الفيلم الإيراني في مهرجان برلين يحطم جميع قواعد الرقابة
أمير العمري- برلين
جاء الفيلم الإيراني “كعكتي المفضلة” إلى الدورة الـ 74 من مهرجان برلين السينمائي تسبقه ضجة إعلامية كبيرة، بعد أن صادرت السطات الإيرانية جوازي سفر مخرجيه: مريم مقدم وبهتاش صنايحه، ومنعتهما بالتالي من السفر لحضور عرض فيلمهما في المسابقة الرسمية. وترددت أنباء أيضا عن أن السلطات كانت قد داهمت مقر الشركة المنتجة في طهران، بحثا عن الفيلم، وصادرت جميع أجهزة الكومبيوتر لكنها لم تعثير على الفيلم، والواضح أنه أرسل إلى الخارج لاستكمال العمليات النهائية وإعداده للعرض خصوصا وانه من الإنتاج المشترك مع شركات في ألمانيا وفرنسا.
إن “كعكتي المفضلة” واحد من أجمل وأكمل الأفلام الإيرانية التي خرجت من إيران خلال السنوات الأخيرة ضمن تيار سينما ما بعد كياروستامي، وأيضا من أكثرها تماسكا وقوة وجرأة، بحيث يمكن اعتباره فيلما “ثوريا” بكل معنى الكلمة، فهو يسبح عكس التيار تماما، ويضرب بكل قواعد الرقابة على الأفلام في إيران عرض الحائط.
على المستوى الأولي، الفيلم عن إيران بين الماضي الذي عرف قدرا كبيرا من التحرر والحياة “الطبيعية” للمرأة ضمن مجتمع ذكوري بطبيعته، وإيران الحاضر بكل كآبته وقسوته وقيوده. .إنه أساسا، فيلم عن المرأة الإيرانية، مزاجها الخاص، وتطلعها للحب حتى بعد أن تجاوزت السبعين من عمرها ورغبتها في الانعتاق والتحرر والعثور على الحب.
في هذا الفيلم الشجاع ومن خلال سيناريو بارع منسوج جيدا شأن غالبية أفلام السينما الإيرانية الجديدة، هناك امرأة تظهر من دون الحجاب المفروض على الممثلات في جميع الأفلام حتى في المشاهد التي تدور بين الزوج والزوجة أو الأم والإبن، وهناك سخرية وهجوم مباشر على شرطة الأخلاق التي تعتقل الفتيات اللاتي لا يلتزمن بقواعد تغطية الرأس حسب ما تفرضه السلطة الدينية المتشددة، وهناك حديث عن الخمر بل واحتساء للخمر، وهناك مشهد الرقص الذي يجمع بين رجل وامرأة ليسا زوجين، وتلامس بينهما بالأيدي، وفضلا عن هذا كله، هناك أيضا اجتراء على ما هو محظور في العلاقة بين الإنسان والموت. ولكن كل هذه الصور والمواقف تبدو طبيعية تماما في سياق السرد، وتطور القصة، وليست مفروضة قسرا من خارج الفيلم.
