“أوبنهايمر” تراجيديا الرجل والقنبلة

Print Friendly, PDF & Email

أمير العمري

نشر المقال في موقع “الجزيرة الوثائقية تحت هذا الرابط

أطلقوا عليه في الولايات المتحدة لقب “أبو القنبلة”، والمقصود القنبلة الذرية التي نقلت العالم إلى عصر جديد، وقال هو عن نفسه بعد أن نجحت القنبلة: “الآن أصبحت أنا الموت، مدمر العوالم”.

قصة عالم الطبيعة النووية جوليوس روبرت أوبنهايمر، هي موضوع الفيلم الجديد للمخرج المرموق كريستوفر نولان صاحب الأفلام الشهيرة التي أثارت إعجاب الملايين في العالم. ولكن الفيلم الجديد “أوبنهايمر” Oppenheimer (2023) الذي أصبح في الفترة الأخيرة، أكثر الأفلام جذبا للاهتمام من جانب جمهور السينما وأجهزة الإعلام في الغرب، ليس هو الفيلم الأول عن عالم الفيزياء الشهير الذي كان الدينامو المحرك وراء اختراع أول قنبلة ذرية في التاريخ، فقد ظهرت عنه من قبل أعمال كثيرة، روائية وتسجيلية، ربما كان أولها فيلم “بداية النهاية” (1947) الذي قام فيه بريان دونليفي بدور أوبنهايمر، وهناك مسلسل “أوبنهايمر” الذي عرض عام 1980 في 7 حلقات وقام بالدور الرئيسي فيه سام ووترستون، ثم فيلم “رجل بدين وطفل صغير” (1989) للمخرج رولاند جوفي وقام فيه دوايت شولتز بدور أوبنهايمر أمام بول نيومان في دور الجنرال ليزلي غروفز. ومن الأفلام التسجيلية الحديثة فيلم  “أوبنهايمر مقابل هايزنبرغ” ضمن سلسلة “عباقرة أمريكيون” (2015)، والفيلم الذي أنتجه تليفزيون بي بي سي “محاكمات أوبنهايمر” (2020)، ومن أحدث الأفلام الوثائقية لدينا “أوبنهايمر مدمر العالم”، و”من أجل إنهاء كل الحروب: أوبنهايمر والقنبلة الذرية” وكلاهما من إنتاج 2023.

الفيلم الأخير “من أجل إنهاء جميع الحروب” يكشف الكثير عن مأزق أوبنهايمر الشخصي والأخلاقي، استنادا إلى حقائق ووثائق وشهادات، ومن ضمن ما جاء فيه، أن أوبنهايمر لم يعتذر قط عن ما تسببت فيه القنبلة الذرية من كارثة القتل الجماعي للمدنيين الأبرياء في هيروشيما ونجازاكي، وأنه كان يدرك جيدا من البداية أن القنبلة اخترعت لكي تستخدم، وأنها لابد أن تستخدم.

أما فيلم كريستوفر نولان مقتبس بتصرف من كتاب “بروميثيوس الأمريكي: انتصار ومأساة ج. روبرت أوبنهايمر” من تأليف كاي بيرد ومارتن ج. شيروين، فهو لا ينفي إيمان أوبنهايمر بضرورة استخدام القنبلة ولكنه كان يبرر استخدامها بالقول إنها ستكون المرة الأولى والأخيرة، أي أن وجودها كفيل بردع كل القوى الدولية وتحقيق التوازن فيما بينها، لكن الفيلم بالطبع يمضي أبعد من ذلك كثيرا، طارحا الكثير من التساؤلات الوجودية، متعمقا في ذهنية أوبنهايمر في ضوء التحليل النفسي، منتقلا بين الذاتي والموضوع، وبين النفسي والسياسي، وعلى صعيد الأسلوب، يمزج بين السرد الصارم الذي يسعى لترجمة وقائع كثيرة على أرض الواقع، وبين السيريالية والخيال الذي يصل إلى أقصاه قصد أن يعكس الاضطراب الشديد الذي تعاني منه شخصية أوبنهايمر كشخصية “مأزومة” عاجزة عن تجاوز تناقضاتها.

