانية التي كانت قد بدأت البث عام 1984، وميزت نفسها بالانفتاح الكبير الذي أبدته على ثقافات العالم غير الناطق بالانجليزية، ودعمت إنتاج الكثير من الأفلام لمخرجين مرموقين في أفريقيا وآسيا وامريكا اللاتينية من خلال الشركة التي أنشأتها لإنتاج الأفلام (فيلم بور انترناشيونال). ومن ضمن التحف التي كانت تعرض في مهرجان لندن وتشتريها القناة الرابعة لتعرض على شاشة التليفزيون بعد فترة وجيزة أفلام مثل “التانجو.. منفى جارديل” (1985) Tango.. The Exile of Gardel للمخرج الأرجنتيني الكبير فرناندو سولاناس (صاحب بيان السينما الثالثة الثوري في الستينيات مع زميله أوكتافيو جتينو Octavio Getino) وكان هذا الفيلم مفاجأة مدهشة بالنسبة لي، فقد كان عملا فنيا رفيعاينتمي لسينما الواقعية الشعرية رغم خلفيته السياسية الواضحة، وكان يستخدم وجود عدد كبير من “المنفيين” السياسيين من الأرجنيتن في باريس (ومنهم سولاناس نفسه) منذ استيلاء العسكريين على السلطة في الأرجنتين في إنقلاب دموي عام 1976 بعد إطاحتهم بحكومة إيزابيل بيرون،  إلى أن عاد في 1983 بعد عودة الديمقراطية الى الأرجنتين. وكان فيلم “تانجو” مختلفا تماما عن أسلوبه الذي حفظناه عن ظهر قلب في فيلمه الوثائقي الشهير “ساعة الافران” (1968) الذي كان فيلما ماركسيا تعليميا أقرب إلى سينما التحريض السياسي من خلال استخدام المونتاج التحليلي الجدلي مع عرض الكثير من المعلومات والبيانات عن استغلال “الإمبريالية الأمريكية” لموارد الأرجنتين بالتعاون مع الطبقة المسيطرة.

أخرج سولاناس فيلما فنيا آخر هو فيلم “الجنوب”El Sur  عام 1992، وهو أيضا فيلم “سياسي” واقعي لكنها تلك الواقعية السحرية اللاتينية المعروفة. وقد تعرض سولاناس في بلاده بعد عودته بسنوات (في أوائل التسعينيات) لمحاولة إغتيال حينما أطلق مجهولون (من عصابات الفاشية اليمينية) الرصاص عليه فاصيب إصابات خطيرة لكنه نجا بينما قتل مصوره. وقد دهشت عندما علمت بعد ذلك (في 2009) أنه رشح نفسه في انتخابات الرئاسة الأرجنتينية وجاء ترتيبه الخامس في عدد الأصوات، ثم أصبح نائبا في البرلمان عن الحزب الاشتراكي الذي ينتمي إليه.

من تلك الأفلام التي إشترت القناة الرابعة حقوق عرضها بعد أن استقدمها مهرجان لندن السينمائي، والتي أعتقد أنه يجب على كل عشاق السينما مشاهدته: الفيلم المكسيكي “إيرانديرا” (1983) Eréndira للمخرج البرازيلي روي جيرا عن قصة جابرييل جارثيا ماركيز وهو من الأفلام التي عرضها مالكولم في دورة 1984. وكنا نستطيع وقتها تسجيل ونسخ كل هذه الأفلام البديعة من التليفزيون مباشرة على شرائط الفيديو التي كانت وقتها اختراعا حديثا خلابا.

أما شيلا ويتيكر فقد نقلت المهرجان في اتجاه أن يصبح مهرجانا أكثر جماهيرية مما كان، في خطوة أبعد مما فعل سلفها مالكولم، واهتمت كثيرا بالسينما الأمريكية المستقلة وبالسينما الفرنسية بوجه خاص، كما نجحت في دعوة الكثير من النجوم الأمريكيين، لكن المهرجان ظل محتفظا بالطابع الرصين الذي يهتم أيضا بالجوانب الثقافية. ولم تتمكن شيلا أبدا من تخصيص قاعة لعروض الصحافة على غرار المهرجانات الكبرى.

