تأويل النص الأدبي في السينما المصرية

فريد شوقي في فيلم "قلب الليل" فريد شوقي في فيلم "قلب الليل"
Print Friendly, PDF & Email

قراءة في ثلاث تجارب سينمائية

يمتاز النص الروائي القصصي بسمات أسلوبية وبلاغية ودلالية غنية بالممكنات التأويلية المختلفة. لا يكتفي الروائي، تعيينا، بحصر الدلالات والممكنات التأويلية، بل غالبا ما يميل إلى تنويعها وتكثيرها، لإضفاء سمات الغنى والخصوبة على متخيله السردي.

 ولذلك لا يمكن للمعالجة السينمائية أن تستثمر كل الإمكانات الدلالية والإيحائية والرمزية للنص الروائي، وإلا ضاع السرد الفيلمي في متاهات سردية وتأويلية وافتقر إلى التناسق منظورا ورؤية.

لا يمكن الالتزام بدقائق النص الأدبي في أية معالجة درامية –سينمائية مبدعة إذ للنص الأدبي، ممكنات دلالية قابلة لتأويلات مختلفة. ومن الطبيعي، أن يميل كتاب السيناريو والمخرجون، إلى توظيف آليات مختلفة في التعامل مع النص الأدبي وتأويله، تبعا لمنظورهم واختياراتهم الجمالية والفنية، أو للإمكانات الإنتاجية والتقنية المتوافرة، أو لرهانات السياق السياسي-التاريخي، أو لحيثيات التسويق والترويج والتداول.

وللتدليل على ما سبق، سنرصد بعض الآليات المعتمدة في قراءة السرد القصصي والروائي وتأويله في ثلاث تجارب سينمائية مصرية ناجحة.

“حادثة شرف”(1971)

تمكن المخرج شفيق شامية، من استثمار ممكنات قصة ” حادثة شرف ” ليوسف ادريس في فيلم “حادثة شرف” (1971)، وتعميق خطها الدرامي من خلال إضافة تفاصيل درامية كثيرة.

لقد احترمت المعالجة الدرامية، أفق النص القصصي وطورت ممكناته، وأولته بما يدعم رؤية ومنظور المخرج.

لقد التزمت المعالجة السينمائية المقدمة للقصة بثلاث سمات:

1-الالتزام بالخط الدرامي الرئيسي.

اكتفت المعالجة الدرامية، بالخط الدرامي الرئيسي ولم تعمد إلى تكثير الخطوط الدرامية.

تتمحور القصة المقدمة حول مسار بنات/ زبيدة ثروت وتحولها من البراءة والعفوية والغفلة إلى التصنع وإدراك التعقيد ومعرفة الموانع وطرق التحايل عليها.

تكتنف مسار بنات مسارة تراجيدية، تنتهي لا بإدماجها كما في كل المسارات الثقافية المعتادة، بل بوضعها خارج النسق الثقافي.

تكشف مأساة بنات عن لعنة الجمال والجسد في وسط فلاحي، وعن صعوبة التعايش ثقافيا معهما وقبولهما بما يضمن الاندماج في النسق الثقافي ويجنب الشباب التواق إلى الحب والعشق واكتشاف الآخر الازدواجية في الفكر والسلوك   أو الانحراف المحتمل.

يقود رهاب الجسد والحب، وخشية العيب إلى التشدد في التحري والاتهام والفحص عن أدلة البراءة، مما يفقد الفرد ثقته في سلامة النسق الثقافي، فيرتضي الازدواجية مسلكا، والتصنع الماكر سبيلا، والخرق قانونا.

(.. كانت قد فقدت براءتها، وأصبحت تستطيع أن تنظر دون أن تنظر، وتضحك دون أن تريد، وتريد الشيء وتخفي رغبتها فيه.) 1(1)

إن مسارة بنات مسارة معكوسة، إذ بدل أن تؤهلها لفهم الرغبة وتكييفها عبر المعرفة والانفتاح على الآخر وتمثل القواعد والمعايير المقررة، طوحت بها في مهاوي التيه الوجداني والعاطفي والنفساني.