الفيلم يدور على محاور عدة: أولا الحياة الشخصية لأوبنهايمر، الذي ولد في نيويورك لعائلة من اليهود الألمان هاجرت إلى الولايات المتحدة. وبعد تخرجه من هارفارد عام 1925 يذهب لاستكمال دراسته في جامعة كمبردج الإنجليزية العريقة. ولكنه يصطدم كثيرا مع أستاذه “باتريك بلاكيت” الذي يسخر منه أمام زملائه ويحرمه من حضور التجارب العملية، مما يدفع أوبنهايمر إلى حقن تفاحة بالسم ووضعها فوق مكتب بلاكيت، أي أنه فكر في قتل رجل في هذا الوقت المبكر. هل يعكس هذا اضطراب ما في الشخصية، أو غضب شديد كامن؟

بلاكيت لا يهتم بالتفاحة، لكن يتناولها ضيف حل على مكتبه هو العالم الدنماركي المرموق “نيلز بور” (كينيث برانا) الذي شرع يقضمها قبل أن ينتزعها أوبنهايمر من يده بقوة ويلقيها في سلة المهملات من دون أن يلفت هذا نظر الرجل أو مضيفه!

ينتقل أوبنهايمر ” (يقوم بدوره شيليان ميرفي) بعد ذلك إلى جامعة غوتنبرغ الألمانية حيث ينال درجة الدكتوراه في الطبيعة الكمية أو فيزياء الكم التي تهتم بفحص نظري لكل مكونات الطبيعة، وهناك يتعرف ويقترب ويعجب كثيرا بالعالم الألماني هايزنبرغ. وهناك كثير من الشروح سترد في الفيلم عن الطبيعة الكمية، ويجسد المخرج كيف تستولي الأفكار النظرية الغريبة على عقلية أوبنهايمر في شبابه وهو يسير تحت المطر أو يتطلع كثيرا إلى النجوم ويتأمل في حركتها وانجذابها أو تباعدها. ولم تكن الطبيعة الكمية معروفة في الولايات المتحدة لكنه سيؤسس قسما لها في جامعة بيركلي.

من الجانب العلمي والمهني ينتقل الفيلم إلى الجانب الشخصي والعلاقة مع المرأة، أولا مع “جين تاتلوك” (فلورنس بيو) الناشطة في الحزب الشيوعي الأمريكي، لكن العلاقة بينهما يشوبها التوتر، وعندما تصده هي في نوبة غضب، يعثر في “كاثرين” (إيميلي بلانت) على البديل الأكثر راحة، وهي المرأة التي سيتزوجها فيما بعد، وكانت أيضا عضوا في الحزب الشيوعي الأمريكي لسنوات، ولكن العلاقة معها ستصبح أبعد ما تكون عن الشعور بالراحة، بسبب تناقض شخصيتهما. ولكن مشاعره تجاه “جين” لن تهدأ، وعندما يعلم بأنها تعاني من الاكتئاب والانهيار النفسي يهرع إليها، ويقضي معها ليلة، وهو ما سيؤخذ عليه في المستقبل عندما يصبح كتاب حياته مفتوحا أمام الملأ وخاضعا للتحقيقات. أما “جين” فستنهي حياتها بالانتحار، وسيتأثر هو كثيرا بهذا الحدث.

كان هذا زمن اليسار في أمريكا وأوروبا، فمع صعود الفاشية في أوروبا، اتجه كثير من الشباب إلى الماركسية، وكانوا يرون أن القوة الوحيدة القادرة على وقف زحف الفاشية هي الاتحاد السوفيتي. وكان أوبنهايمر نفسه متعاطفا مع هذه الأفكار اليسارية، وقد اقترب وصادق الكثير من الشيوعيين بل وقد انضم شقيقه “فرانك” الى الحزب أيضا رغم تحذيره له. وكان أوبنهايمر مولعا كما نرى في الفيلم، بولاية نيومكسكو، مغرما بركوب الخيل وقضاء الوقت مع المزارعين ورعاة البقر، وكان يمتلك بيتا هناك، وقد دعا كاثرين لتذهب معه، وهناك اتخذ قراره بالزواج منها.