في 1988 افتتح متحف الصور المتحركة كامتداد لمبنى “دار السينما البريطانية”، (أو كما يسميها البعض “مسرح الفيلم القومي”) وقد إحتل الفراغ الفضاء الواقع أسفل جسر ووترلو الشهير، وأضيفت بالتالي قاعة ثالثة للعروض الى قاعات المهرجان في تلك الدار ضمن مبنى المتحف، لكنها قاعة صغيرة لا تتجاوز الخمسين مقعدا. والمؤسف أن متحف الصور المتحركة الذي نجح كمشروع ثقافي ورسخ في مدن أخرى مثل نيويورك وميونيخ وبرلين وباريس وغيرها، فشل في لندن في تغطية تكاليف إدارته والإشراف عليه، فأغلق وتم هدم مبناه وأعيد تصميم المنطقة بحيث أصبحت تضم مطاعم ومقاهي ومكتبة سينمائية ومكانا للقاء النقاد والصحفيين أثناء المهرجان لكنه مكان ضيق ومغلق لا يتسم بنفس ما كانت عليه الأماكن التي كنا نلتقي فيها في التسعينيات مثلا، ومنها باخرة ترسو على ضفة التايمز كانت تقدمها إحدى شركات الشمبانيا الداعمة للمهرجان!

ظلت شيلا تدير المهرجان مع مجموعتها الخاصة من نساء “الفيمينزم”، لمدة عقد كامل إلى أن تقاعدت، ثم أعاد مهرجان دبي السينمائي اكتشاف خبراتها وعلاقاتها، فقام بتعيينها مسؤولة عن إعداد برنامج الأفلام الأوروبية والأمريكية بالمهرجان، واستمرت في العمل مع المهرجان إلى حين وفاتها أخيرا في أغسطس 2013.

لقاءات في المهرجان

كنا نجتمع في مهرجان لندن سنويا، أنا ومعي صحبة من الأصدقاء والصديقات، في نادي الصحفيين الذي كان المهرجان يخصصه كمكان للقاء الصحفيين والنقاد كل ليلة، سواء مع بعضهم البعض أو مع السينمائيين، في أجواء ودية مليئة بالصخب والضحك وتبادل الحكايات والأقاويل والتعليقات دون أن تشهد أي حالة من حالات التوتر التي يجليبها معهم عادة الدخلاء والمتطفلين. وكان يأتي الكثير من السينمائيين العرب منهم من قابلته للمرة الأولى مثلا مثل المخرج التونسي نوري بوزيد الذي جاء إلى المهرجان عام 1986 مع فيلمه “ريح السد” بصحبة المنتج الراحل أحمد نور الدين عطية الذي ربطتني به علاقة صداقة امتدت بعد ذلك، أي بعد ان أصبح من كبار منتجي السينما الأخرى في العالم العربي، وكانت وفاته المفاجئة بعد معاناة مع المرض عام 2007 صدمة كبيرة لي ولنا جميعا، وكان قد إبتعد عن الأنظار لفترة بسبب مرضه.