(أعتقد أنهم لا يزالون يسمون الحب هناك “العيب”. ولا بد أنهم لا يزالون أيضا يتحرجون عن ذكره علانية، ويتغامزون به، وإنما تلمحه في النظرات التائهة الحيرى، وفي وجنات البنات حين تحمر وتخضر وتنسدل عليها الأجفان. ) (2)

2- إضافة عناصر وتفاصيل ودقائق غير موجودة في النص القصصي.

تمت إضافة تفاصيل كثيرة غير موجودة في النص الأصلي (خطوبة شعبان لبنات ورقصها في العرس وسعي فرج إلى تزويجها من غريب ورفضها الجازم الزواج به ورفض أم جورج -زوجة الناظر-تشغيل بنات في منزلها … إلخ).

3-حذف أو تعديل عناصر أو تأويل أخرى تأويلا أحاديا بما يتماشى مع مقتضيات السرد الفيلمي.

لا يمكن الاحتفاظ بكل تفاصيل ودقائق النص القصصي، بل لا بد للمعالجة الدرامية من حذف أو تعديل أو تغيير بعض العناصر، تبعا لمقتضيات الكتابة السينمائية ورؤية المخرج وقدرات وكفاءات الممثلين والإمكانات التقنية والإنتاجية المتوافرة.

وحرصا من المخرج على تقديم شخصيات محددة السمات والصفات ودقيقة الملامح ومتناسقة مع مجرى الأحداث، تم إفقار شخصية فرج/ شكري سرحان، باستبعاد بعدها المرح والضاحك والصاخب.

(…ولكن فرج دائما هناك، لا بد يتردد في أذنك صدى ضحكة عريضة تأتيك من بعيد وتذكرك أنه هناك، وأنه عيب، وتعود حينئذ إلى صوابك، فتذهب لتخطف العصر، أو تتمشى لتشرب شايا عند الدكان) (3)

إن شخصية فرج في القصة أكثر ثراء وتعقيدا ودرامية؛ ففرج يخلق “دين المعنى” لدى معارفه بفضل حسه الاجتماعي العالي وتألفه الآخرين من خلال الضحك والهزل والتودد إليهم؛ كما أنه مصاب بالتوجس بل بما يشبه الرهاب من فرط خشيته من الشرور المتولدة عن الافتتان الجماعي أو الفردي بالجسد والجمال في محيط فلاحي فقير. وقد اكتفت المعالجة السينمائية، بتقديم فرج في صورة إنسان خدوم ومسؤول وجاد، ومتوجس من جمال أخته وعفويتها.

كان من الضروري، إذن، تكييف بعض الشخصيات حتى تساير منطق ومسار الأحداث المضافة وسمات الممثلين ورؤية المخرج.

تفرض السينما الحد أحيانا من انفتاح الأدب واتساعه للاحتمال والترجيح والتناقض والتعدد والتضارب، واختيار تأويل أوحد للأحداث والوقائع والمواقف. كما يفرض تماسك النسق الفيلمي وتناسق المعالجة الدرامية، تثبيت الدلالة الصريحة المعلنة واستبعاد الدلالات المحتملة أو المضمرة أو المسكوت عنها.

(.. لعله في نوع الكلمات التي كان ينتقيها[يقصد عبدون] ليشتم بها ابنه[يقصد غريب]، كان هناك شيء ما لا بد تلمحه وتحس معه أنه في أعماق نفسه غير خجل من ابنه،  بل أكثر من هذا، ممكن أن يكون فخورا أن ابنه هو الذكر وأنه هو المتهم بالفتك) (4)

لقد استبعد الفيلم المسكوت عنه والضمني والمحتمل واللاشعور الفردي، وأبقى على الظاهر.