الحدث الذي سيغير مصير أوبنهايمر هو عندما تنشر الصحف أن اثنين من العلماء الألمان الشبان نجحوا في تقسيم الذرة. إنه لم يصدق في البداية ثم مع البحث أصبح مهووسا بالفكرة بعد أن أدرك أن انقسام الذرة معناه أمر واحد: هو الوصول إلى القنبلة التي لا تشبه غيرها أبدا، وأصبح يخشى أن تنجح ألمانيا النازية في انتاج القنبلة الذرية وبالتالي تقضي على الحضارة الغربية. ولابد أن اهتمامه بهذا الأمر جذب أنظار الجنرال ليزلي غروفز (مات ديمون) الذي كلفه الرئيس الأمريكي بتولي مشروع “مانهاتن” لانتاج قنبلة ذرية، فيعرض عليه غروفز الإشراف العلمي على المشروع، لكن أوبنهايمر المغرم بنفسه كثيرا، حد النرجسية، يشترط أن يكون مقر هذه الأبحاث في صحراء نيو مكسيكو، حيث يتم تشييد قرية كاملة وإقامة المنشآت وإسكان عشرات العلماء والتقنيين والعاملين في هذا المشروع السري الضخم الذي سيكلف الحكومة الأمريكية 2 مليار دولار. ويطلق على هذه المنطقة “لوس ألاموس”.

من الحياة العلمية، إلى الحياة الشخصية والعلاقات مع النساء والارتباط بصلات مع أعضاء في الحزب الشيوعي، إلى العمل الشاق في مشروع إنتاج القنبلة الذي بدأ عمليا في عام 1943، حيث أصبح أوبنهايمر يسابق الزمن خشية أن يسبق الألمان إلى انتاج سلاح الدمار الشامل، ثم إلى التوصل بالفعل إلى صنع القنبلة، واجراء تجربة ناجحة، ثم تصبح القنبلة الذرية السلاح الذي يضمن النصر النهائي في الحرب العالمية الثانية ويجعل أمريكا القوة النووية المهيمنة منفردة.

بطبيعة الحال سيصبح الجزء الأخير من الفيلم منصبا على ذهنية الحرب الباردة في تلك الفترة بعد الحرب، ومحاولة الحيلولة بين السوفيت والوصول إلى السلاح النووي، ومرحلة الهوس المكارثية والاشتباه في الكثير من الشخصيات العامة المرموقة بدعوى ضلوعها في “النشاط المعادي” والمقصود الشيوعي، وتهديد أمن الولايات المتحدة، وهو ما سيلحق بأوبنهايمر نفسه. إلا أن الفيلم لا يسير في سياق كرونولوجي مترج، بل في بناء ملتوي متعرج، كعادة كريستوفر نولان في أفلامه وإن كان هذا البناء ليس هو الأفضل في تناول سيرة حياة شخصية حقيقية (بيوغرافي) بل ينسجم أكثر عادة مع الأفلام الذاتية التي تفيض بالخيال والرؤية الذاتية لفنان الفيلم.

لكن نولان لم يكن مهتما بالسيرة الشخصية لأوبنهايمر، فالمعلومات ووقائع كلها معروفة وموثقة ومعروض في أفلام كثيرة غالبا أيضا، بشكل أكثر سلاسة ووضوحا. لذلك كان نولان يريد أن يجعل من قصة أوبناهيمر قصة ذات طابع أسطوري، أقرب إلى بروميثيوس الذي غضبت عليه الآلهة، وهو المغزى الكامن في عنوان الكتاب المقتبس عنه الفيلم. فقد أصبح أوبنهايمر هو بروميثيوس الانشطار الذري، الضوء الحارق المدمر. لكن بعد ان انقشع الغبار، أصاب الدمار النفسي ناقل الضوء!