دار السينما البريطانية على الضفة الجنوبية لنهر التايمز

أتذكر زيارة خيري بشارة إلى المهرجان عام 1987 بصحبة فيلمه الأشهر “الطوق والإسورة”، وقد جاء من القاهرة عبر إسبانيا، وكانت أصداء اعتصام السينمائيين ضد القانون 103 سيء السمعة الذي كان يفرض قيودا على حركة الإبداع قد وصلت إلي في لندن، وتناقشنا طويلا حول الاعتصام وأهميته، وكان الاعتصام في نقابة السينمائيين موجها ضد سعد الدين وهبة الذي كان نقيبا في ذلك الوقت، لكن سعد وهبة تمكن فيما بعد من احتواء غضب كل السينمائيين الذين ثاروا عليه وجعلهم من أشد المدافعين عنه. المهم أن المهرجان استضاف خيري أربعة أيام كعادته مع المخرجين إلى أن ينتهي عرض فيلمهم مرتين، بعد ذلك نزل خيري  في ضيافة عادل درويش في منزله الذي كان منزلا كبيرا قديما من منازل لندن المميزة بطابعها “الفيكتوري” العتيق، وكان يقع في أحد احياء شمال لندن. وكان عادل قد اشتراه حديثا (بنظام التمويل العقاري الإنجليزي) وأخذ يجري عمليات التحديث عليه. ولكني كنت أقيم في شقة صغيرة مفروشة متواضعة، انتقل إليها خيري حيث قضى على ما أتذكر يوما أو يومين معي، وظل يردد دائما كيف أنه شعر بالارتياح في تلك الشقة الصغيرة عن ذلك البيت الكبير، وكان معجبا بوجه خاص، بالنظام الشديد الذي أفرضه داخل الشقة، والنظافة، وكانت صاحبة المنزل التي تؤجر لي تلك الشقة بولندية، وهو ما انعكس على ذوقها في اختيار وترتيب قطع الأثاث ربما، الأمر الذي لفت نظر خيري بشدة – وأعجبه- كونه عاش في بولندا بل وتزوج أيضا من هناك زوجته مونيكا التي لاتزال تقيم معه في القاهرة، لم ينفصلا يوما حتى الآن. وحتى اليوم أيضا كلما التقينا أو تحدثنا، يذكرني خيري بشارة بأيام لندن وشقة لندن التي إنتقلت منها بالطبع منذ أكثر من 23 عاما!

وعند مناقشة الجمهور لفيلم خيري بعد عرضه في المهرجان، كان من الواضح ان معظمهم لم يفهم موضوع الفيلم ولا مغزاه فقد تركزت اسئلة الكثيرين منهم على مسألة قتل الكلب بالرصاص في الفيلم وكيف يحدث ذلك وهو أمر غير إنساني.. إلخ ولم تكن إجابة خيري مقنعة بالنسبة لهم أو هكذا بدا على وجوه معظمهم، فقد قال إنهم قاموا بتخدير الكلب للإيحاء بأنه قد قتل!!

جاء يوسف شاهين أيضا إلى المهرجان يعرض فيلمه “إسكندرية كمان وكمان” عام 1990 كما أتذكر، وكانت لنا جلسات ممتعة معا، لكنه مثلا لم يحضر عرض فيلمه الشهير “الوداع يابونابرت” عدما عرض في قاعة كوين اليزابيث هول عام 1984، وهي القاعة التي شاهدت فيها نسخة مستعادة من الفيلم السوفيتي الشهير “المدمرة بوتمكين” لأيزنشتاين مصحوبا بعزف حي من أوركسترا أمستردام السيمفوني، وكان عرضا لا ينسى أبدا. وكانت ماريان خوري قد زارت المهرجان في 1987 مع فيلم شاهين “اليوم السابع”. وعموما كانت أفلام شاهين تعرض بانتظام في دورات المهرجان نظرا لما يتمتع به من شهرة في العالم الخارجي وربما أيضا بسبب سهولة الحصول على نسخ أفلامه من الطرف الفرنسي المشارك في الإنتاج بينما كان من الصعب الحصول على النسخ السينمائية (مقاس 35 مم) من مصر بسبب القيود البيروقراطية والرقابية التي كان أجهزة الدولة تفرضها في ذلك الوقت، بل وكانت تعتبر أفلام شاهين تحديدا، أفلاما مسيئة لصورة مصر، كما كان يكتب بعض النقاد، منهم خيرية البشلاوي التي تميل في كتاباتها عادة إلى الإنشائية والمشاعر القومية المتعصبة وهو ما يعتقد بعض الكتاب أنه دليل على حب مصر في حين أنه في الحقيقة، يعد اكبر إساءة إلى مصر!

مع خيري بشارة

التقيت في الثمانينيات أيضا بالمخرج التركي الموهوب عمر زولفو ليفانللي صاحب الفيلم الراوئي البديع “أرض حديدية وسماء نحاسية” Iron Erath, Copper Sky(1987 وهو أساسا ملحن ومغني شهير في بلاده، وأيضا روائي وصحفي يساري. وقد أدرت معه مقابلة طويلة نشرت في ذلك الوقت في إحدى الصحف العربية التي كانت تصدر من لندن، قدمته من خلالها للمرة الأولى، إلى القراء العرب في العالم العربي.