 “قلب الليل “(1989)

من الصعب تقديم معالجة سينمائية غنية لنص سردي ذي حمولات فكرية مثل رواية ” قلب الليل ” لنجيب محفوظ. ويتمثل تعقيد هذه الرواية في انفتاح عوالمها الدلالية، ورصدها لتطور الوعي الإنساني ومأساة العقل الإنساني من خلال مسار إنسان ارتضى الحرية والعقل وإنقاذ البشرية موجهات ومحددات وجودية. ترصد الرواية تطور وعي جعفر الراوي، وتنقله بالطفرة – غالبا من الخرافة إلى الدين ومن الدين إلى العقل ومن العقل إلى المأساة.

تكشف الرواية في الحقيقة نقائض العقل ومفارقات الحرية ومأساة المثقف الأيديولوجي.

فقد فضل جعفر الراوي الحرية وحياة الحارة على الخضوع والانقياد لإرادة الآخر وسلطانه ونعيم الحياة الهنية.

(جدي.. إني أرفض .

ترفض نعمتي؟

– ارفض القهر

– ولو كان مني؟

– ولو كان!

-أ نت عاق، تخون الجمال والنقاء، في سبيل ماذا؟

– الحرية!) (5)

لقد آمن جعفر -بعد الحرية- بالعقل وسلطانه وبضرورة تنصيبه حكما أعلى، ومدبرا أكبر للسلوك البشري، وآمن بإزاحة الغرائز والعواطف بعد أن خبرها في حياته الزوجية العاصفة مع راعية الغنم الغجرية مروانة.

(إذن فقد عشقت العقل وحلمت طيلة الوقت بسيادته المطلقة باعتباره أشرف هدية إلهية لنا، أحلم بألا يكون لنا من محرك إلا العقل، ولا هدف إلا العقل، ولا سلوك إلا من وحي العقل، أحلم بحياة عقلية خالصة يستوي العقل فيها على عرش السيادة على حين تستكن الغرائز على أرض الطاعة والعبودية.. ) 6-

إلا أن هدوء العقل وبرودته سيصطدمان برغبته في التحدي ومنافسة الأقران (المحامي سعد كبير) وتقديم بديل فكري –إيديولوجي ينتشل الإنسانية من بؤسها. وحين تتسلل العواطف من شقوق العقل (الغيرة والصراع الحاد ورفض أفكار ومواقف المحامي الشيوعي سعد كبير)، تقع المأساة، ويصير الحالم برسالة منقذة للبشرية قاتلا.

ركزت المعالجة السينمائية على بعد الحرية وأغفلت بعد العقل، علما أن مأساة جعفر سيد الراوي نابعة من عدم قدرة عقله على تعقل النقائض والمفارقات وعلى احتواء الغرائز والعواطف العاصفة. ففيما رام إنقاذ الإنسانية من خلال التنظير( رسالة قائمة على ثلاثة أسس : أساس فلسفي ومذهب اجتماعي وأسلوب في الحكم ) والعمل ( إنشاء حزب )، فإنه أغفل خطورة اللامعقول السياسي والإيديولوجي وضرورة التفكير فيهما قبل منافسة الشركاء والأنداد.

رصدت المعالجة المقدمة تحرر جعفر الراوي / نور الشريف، والوعي الإنساني عموما، من الخرافة /الأسطورة ومن سطوة التراث (التمرد على الجد سيد الراوي والخروج من البيت الكبير والحديقة) ومن سيطرة الغريزة والعاطفة ( الافتتان بمروانة الغجرية والزواج بها ) ومن هناءة الحياة  البورجوازية. وقد دفعه امتلاؤه بالحرية وتمرده على وضعه الطبقي (الإقطاعي/ البورجوازي )  والرغبة في إثبات الذات والتغلب على تناقضاته الذاتية، إلى التطلع إلى  تقديم رسالة إنقاذ للبشرية، مستقاة من الشريعة والثورة الفرنسية والثورة الروسية.

التزمت المعالجة الدرامية بمجرى السرد، والخط الدرامي الصاعد من الطفولة إلى ما يشبه” الدروشة”.

وفرضت خصائص المعالجة السينمائية ومقتضيات الإخراج والإنتاج، إعمال مجموعة من الآليات في قراءة الرواية.