تناقضات أوبنهايمر تنبع من شخص نشأ وهو يشعر بالوحدة، بالغربة عن الناس، بالعجز عن إقامة علاقات سوية مع النساء، بالشعور بالتفوق عن سائر رفاقه، وهو ما يجعله يغرق في تناقضاته: إنه يحب جين لكنه لا يتزوجها، يؤمن بأمريكا القوية، لكنه يريد أن تتعادل قوتها مع قوة غيرها لكي يضمن السلام، يدافع بقوة عن ضرورة استخدام القنبلة، لكنه يأسى لسقوط الضحايا، ويشعر بالذنب، يؤمن بالكثير مما كان ينادي به الشيوعيون خصوصا في خضم الأزمة الاقتصادية في الثلاثينات، لكنه لا ينضم للحزب قط، بل ويشي فيما بعد بأسماء العلماء الشيوعيين من بين فريقه حتى ينقذ جلده من مسلخ المكارثية، وهو جانب لم يوليه الفيلم ما كان يستحقه من اهتمام.

في الفيلم الكثير من الشخصيات والأسماء والتفاصيل العلمية الدقيقة والتقنية، والمناقشات الحادة بين العلماء وما ينشأ من خلافات أحيانا كما في حالة زميل أوبنهايمر السابق في جامعة بيركلي، “إدوار تيلر” (بيني سافدل) وهو مهاجر مجري الأصل كان منحازا لفكرة إنتاج القنبلة الهيدروجينية ويراها أكثر فعالية، بينما كان أوبنهايمر يعارضه، وفي لحظة ما عندما اشتد الخلاف بينهما، يقرر تيلر الانسحاب من مشروع مانهاتن، إلا أنه عاد عن قراره فقط بعد أن سمح له أوبنهايمر الاستمرار في أبحاثه المتعلقة بالقنبلة الهيدروجينية التي كان يعارضها، وهو سيعد ليتخذ موقفا عدائيا من رفيق دربه وقت الأزمة، بعد الحرب، عندما تحين ساعة الحساب.

هذه المحاور التي ينتقل الفيلم فيما بينها، يقطعها طوال الوقت، لقطات أو مقاطع، تارة بالأبيض والأسود لجلسات الاستماع في اللجنة الاقتصادية في الكونغرس الأمريكي عام 1958 لمناقشة ترشيح الرئيس أيزنهاور، المدير السابق لوكالة الطاقة الذرية، لويس ستراوس (روبرت داوني جنيور) لمنصب وزير التجارة، وترة أخرى بالألوان لجلسات استجواب أوبنهايمر عام 1954 عن لته بالشيوعيين إبان حملة مكارثي. الجلسات الأولى تكتسب طابعا وثائقيا، بينما الثانية نراها من وجهة نظر أوبنهايمر، أي أنها تعكس نظرته الخاصة إلى الشخصيات التي تتحرك وتتحدث أمامه كما لو كانت شخصيات في أحد أفلام الرسوم المتحركة، لذلك اختار نولان أن يجعلها بالألوان.

كان ستراوس يكن كراهية عميقة لأوبنهايمر لأسباب عديدة منها أن الأخير سخر منه أمام الجميع ووصفه بـ”الفيزيائي الهاوي”، كما كان ستراوس يعتقد أن أوبنهايمر تسبب في إعراض العالم الكبير أينشتاين عنه، وكذلك كان ستراوس وهو يهودي متشدد، يرى أن أوبنهايمر انحرف عن يهوديته وأصبح من المتماثلين مع “الأغيار”، ولم يعد يقيم وزنا للشعائر اليهودية. ويمكن النظر إلى “ستراوس” هذا هو في الفيلم باعتباره المقابل الدرامي لشخصية “ساليري” الشهيرة في دراما حياة الموسيقار الألماني موتسارت، وإن لم يكن عالما مثل أوبنهايمر بل اقتصادي واداري بيروقراطي وقع في مشاكل كثيرة مع أعضاء الكونغرس الذين رفضوا ترشيحه لمنصب وزير التجارة بعد مناقشات عاصفة أمام لجنة خاصة في الكونغرس، وكان جون كنيدي من بين من صوتوا على رفضه.