وقابلت كاتب سيناريو إيطالياً غريب الأطوار يدعى توماسو، ولا أتذكر إسمه الثاني، بل أتذكر فيلمه وكان بعنوان “توماسو بلو”، وهو فيلم فوضوي عن رجل مهووس جنسيا، رافض للتكيف مع حياة المدينة، حتى أنه يذهب في جموحه إلى حد التماثل مع الكلاب، يصاحبهم وينبح مثلهم، وأصبح يفضل صحبتهم على صحبة البشر. وكانت الكلاب منتشرة بشدة في الفيلم. وكان الفيلم من إخراج مخرج ألماني رصين للغاية على العكس من توماسو، الذي كان أيضا على ما يبدو، قد وجد نفسه في مهرجان سينمائي دولي كبير للمرة الأولى، وهو القادم من منطقة ريفية في جنوب إيطاليا، وكان يحتسي الشراب بغزارة، ويلح علي أن أرسل فيلمه إلى مهرجان القاهرة السينمائي لأنه يريد بشدة أن يذهب إلى القاهرة- وليس إلى المهرجان بشكل خاص- وأظن انني أرسلت ليوسف شريف رزق الله الذي كان وقتها يتعاون مع سعد الدين وهبة في تنظيم المهرجان، لكن لا أعتقد أن الأمر لقي صدي هناك. وقد كتب توماسو سيناريو الفيلم مستهلما على ما يبدو، تجربته الخاصة وفشل علاقته الزوجية وولعه الخاص بالنساء بشكل يذكرك بشخصية “ياسين”- زير النساء- التي جسدها عبد المنعم ابراهيم في فيلم “بين القصرين” عن رواية نجيب محفوظ بالطبع. لكن ينبغي أن أستطرد لأقول إن الفيلم كان جيدا جدا، وقد سجلت أيضا مقابلة مع مخرجه الألماني (لا أتذكر إسمه حاليا لكن المقابلة منشورة ومحفوظة في أرشيفي الذي ليس في متناول يدي الآن!). وقال لي المخرج إن ما أعجبه في سيناريو توماسو تعبيره عن الفلسفة “الكلبية” التي كانت موجودة عند الإغريق قبل ألفي عام، وهي تتلخص في التخلص من كل القيود المفروضة على الإنسان، إلى أن يتماهى مع الحيوان وينطلق بلا قيود ليمارس حياة بسيطة تلقائية!

عن الشلة

كانت صحبتنا في الثمانينيات، تجمع الكثير من الشخصيات المثيرة للاهتمام، ومنها شخصية ممثلة “يوغسلافية” شديدة الفتنة والجمال تدعى “ريالدا”، كان وجودها بيننا بوجه خاص، مثار حسد لكل من الرجال والفتيات.. فقد كانت الفتيات يغرن منها ومما تحظى به من اهتمام، وكانت الأنظار تتطلع إليها، وكان الرجال يشعرون بالإحباط بسبب تفضيلها الجلوس معنا والإعراض عن عروضهم المغوية، وكان منهم بعض منتجي الأفلام، في حين كنا نحن مجموعة من الكتاب والنقاد المتواضعين الذين لا يملكون ربما سوى ثمن المشروبات التي يتناولونها. وكانت ريالدا قد جاءت حديثا الى لندن بعد أن تزوجت من شاب يوغسلافي كان يعمل في القسم الصربو- كرواتي بالإذاعة البريطانية العالمية.. لكنها لم تكن سعيدة، وكانت تعاني من مرض ألم بها في العمود الفقري كان يتطلب منها مراجعة أطباء العلاج الطبيعي في يوغسلافيا، وكانت تجد الوقت أيضا، للعودة إلى بلدها للقيام أحيانا ببعض الأدوار في السينما أوالتليفزيون. كان هذا في 1987 و1988 قبل أن تتفكك يوغسلافيا وتتحول إلى بلدان عدة مفككة، أنهكتها الحروب الأهلية التي إشتعلت في التسعينيات.