1-آلية الاختزال

 ولئن ركزت المعالجة السينمائية على ترقي جعفر الراوي / نور الشريف في درب الحرية وانتهائه إلى المأساة والتيه والذهول، فقد اتسعت المعالجة الروائية لثيمات وموضوعات وإشكاليات كثيرة: الحرية / القهر، العقل / العاطفة-الغريزة، الإيمان/ العقل، التركيب النظري / الشيوعية –الماركسية، الانقياد للتقليد والتراث /التمرد وتحقيق الذات، الذاكرة الفردية / الذاكرة الجماعية … إلخ.

(.. فاللغة التي تستجيب لها الملايين ما تزال هي لغة العواطف والغرائز، أغاني الجنس والوطن والعنصرية والأحلام السخيفة والأضاليل، هذه هي المأساة العامة، ولن تنقشع سحبها الحمراء إلا حين يعلو صوت العقل وتتراجع الغرائز نحو الذبول والفناء .) (7)

2-آلية التحوير والتعديل والحذف:

اختار السيناريست محسن زايد حذف سعي جعفر الراوي إلى استعادة وقف جده، وعلاقته بموظف وزارة الأوقاف وجلستهما الليلية في مقهى ودود بالباب الأخضر ورفضه تقديم التماس إعانة شهرية من خيرات الأوقاف. ولئن انتهى في الرواية إلى التيه والتشرد والإقامة في خرابة الراوي، فإنه لم يفقد إيمانه الراسخ بالعقل المقدس.

(-وقف خيري، حرمان من الميراث، هكذا فعله [يقصد جده سيد الراوي] دائما مزيج من الخير والشر، ها هو يمارس سلطته ميتا كما مارسها حيا، وها أنا أكافح في موته كما كافحت في حياته.. وحتى الموت) (8)

وفيما احتفظ جعفر الراوي في الرواية بكل ألقه الفكري وأبان عن قدرة كبيرة على إعادة ترتيب أوراق ماضيه الشخصي والفكري، فإنه انتهى في الفيلم إلى التشرد والتخليط والجنون. وبينما احتفظت الرواية بمسار دائري تؤثثه توترات وتناقضات وطفرات الشخصيات، فإن الفيلم اختار مسارا خطيا يبدأ بطفولة حائرة وقلقلة وتائهة في متاهات الخوف والموت ( موت الأب والأم )وينتهي بذهول الساعي إلى إنقاذ الإنسانية عن حاله و أحوال العالم من حوله .

ولئن اجتمعت في علاقة جعفر الراوي بالمحامي الشيوعي في الرواية عناصر فكرية وسياسية ونفسانية أججت الصراع بينهما (كره جعفر الراوي للشيوعية وتسلطها السياسي و استعلاء المثقف العضوي و انزعاجه من علاقة هدى زوجته بهذا المحاور العتيد والعنيد)،فإن المعالجة السينمائية، قدمت المحامي في صورة اشتراكي منحاز إلى الفقراء والمستغلين ومحاور للصفوة الفكرية المشاركة في صالون هدى، وصديقها الدائم.

3-آلية الإضافة:

 كان من الضروري، إبراز كثير من تفاصيل البيئة الشعبية لإظهار عمق تأثر جعفر الطفل بمتخيلها الجماعي وأساطيرها. كما أضيفت تفاصيل أغنت المشهد وأبرزت الدلالة المقصودة (الكتاب واشتغال أم جعفر بالخياطة وتحميمه…)، وأخرى (صالون هدى ومشاركة شخصيات فكرية وأدبية ونقدية وازنة فيه: طه حسين و بيرم التونسي وكامل الشناوي  وسلامة موسى وانعزاله في العزبة لمدة عام كامل لإعداد كتاب/ رسالة… )  كاشفة عن مسارة جعفر الثقافية وتأجج انفعالاته وصاعه مع ذاته والصفوة المثقفة في عصره.