كان ستراوس مثل ساليري، يغير من أوبنهايمر وما حققه من شهرة ويشعر بالحقد تجاهه ويرغب في تدميره، وهو الذي سيبحث وينقب في علاقاته وتاريخه الشخصي، ثم يبعث بما توصل إليه من معلومات إلى ادجار هوفر رئيس جهاز المباحث الفيدرالية، بدعوى أن أوبنهايمر جاسوس للاتحاد السوفيتي، وقد استند في هذا على عدة وقائع، منها طبعا أن أوبنهايمر كان مناهضا لصنع القنبلة الهيدروجينية التي تبلغ آلاف الأضعف في قوتها من قنبلة هيروشيما وأنه لم ير داعيا لها، فقد أصبح بعد نهاية الحرب من دعاة التعاون الدولي لوقف سباق التسلح. أما ستراوس فقد كان من المروجين في دوائر السلطة لهذه القنبلة باعتبارها ضرورة قصوى والرادع الأكبر للسوفيت، وبالتالي نظر الى مناهضة أوبنهايمر لها على أنها مهادنة مقصودة مع السوفيت!

يلمح الفيلم كثيرا إلى ثقافة أوبناهيمر، وولعه الخاص بالشعر والأدب والفن التشكيلي واللغات (كان يجيد لغات عدة منها السنسكريتية التي يقرأ منها لصديقته جين في الفيلم)، كما يلمح إلى إدمانه التدخين (وسيقضي بعد اصابته جراء إصابته بسرطان الحلق)، وإلى اتجاه زوجته إلى إدمان الخمر.

المشكلة أن المتفرج العادي الذي لا تتوفر له خلفية معلوماتية مناسبة لن يمكنه أن يتابع أو يفهم لهذه التفاصيل، بسبب كثرة الشخصيات وسرعة إيقاع الفيلم وانتقالاته المرهقة، خصوصا مع الافراط في سرد مشاهد التحقيقات أو جلست الاستماع في الكونغرس. من مشاكل الفيلم أيضا أن كريستوفر نولان، يقدم لحدث وقع في الماضي بلقطة واحدة لا تستغرق أكثر من ثوان معدودة ثم ينتقل بسرعة إلى الحدث نفسه في الماضي، عبر مراحل الفيلم المختلفة بعيدا عن أي سياق متماسك، فهو ليس مهتما بتكثيف الدراما، بل إن فيلمه يعاني كثيرا من الافتقاد للأبعاد الدرامية، بحيث بدا الكثير من الشخصيات أو بالأحرى، معظمها باستثناء الشخصية الرئيسية، شخصيات مسطحة، تتحرك وتتحدث كما لو كانت قد لقنت حوارا غير واقعي وغير مقنع، وأصبحت مجرد مرايا تعكس تناقضات الشخصية الرئيسية أو تكثف أزمتها. أي أن كل هذه الشخصيات تدور باستمرار حول أوبنهايمر، اتفاقا أو اختلافا.