عادل درويش 

كانت تأتي أيضا ممثلة إنجليزية شابة مبتدئة، شاهدناها في أحد الأفلام الجديدة التي عرضت في المهرجان، وانضمت إلى المجموعة، وكانت تعاني من عدم الثقة في نفسها، تريد ان يؤكد لها الآخرون طيلة الوقت، أنها يمكن أن تكون ممثلة جيدة وناجحة ومشهورة في المستقبل. وكانت تعمل في المسرح أساسا وهو المدرسة التي يتخرج منها الممثلون العظام جميعا في بريطانيا. ولا أعرف مصيرها حاليا. وكان ينضم إلينا ناقد سينمائي اسكتلندي يدعى جون ماريوت، كان يملك جسد مصارع، وكان دائم البحث عن الفتيات الحسناوات، يطاردهن في كل مكان، ولكنه كان يشعر أيضا بنوع من الغربة عن أجواء العيش في لندن وهو الذي ينتمي إلى مدينة أبردين، التي ربما تكون أبعد نقطة إلى الشمال على خريطة الجزر البريطانية. وكان جون ماريوت يغطي المهرجان لصحيفة توزع فقط في تاكسيات لندن، أي أنها تتوجه إلى ركاب التاكسيات. وكان هذا مثار تندر من جانبنا بالطبع، ولم يكن يعجبه هذا بل كان يصر على أن ما يكتبه مقالات محترمة في النقد، لكنه كان يميل أكثر إلى الأفلام التجارية الشعبية خصوصا الأمريكية، وكان تعمقه في السينما محدودا للغاية وكانت صديقته “روزماري” تتمتع بذهنية أكثر انفتاحا منه، كانت تقبل على المناقشات بسعة صدر ولم تكن لديها أي عقد “عنصرية” أو إستعلائية مما يوجد لدى الكثير من مثقفي بريطانيا وأبناء طبقتها الوسطى خصوصا. وقد أصبح ماريون فيما بعد من “المحللين” الذين يظهرون على شاشة التليفزيون في برامج مخصصة للسينما، وقد إنتقل للعمل في قسم الدعاية في إحدى شركات الإنتاج البريطانية الواقعة في “دين ستريت” في قلب لندن. محظوظ حقا!

كانت بيننا “ريتا” الهندية الأصل المستقرة في لندن وكانت مثقفة رفيعة ومرهفة الحس، و”جالينا” البلغارية المتزوجة من روجرز الذي كان موظفا في أرشيف الفيلم البريطاني، وكانت هي نفسها قد غادرت بلغاريا حيث كانت تعمل في مؤسسة السينما الحكومية هناك في زمن “الستار الحديدي” بالطبع. ولعل من أطرف الشخصيات التي عرفناها في تلك الفترة، شاب هندي يدعى “راكيش” كان يحوم حولنا باستمرار، يحاول دائما أن يفرض نفسه علينا، يدعو نفسه على الشراب والطعام بلا أدنى تردد، يتدخل في الحديث بدون مناسبة، يحاول لفت الأنظار إليه طوال الوقت، يعرض تقديم خدماته للجميع، يحاول أن يبدو كريما ومهزارا، وكان معظمنا ينزعج منه أحيانا بسبب إلحاحه على لفت الأنظار وتدخله فيما لا يعنيه، والتطوع بالإفتاء فيما لم يطلب منه أحد رأيا. وكان يذكرني بشخصية قام بها الممثل الإنجليزي العبقري بيتر سيلرز في الفيلم الشهير “الحفل” The Party من عام 1968 (وهو من الأفلام التي لا ينبغي أن تفوت أي مهتم بالكوميديا السينمائية فهو أحد كلاسيكيات الكوميديا التي برع في إخراجها في الستينيات المخرج الأمريكي بليك إدواردز). ويجب أن يشاهد القاريء هذا الفيلم لكي يدرك ما أرويه هنا عن “راكيش”، وفيه يقوم بيتر سيلرز بتمثيل شخصية ممثل هندي  ثانوي جاء من الهند إلى هوليوود للقيام بدور في فيلم أمريكي، لكنه يفسد كل المشاهد التي يظهر فيها بل ويخرب الديكور ويتسبب في تفجيره بجهله وسذاجته مما يؤدي إلى تكبد المنتج خسائر فادحة، فيأمر بوضعه في قائمة سوداء ويصبح محظوراعليه العمل في هوليوود مدى الحياة، لكنه بطريق الخطأ- يدعى إلى حفل في منزل منتج الفيلم حيث يعبث بما لا ينبغي العبث به، ويتسبب في الكثير من المواقف المحرجة للمدعوين والفوضى التي تصل إلى حد العبث السيريالي، بينما يبدو دائما، محتفظا بهدوئه وابتسامته الواثقة مع هزة رأسه التي تعكس إخيتاله بنفسه، كأنما يغيظ الآخرين عن عمد بينما هو في الحقيقة أكثر براءة منهم جميعا!