موانع الحرية وحدود العقل:

يعالج فيلم ” قلب الليل “، إشكالية الحرية وقدرة الفرد على التحرر من القبليات واليقينيات الجماعية والمواضعات الاجتماعية. لا تصدر موانع الحرية  في هذا الفيلم عن السلطة كما هو معتاد في سينما عاطف الطيب ( البريء وكشف المستور وملف في الآداب …. إلخ) ، بل عن كل المؤسسات الاجتماعية والثقافية، بدءا بالعائلة والمؤسسات التربوية و الثقافية والهوامش .وهكذا يصطدم جعفر الراوي / نور الشريف بسلطة العرفان ( سلطة جده سيد  الراوي / فريد شوقي )وسلطة الهوامش ( الغجر)وسلطة البورجوازية (  محيط الزوجة هدى / محسنة توفيق ) والمثقفين ( المحامي سعد كبير/  صلاح رشوان… ).

تكمن مأساة جعفر الراوي في إنشداده إلى الحرية، دون روية أو تعقل أو تفكير عميق في العواقب.إن اقترانه بالغجرية محكوم في الواقع بالغرائز وعلاقته بهدى البورجوازية المثقفة محكومة بالغيرة وغياب الثقة في الذات والتحرق إلى التفوق على الأغيار.إن جعفر الراوي متمرد حالم بعالم آخر وبطوبى إنسانية محررة للشرط الإنساني، إلا أنه لا يستوفي شروط التنظير والمعرفة العالمة، وشخصيته محكومة بالأهواء .ففيما يتمرد على سلطة الآخرين،  فإنه  لا يتمكن من تدبير سلطة أهوائه.

عالج الفيلم إذن، موانع الحرية ومأساة المثقف الانتقائي الباحث عن فعالية كونية دون أن يمتلك أدوات وآليات الفهم الشامل والتنظير العالي. إن موانع الحرية، نابعة من الموروث ( سلطة الجد سيد الراوي )واستحكام المحددات الأنثروبولوجية وتحكم الأهواء والانفعالات.

قدم السيناريست محسن زايد معالجة درامية لرواية فكرية –رمزية، متمحورة حول تطور الوعي الإنساني وحول مأساة المثقف الانتقائي. كان من الضروري، تأويل النص والتركيز على بعض المفاصل والابتعاد عن التجريد والرمزية والكنايات. إلا أن المعالجة المقدمة لم تفلح كثيرا في انتقاء العناصر الملائمة للخط الدرامي المركزي ؛فقد قاد التوسع في نثريات طفولة جعفر وفي إيراد أغنيات عاطفية غير رافدة للسياق الدرامي، إلى إفقاد  الفيلم التكثيف والزخم الدراميين والإيقاع العالي.

“يوميات نائب في الأرياف”(1969)

هل استطاع المخرج توفيق صالح أن يترجم سينمائيا زخم الأحداث وقوة الإشارات و الدلالات في رواية “يوميات نائب في الأرياف ” لتوفيق الحكيم؟ هل اكتفى الفيلم بنقل عالم الرواية، أم أعاد صياغته بما يتفق مع مقتضيات الفن السينمائي وسياقات التفاعل والتداول والإمكانات التقنية والإنتاجية المتوافرة وإكراهات الرقابة؟

تتمحور رواية ” يوميات نائب في الأرياف “حول مشكلات الريف وبؤس حياة الفلاح المصري وملابسات الحياة القضائية والسياسية المصرية في الثلاثينيات. ففيما يحقق وكيل النيابة في إصابة قمر الدولة علوان بطلق ناري ويجد في البحث عن الفتاة الجميلة ريم بعد اختفائها المفاجئ، فإنه يكثر من النقد الصريح أو الساخر من التطبيق الآلي لقانون منبت الصلة بحياة الفلاحين وأعرافهم ومعتقداتهم ورموزهم ومن مفارقات الحياة القضائية والسياسية بمصر آنذاك.