على مدار هذه المحاور المتعددة ننتقل الى الوراء ثم إلى الأمام ثم إلى الوراء الأبعد، ثم نعود باستمرار إلى القنبلة. ويخصص الفيلم مساحة لا تقل عن 10 دقائق لمشهد اختبار التفجير الذري الأول في صحراء نيومكسيكو، والغريب أن العلماء والتقنيين ظلوا قابعين على مسافة قريبة للغاية من موقع التفجير الذي نراه أولا من دون صوت، ثم نراه مجددا مع الصوت، ثم نراه ثالثا من خلال ضوء ساطع يوحي بدماء هائل. ولا توجد مجرد إشارة إلى خطورة التلوث الإشعاعي في المنطقة (إنهم حتى لم يضعوا الأقنعة الواقعية)، كما لا نلمح أثرا لما يعرف بالغبار الذري أو المطر الذري فكيف نجا الجميع بعد هذه التجربة المرعبة على مسافة قريبة بهذا الشكل؟ أضف إلى ذلك أنه طوال فترة طويلة من العمل في هذا المكان الخانق بفعل حرارة الصحراء لم نلمح نقطة عرق واحدة فوق أي وجه من وجوه العلماء. فنولان أراد أن يكون الفيلم على هذا النحو، فيلما “متخيلا”، أي يصدر من وعي مخرج يصنع عملا عن حدث من الماضين ولكن في الحاضر، لذلك لا معنى لمثل هذه التساؤلات، لأن الأسلوب يسود على الدقة.

ويتجنب الفيلم تصوير مشاهد القاء القنبلتين فوق هيروشيما ونغازاكي وما يقع من دمار واحتراق لعشرات الآلاف من اليابانيين. ونحن فقط نعلم ما وقع من خلال ما يبثه الراديو، فنولان غير مهتم بتوضيح ورصد الآثار المباشرة للقنبلة، بقدر اهتمامه بتجريد فكرة القنبلة نفسها وتصويرها في شكل سيريالي خيالي من خلال الضوء والقطع المتناثرة والأشياء الطائرة الدقيقة، التي تملأ الفضاء، مصورة بالحركة البطيئة، ممزوجة بالموسيقى الصاخبة ذات الدقات العنيفة بما في ذلك الطرق بالأحذية على الاض بقوة من جانب مئات العلماء والعاملين في المشروع وهم يحتفلون بالضربة النووية الأولى الناجحة والتي تظهر على مقاطع متفرقة عير مكتملة الى أن تكتمل فيما بعد في مشهد الاحتفال الكبير الذي يقف خلاله أوبنهايمر مذهولا، فبينما يحتفل الجميع ويهللون ويصفقون فرحين بتحقيق إنجازهم الذي قضوا سنوات في الوصول إليه، يقف هو ساهما، حزينا، فقد أدرك الآن أنه قد أصبح “مدمر العوالم”. لذا فليلم  نولان ليس عن القنبلة فقط، بل عن القنبلة كاختيار وجودي يتعين أن يدفع ثمنه من تبناه وأنجبه.

يتبدى اهتمام نولان كعادته بالخروج عن الصورة، وتقديم صور متخيلة تندفع من وعي أوبنهامر نفسه، فأبنهايمر يغادر جماعة المنتشين بالنجاح، ويرى أحد علمائه يتقيا أو امرأة تنتحب بشدة، ثم يخوض بقدمه فيما يشبه جثة متفحمة، هنا يختفي الصوت تماما ويستغرق هو في تأمله الداخلي الخاص وكأنه يسير داخل الجحيم وقد أدرك أنه تقمص دور الشيطان.

ولع نولان بكسر الواقع، من خلال صور سيريالية، يجعله مثلا، يصور أوبنهايمر ذات مرة أثناء التحقيق معه، وهو يجلس عاريا تماما فوق مقعده أمام لجنة التحقيق وكأنه يسخر منهم جميعا!

يتردد في الفيلم كثيرا الحديث عن دمار العالم، ونهايته، ويناقش البعض داخل مقر لاس ألاموس، احتمال أن يتسبب تفجير القنبلة في التجربة الوشيكة التي يحسبون لها كل حساب، في انشطار تلو انشطار في متوالية لانهائية ما ينتج عنه تدمير كوكب الأرض بكامله. وهو ما لا يستبعده كثيرون منهم. لذلك يحيط الفيلم مشهد هذا التفجير التجريبي بكل مظاهر الهيبة والرهبة ويجعله المشهد الأساسي في قلب الفيلم.