لم يكن راكيش بالطبع يتمتع بخفة ظل بيتر سلرز في شخصية “هوروندي باكشي” بطل “الحفل”، فقد كان نهازا للفرص، يريد أن يقتنص أي فرصة للحصول على ما يريد دون أن يدفع أي ثمن. والغريب أنني قبلت فيما بعد دعوة منه للذهاب إلى “بيته” بعد إصراره على دعوتي لتناول “العشاء”. وقال لي إنه يقيم في حي هامستيد الراقي في لندن الذي لا يسكنه إلا كبار الأدباء والفنانين والشعراء والسينمائيين. وربما كان هذا مما أثار شهيتي لمعرفة كيف يدبر هذا المغامر الصعلوك، تكاليف العيش في حي هامبستيد!

وعندما بحثت عن العنوان وجدت نفسي أمام منزل فخم للغاية من الخارج، مبني على الطراز الفيكتوري. وضعت يدي على الجرس فجاء راكيش وقادني عبر ممرات طويلة في الطابق الأرضي، إلى أن وجدت نفسي داخل شقة مدمرة بالكامل. الجدران عارية تماما تستطيع أن ترى الطوب الذي شيدت منه وقد تآكل، والرطوبة منتشرة في كل مكان.. الأرضيات عارية جافة صخرية باردة، والأثاث تقريبا لا وجود له.. هناك موقع حقير في ركن من أركان تلك المتاهة عرفت بصعوبة أنه يمكن أن تكون المطبخ، وبعض الاواني المكشوفة التي تشك في أن الفئران قد تقبل عليها ليلا للبحث عن نصيبها من بقايا الطعام أو ربما تتصارع مع قاطني الشقة من أجل انتزاع بعض الفتات، وقد وجدت أن سكان هذا المكان ستة أشخاص. كانت رائحة الكاري منتشرة، وكان راكيش سعيدا بإنجازه الكبير في صنع وجبة يعتقد انها شهية للغاية. لكني اعتذرت عن عدم تناول الطعام واكتفيت بتناول مشروب يمنحني بعض القدرة على استيعاب الموقف. والموقف باختصار – كما حكى لي راكيش نفسه- يتلخص في أنه وأصدقاءه- استولوا على هذا المكان بعد إقتحامه وأقاموا فيه بعد أن كان قد تناوب على العيش فيه عشرات الأشخاص من قبل، وبعد أن أهمله أصحابه الاصليون الذين ربما يكونون خارج البلاد. وهذا ما يعرف في بلاد الإنجليز بالـ Squatting أي الإقامة في منزل هجره أصحابه. وهو شكل “قانوني” أي يسمح به القانون الانجليزي (في اسكتلندا يختلف الأمر!) ولا يمكن لصاحب المنزل الذي استولى عليه الغرباء طردهم منه طالما أنهم لا يجدون أين يقيمون، وعادة ما يفشل هؤلاء في توصيل الخدمات مثل الكهرباء والغاز، لذلك كانت شقة “راكيش” مظلمة، وكان يطهي الطعام على موقد خاص يعمل باسطوانة. وقد علمت أخيرا بصدور قانون في أواخر 2012 فقط، يجرم هذا الاستيلاء على بيوت الآخرين بعد أن ظلت تلك الممارسة قائمة منذ القرن السابع عشر، وارتبطت بالحركات الفوضوية وبالذين فقدوا منازلهم في الحرب العالمية الثانية، وكانت الدولة عاجزة عن توفير منازل لهم.

مع مطلع الألفية الثالثة، كان مهرجان لندن السينمائي يمر بمرحلة جديدة تماما، كما كانت السينما ووسائل الاتصال عموما- تمر بطفرة ستنعكس على طريقتنا جميعا في استقبال الأفلام وفي التعامل مع المهرجانات ومع السينما.. بل ومع البشر أيضا. وهذا موضوع آخر!

Visited 38 times, 1 visit(s) today