(القانون صريح وأنا مقيد بنصوص أشد من الحبال الموضوعة في أيديكم. المسألة عندي قبل كل شيء مسألة قانون” يحبس المتهمون كلهم احتياطيا أربعة أيام ويجدد لهم ويعمل لهم فيش وتشبيه”..) (9)

تفرض البيروقراطية، الالتزام بالشكل والمساطر والإجراءات المتعارف عليها إداريا (تحرير المحاضر بدقة، استعمال الاستمارة والقطرميز … الخ)، دون اهتمام جدي بالآثار الاجتماعية للإجراءات ووضع القانون في خدمة العدل والعدالة الاجتماعية. تصطدم مسلمات وضمنيات القانون العصري بمسلك الفلاح (ذبح خروف خارج السلخانة بمناسبة طهور ولد، غسل الملابس في الترعة، عدم تسجيل كلب في الميعاد القانوني، حيازة ثياب بعد إيجاد كيس في النهر، تبديد القمح المحجوز عليه..)، فتنشأ مفارقات في الوعي، ومظالم في الواقع.

(ولكن التبديد …كيف يفهم أركانه وحدوده ؟ إنما هو جريمة قانونية يظل يتحمل وزرها دون أن يؤمن بوجودها..) -10

وحين تصطدم بداهتان ويغيب التكييف تنفرد البيروقراطية برسم المصائر، وتعميق اغتراب الفلاح واغتراب الموظف الفصيح.

(إنهم يطلبون إلي أن أنظر في شكاوى الناس ولا يتنازلون هم إلى النظر في شكواي وشكوى المئات من زملائي وأجريت القلم في الأوراق أوسعها “حفظا”!.) -11

التجأ كاتبا السيناريو (الفريد فرج وتوفيق صالح) إلى آليتين في التعامل مع الرواية وتأويل أحداثها:

1-آلية الحذف

كان من الصعب الاحتفاظ بكثر من التفاصيل والدقائق والذكريات والملاحظات الأنثروبولوجية والنفسانية والاجتماعية  الواردة في الرواية ؛ولذلك فرض منطق التناسق والتماسك الفيلمي، استبعاد التداعيات (نقد نظام حلاق الصحة ونظام الدايات ) والذكريات (ذكرياته عن تجاربه الشخصية في العرض القانوني ) والتأملات حول دلالة الحياة ودونية وضع الإنسان (استخراج الجثث وتشريحها  ومعنى وقيمة الرمز) وزيارة  القاضي الشرعي وزيارة وكيل نيابة طنطا له وما جرى بينهما من  مقارنة بين الوجه القبلي والوجه البحري وحضور المرأة فيهما  ونسب الإجرام المرتفعة في بعض المناطق المصرية (أبنوب) .

فرض تماسك السرد الفيلمي، استبعاد حكايات (علاقة القاضي الشرعي بالمأمور) وواقعات سياسية –ثقافية كاشفة عن تناقضات المجتمع :(حزن وولولة النساء في دوار العمدة المقال وتكبير وتهليل الرجال وزغردة النساء في دوار العمدة المعين ورمز الهاتف).

 (وتأملت جيدا ما يحملونه وتأمل معي الطبيب الشرعي دهشا فرأينا آلة تليفون حكومية من طراز تليفونات المراكز. فصاح الطبيب في عجب:

-التليفون له زفة كأنها زفة عروسة) (12)

وكما حذفت هذه الواقعة الطريفة والمعبرة في نفس الآن، ألغيت ذكريات وكيل النيابة ووصفه المفصل لوقائع أول جلسة تشريح حضرها.