صحيح أن الفيلم يتميز بالتصوير البديع، وبالتمثيل المتميز كثيرا خصوصا أداء الممثل الأيرلندي شيليان ميرفي في الدور الرئيسي، مع التركيز على الوجوه في لقطات قريبة، ولكنه يعاني أيضا من المونتاج المتوتر الذي يقطع بين لقطات لا تزيد عن عدة ثواني إلى لقطات خارج السياق تماما مما يرهق العين كثيرا ويشتت المتفرج. ويمكن القول إن التوتر هو سمة الفيلم، فالمونتاج عصبي، ويرمي للإثارة مع موسيقى لا تكاد تتوقف لحظة واحدة طيلة ثلاث ساعات، وكثيرا ما تطغى على الحوار وتفرض نفسها فرضا على المشاهد، وكأن المقصود أن تعكس حالة التوتر داخل الشخصية، كما تنذر بالخطر. أما أن تستمر في غالبية مشاهد الفيلم بوضوح وليس كخفية خافتة، فهو ينقص كثيرا من تأثير الفيلم.

Cillian Murphy is J. Robert Oppenheimer in OPPENHEIMER, written, produced, and directed by Christopher Nolan.

يعود نولان مجددا، بعد بلوغ ذروة الفيلم، إلى مشاهد مكررة لجلسة التحقيق الذي يخضع له أوبنهايمر أمام لجنة تمثل الأمن القومي، بعضهم يقف معه والبعض الآخر يدينه ويتخلى عنه، بينما تقف زوجته شامخة تضرب عرض الحائط بقواعد السلوك القويم في مواجهة أعضاء اللجنة الموقرة، وتقذف في وجوههم بما يقلل من شأنهم ويدين ما يفعلونه، كما ترفض مصافحة تيلر الذي تراه خائنا للصداقة بعد أن جاءت شهادته مشوبة بالإدانة!

ولعل من أفضل مشاهد الفيلم مشهد اللقاء في البيت الأبيض الذي يجمع أوبنهايمر بالرئيس الأمريكي هاري ترومان (يقوم بالدور ببراعة غاري أولدمان) فالرئيس يثني عليه، وعندما يسأله عن لوس ألاموس وماذا يفعلون بها الآن بعد أن انتهى الأمر، يكون رد أوبنهايمر: لتعيدوها إلى الهنود. ثم يبدي ترومان حماسا شديدا وهو يردد أن السوفييت لن يتوصلوا قط إلى صنع القنبلة الذرية، ويريد إنتاج المزيد منها والانتقال الى صنع القنبلة الهيدروجينية. إلا أن أوبنايهمر ينصح بالتروي، وفجأة يقول لترومان إن يديه ملوثان بالدماء. فيتطلع إليه ترومان ويجيبه: أنا الذي اتخذت قرار إلقاء القنبلتين لا أنت. اليابانيون لا يلقون بالا لمن صنع القنبلة بل لمن ألقاها عليهم!

هناك ميل إلى إبراز معاناة أوبنهايمر الذي أوصل بلاده إلى القمة، ثم اتهم بالعمالة والخيانة وخضع لاستجواب طويل يستغرق مساحة كبيرة من الفيلم من دون ضرورة درامية فقط لمجرد أن يقال لنا إن أوبنايمر لم يلق من جانب حكومة بلاده سوى كل إنكار وتنكر، وأنه بعد أن بلغ القمة، هبط إلى القاع خضضا مع قرار لجنة التحقق سحب الترخيص الذي يسمح له بالاطلاع على المعلومات والأسرار المتعلقة بالأمن القومي.

وهذا هو الجانب “التراجيدي” في الشخصية وفي الفيلم، لكنه ربما كان في الواقع أكثر قسوة عما نراه في الفيلم.

الفيديو

Visited 5 times, 1 visit(s) today