هناك امرأة هي “ماهين” تجاوزت السبعين من عمرها، تعيش وحيدة بعد أن مات زوجها قبل 30 عاما، وهاجرت ابنتها إلى الخارج، وهي تعيش في شقتها الفخمة في ضواحي طهران، لا يشغلها يوما بعد يوم، أن تروي أشجار حديقتها الجميلة. إنها ممرضة متقاعدة، تحصل على كوبونات تتيح تناول الغداء في مطاعم معينة يغشاها المتقاعدون. وكان المعتاد أن تقابل صديقاتها مرة كل أسبوع لكنهن أصبحن يجتمعن عندها مرة واحدة كل شهر، وهي تهتم بالطهي وعمل الحلوى والمأكولات الإيرانية المميزة وتدعو صديقاتها حيث يثرثرن جميعهن (من دون ارتداء الحجاب) عن الحب والرجل والجنس والماضي الذي كان في إيران، أي وقت شبابهن. وفي الاجتماع الأخير الذي نشاهده، يناقشن هل يمكن للمرأة في عمرهن أن تعثر على الحب مجددا، وعلى الرفقة الإنسانية مع الرجل؟
تزور المرأة، وتدعى “ماهين” (ليلي فرهادبور) مقهى فندق في قديم كانت ترتاده في شبابها، لكنها تجد أنه لم يعد يقدم قهواتها المفضلة، وأن قائمة الطلبات أصبحت كلها الآن من خلال ما يعرف بالـ QR ، أما الموسيقى الرتيبة الخافتة التي تبدو أقرب إلى الموسيقى الجنائزية فهي تتناهى إلى أسماعنا تصل إلينا عبر شريط الصوت مختلطة بالقرآن، مما يدفع بالرهبة وينفي فكرة الاستمتاع في مقهى، وعندما تذهب الى الحديقة لا تجد الذين اعتادوا ممارسة الرياضة كما كان الأمر في الماضي، ويزداد شعورها بالوحدة، ولا تجد سوى منظف الحديقة تتبادل معه الحديث.
“ماهين” تمضي إلى مطعم العجائز وتقرر في لحظة ما، أن تتمرد على واقعها، وأن تجد وسيلة للتواصل، فتتعرف على سائق تاكسي سبعيني مثلها يدعى فاراماز، كان ضابطا في الجيش وتقاعد، يقودها إلى بيتها، تتبادل معه الحديث ثم تدعوه إلى بيتها، وفي الداخل يتطور الحوار، وينشأ الود، وتقضي ليلة معه، يرقصان معا على أغاني الماضي الجميل، يشربان الخمر المعتق من قنينة كبيرة تستخرجها من حديقتها حيث ظلت مدفونا منذ 30 سنة.
لدى ماهين جارة متسلطة متشددة، تطرق الباب وتحاول معرفة ما إذا كان هناك رجل في الداخل إلا أن ماهين تتخلص منها في لباقة، وعندما يتساءل “فاراماز” تخبره أن ليس كل جيرانها على هذا النحو وأن هذه المرأة زوجها يعمل لحساب الحكومة، في الأمن، وهي بالتالي تشعر بنوع من الهيمنة، لكن باقي الجيران خصوصا الذين يطلون عليها من أعلى، متحررين مثلها.
يتبادل الاثنان الحوار، تحدثه في اقتضاب عن زوجها الذي توفي في حادث سيارة، ويحدثها هو عن زوجته التي كانت تفرض عليه الكثير من القيود بسبب تشددها الديني، ويبدي ارتياحه لأنها طلبت منه الطلاق منذ سنوات خصوصا وأنه لم ينجب منها.
يقوم هو بإصلاح مصابيح الكهرباء المعطلة في الحديقة فتصبح مضاءة بحيث يمكنهما تناول الطعام معا في الحديقة ويستمعان الى الموسيقى والغناء. ويزيل الخمر الحواجز بينهما، ويرقصان معا تحت الإيقاعات الموسيقية البديعة من الزمن الجميل.
تعد ماهين كعكتها المفضلة تريد أن تقدمها لرفقيها الجديد، يطلب أن يستحم أولا، فتأتيه بثياب نظيفة من ملابس زوجها الراحل، لكنه يدعوها أن تلحق به تحت الدوش كما في الأفلام الأجنبية. وبعد تردد يبدو أنها قد وافقت، وفي المشهد التالي يقدم لنا الفيلم مفاجأة طريفة مضحكة عندما نراهما جالسين معا تحت الدوش بكامل ملابسهما.
في هذه الليلة التي تستعيد المرأة شبابها، بعد أن تكون قد أخذت هي زمام المبادرة، ولكن السعادة لن تستمر ولا يمكن أن تستمر في واقع مخنوق، وستنتهي المفارقات الكوميدية المضحكة من النص السينمائي، مع وقوع حدث مأساوي.. لكن ماهين تكون قد أتمت المهمة، أي استعادت حريتها وإن لم تنجح في استعادة سعادة الماضي، فحريتها مرتبطة باستعادة إيران نفسها حريتها.