(وأخرج بكلتا يديه كل ما في الجمجمة من مخ حتى أخلاها فأصبحت مثل ” السلطانية” النظيفة، وقسم هذا المخ أقساما أربعة أعطى كلا من معاونيه قسما وكلفهم أن يبحثوا عن المقذوف بحثا جيدا، فجعلوا “يلغوصون” بأصابعهم في هذه المادة التي يعزى إليها كل نبوغ الإنسانية، حتى صيروها شبه سائلة كالمهلبية؟) (13)

2- آلية التعديل والتحوير: 

التجأ توفيق صالح والفريد فرج، إلى تحوير وتعديل بعض الأحداث والمواقف، تبعا لقراءتهما وتأويلهما للرواية،  و مراعاة لنسق الفيلم، ورؤيته السياسية .فسينما توفيق صالح، سياسية –إيديولوجية في المقام الأول ( فيلم صراع الأبطال [1962]، والسيد البلطي[1967]، والمتمردون [1968]، والمخدوعون[1972] ).ولذلك من الطبيعي، أن يستبعد بعض التفصيلات والتوصيفات الأنثروبولوجية والتأملات الوجودية والتشخيصات الاجتماعية أو أن يحورها ويعدلها( تناول الفطور في بيت العمدة بعد معاينة المسمار الموضوع على الخط الحديدي، ما وقع في العرض القانوني …) فبعد إجراء العرض القانوني، اتهمت السيدة بهانة / ليلى فهمي  عبد المقصود أفندي / سعيد خليل، باشكاتب النيابة،  بأنه حسين خطيب ريم  المفترض، فحبس حبسا احتياطيا، نكاية فيه، لاستماتته في تسويغ أسبقية الأمن على العدل وتبرير المظالم باسم مراعاة سلامة الإجراءات والشكل.

وبما أن صناعة الفيلم، ترتهن إلى شرائط ومقتضيات إنتاجية وفنية وسياسية وتسويقية –تداولية، فمن الضروري مراعاة هذه المحددات في أية قراءة أو معالجة سينمائية لرواية ساخرة وناقدة مثل رواية توفيق الحكيم.

غلب المنحى السياسي على قراءة وتأويل المخرج توفيق صالح للرواية، مما أدى إلى تغييب أبعادها الوجودية والفلسفية بله الميتافزيقية الواضحة.

كان ظهور ريم بمثابة كشف صاعق للمحققين، وزاد اختفاؤها الغامض في تغذية قوة الرمز/ الأسطورة، وتحفيز وكيل النيابة خاصة على التأمل العميق في مسار ومسير الانسان وطرح الأسئلة الوجودية  الكبرى.

(.. كانت صورة بديعة هزت نفوسنا جميعا عاقلنا ومجنوننا، ومخلوقا حلوا منحنا أويقات حلوة ولحظات مشرقة، ونسيما عليلا هب على صحراء حياتنا العاطفية المجدبة في هذا الريف القفر.) (14)

إن محرك الأحداث في الرواية والفيلم معا، هو الجمال وهيبته. إن وكيل النيابة والمأمور ومساعد الوكيل والشيخ عصفور نفسه مشدودون إلى جمال ريم/راوية عاشور، مفتونون  برفعته وبهائه.

كيف يمس الجمال بجلاله وهيبته رجالا متمرسين- مثل وكيل النيابة- بالنفس البشرية وعارفين بعوالم الجريمة وبهباء الجسد؟ كيف يمكن الاحتفاء ببهاء الجمال بعد طول تمرس –أثناء جلسات التشريح- بهباء الجسد؟

(طالما شرحنا جثثا، فليكن، وإني لعلى استعداد لتشريح نصف أهالي هذه البلدة، أما هذه الفتاة.. أما هذا الجمال فحرام أن نمزقه ونرى ما بداخله. (15)

لقد أسهم أداء الممثلين في إغناء الشخصيات المقدمة، وإبراز طرافة ودرامية المواقف والواقعات.

وهكذا أضفى توفيق الدقن وحسن مصطفى، لمسات كوميدية طريفة، على شخصية المأمور وعلى شخصية القاضي. لقد تمكن الممثلان من تطوير البذرة الكوميدية الكامنة في الشخصيتين الأصليتين، وتعميق مجرى المفارقة.

ولم يصب الفيلم في اعتقادنا، في إظهار الهيبة أو البهاء الملازمين للجمال في الرواية.إن انشداد الوكيل والمساعد والشيخ عصفور إلى جمال ريم،  ليس في الحقيقة، افتتانا بجسد أو سعيا وراء ملذة عابرة،  بل هو انشداد متولد عن الهيبة والدهشة الوجودية واندهاش ناتج عن  قوة الرمز. ولذلك فهي رمز لما يتجاوز نثرية وسذاجة ووضاعة الواقع؛ ولا يمكن بناء على هذا،  ربط العثور على جثثها  بالعثور على صندوق الانتخابات المسروق إلا في قراءة سياسية لعالم الرواية المتشعب والتراجيدي بامتياز .

ليس من اليسير التعامل سينمائيا، مع نص روائي ساخر وتراجيدي في نفس الوقت. فهو غني بالإشارات الناقدة، واللمحات الساخرة من الفلاح ومن الموظف البيروقراطي ومن الإنسان نفسه. وعلاوة على سخريته وتراجيديته، فهو نص تأملي لإشكاليات فلسفية وأخلاقية كبرى وثنائيات معضلة: القانون/ العدل، الجريمة –العنف / الجمال، وضاعة جسد الانسان/ قوة الرمز، الواجب – الاجراء / الحق، الموت / الحياة.

كان من الضروري إذن، إيجاد معادلات سينمائية –فنية لممكنات النص الأدبي المنفتح غالبا على الرمز والإشارة والنقد والسخرية والإيحاء والتأمل والتلميح، والتعامل مع النصوص المستوحاة بحذق سينمائي، مراعاة لخصائص البناء السينمائي واللغة السينمائية ولبنيات الإنتاج والتداول والتسويق. وكان من الطبيعي إعادة صياغة أو تعديل أو تحوير بعض الأحداث، حتى تتسق مع الرؤية السينمائية والمنظور السياسي المتبنى.

كان من المطلوب، استثمار طاقات الممثلين( فريد شوقي ونور الشريف ومحمود الجندي ومحسنة توفيق  في” قلب الليل” وأحمد عبد الحليم وتوفيق الدقن وعبد العظيم عبد الحق وحسن مصطفى وعايدة عبد العزيز  في “يوميات نائب في الأرياف” وشكري سرحان و زبيدة ثروت ويوسف شعبان في “حادثة شرف”)  ومديري التصوير(عبد الحليم نصر في “يوميات نائب في الأرياف ” وعبد المنعم بهنسي في “قلب الليل ” وابراهيم صالح في “حادثة شرف”)،لتقديم مشاهد معبرة وموحية وباعثة على التفكير في ثنائيات مشكلة :البراءة/ التصنع ( حادثة شرف) والحرية والعقل / العبودية والغريزة ( قلب الليل ) و الجريمة – الجسد / الجمال (يوميات نائب في الأرياف).

 الهوامش :

1يوسف ادريس،  حادثة شرف، دار العودة،  بيروت، لبنان، ص.117.

2-يوسف ادريس،  حادثة شرف،، ص.88.

3-يوسف ادريس،  حادثة شرف،، ص.96.

4-يوسف ادريس،  حادثة شرف، ص.114.

5- نجيب محفوظ،  قلب الليل، دار مصر للطباعة، ص.69.

6- نجيب محفوظ،  قلب الليل، ص.118.

7- نجيب محفوظ،  قلب الليل، ص.121.

8-  نجيب محفوظ،  قلب الليل، ص.7.

9- توفيق الحكيم،  يوميات نائب في الأرياف، كتاب الدوحة،  رقم 16، سبتمبر 2012،ص.64.

10-  توفيق الحكيم،  يوميات نائب في الأرياف، ص.81.

11-توفيق الحكيم، يوميات نائب في الأرياف، ص.147.

12-  توفيق الحكيم،  يوميات نائب في الأرياف، ص.94.

13-  توفيق الحكيم،  يوميات نائب في الأرياف 2012،ص.134.

14-  توفيق الحكيم،  يوميات نائب في الأرياف، ص.136.

15-  توفيق الحكيم،  يوميات نائب في الأرياف، ص.136.

Visited 56 times, 1 visit(s) today