في الفيلم مشهد كاشف عندما تتصدى بطلتنا لضابط في شرطة الأخلاق في الحديقة العامة، وهو يعتقل فتاة بسبب عدم وضع حجابها على نحو صحيح كما يعتقد، وتوبخه ماهين وتجذب الفتاة وتخلصها منه، مستعلة كونها امرأة مسنة لا تلتزم هي نفسها بقواعد تغطية الرأس. ونكتشف أيضا أن الفتاة على موعد مع حبيبها، وعندما تراه يتعانق الاثنان في مشهد جديد على السينما الإيرانية أيضا.
يسير السرد في اتجاه تقليدي من دون تداعيات، ويلمس الفيلم العلاقة المنقطعة بين الجيل القديم وجيل الأبناء من خلال انقطاع الصلة الحقيقية بين الأم والابنة، وبناء العلاقة بين ماهين وفاراماز منسوجة ببراعة شديدة، وتتطور تدريجيا مع حوار جيد مكتوب بحيث يظهر تدريجيا ما يدور داخل كل منهما، خصوصا بعد أن يقتربا من بعضهما البعض.
وينجح السيناريو في التمهيد البارع للانتقال من الكوميديا إلى الماساة، كما يبلغ الأداء التمثيلي في الفيلم درجة من أعلى درجات الأداء، ومن دون اثنين من أبرع الممثلين لم يكن الفيلم ليتمتع بكل ما يتمتع به من سحر وقوة مدهشة.
هنا يتميز أداء الممثلة البديعة الجريئة “ليلي فرهادبور” في الدور الرئيسي، وزميلها الممثل “إسماعيل مهرابي”. وقد حضر كلاهما إلى المهرجان، وشاركا في المؤتمر الصحفي الذي عقد لمناقشة الفيلم، ونقلا رسالة نقدية جريئة من مخرجي الفيلم. وليس معروفا حتى الآن كيف سمحت السلطات للممثلين بالمغادرة، ولا ما سيحدث لهما بعد ما أدليا بما أدليا به من آراء خلال المؤتمر.
تتلخص نظريتي القديمة في أن هناك جناحا داخل السلطة الإيرانية يغض الطرف عن تصوير مثل هذا الفيلم الذي جرى تصويره كله في الداخل، وربما تغض الطرف أيضا عن تهريبه للخارج، ولا بأي من منع عرضه داخل إيران فيما بعد. والمقصود أن تبقى إيران حاضرة باستمرار في ضمير العالم، تثير أفلامها الجدل في المهرجانات السينمائية والمحافل الدولية، خصوصا لو عرفنا أن هذا الجناح “التقدمي” داخل السلطة، يهتم بالفنون والسينما بوجه خاص وربما كان التصوير والخروج والعرض في الخارج منسقا ومتفقا عليه، وهذا لا يعني وجود جناح آخر أكثر تشددا وقمعا ورفضا لاي هامش لحرية التعبير. وإلا كيف يتم تصوير مثل هذه الأفلام داخل إيران من دون أن يكون التصوير سريا، بل تحت أنظار الأجهزة!
أيا كان الأمر، فقد أصبح لدينا عمل سيقلب كل الموازين والحسابات داخل السلطة، ويصبح عملا دالا على وجود وروح المقاومة في السينما الإيرانية، والمقاومة داخل إيران بشكل عام، مع قدرة على تجاوز جميع القواعد الرقابية، وفي الوقت نفسه، الالتزام بتقديم عمل فني جذاب، متقن، ومتميز في تصويره واختيار مخرجيه للاماكن والديكورات الداخلية والخارجية، مع وجود نفس إنساني يجعل الفيلم يصل للجمهور في العالم. إنها تجربة يمكن أن تلهم السينمائيين، في إيران، وفي كل البلدان الخاضعة للديكتاتورية العسكرية والدينية.