“الفلك الروسي”.. الإنجاز التقني والرؤية الإخراجية

Print Friendly, PDF & Email

صنع المخرج الروسي ألكسندر سوكوروف فيلما مهما عام 2002 ربما يكون من أهم الأفلام في الألفية الجديدة هو فيلم “الفلك الروسي”  Russian Ark وهو الفيلم الثاني الذي أشاهده لسوكوروف بعد “فاوست” Faust  المأخوذ عن رواية جوتة الشهيرة والذي نال الجائزة الكبرى في مهرجان فينسيا عام 2011.

في سان بطرسبرج داخل قصر الشتاء الملكي ومتحف الأرميتاج الشهير نشاهد العديد من اللوحات العالمية والتماثيل الرائعة ونتابع لقطات لمشاهد مختلفة وأزمنة مختلفة لتاريخ روسيا، كل منها في غرفة من غرف القصر: بطرس الأكبر يعاقب أحد جنرالاته، كاترينا الثانية تحاول أن تجد مكان مريحا حتى في الرواق المكشوف بين الغرف رغم الطقس البارد و تساقط الجليد، ونيقولا الأول يستقبل وفدا دبلوماسيا من شاة إيران للإعتذار عن مقتل أحد السياسيين الروس في إيران، ونيقولا الثاني آخر قياصرة روسيا، يتناول الطعام مع بناته الأربع وابنه وزوجته، ومشهد هامس لمدير المتحف وابنه في عصر ستالين يتحدثان عن ضرورة زيادة الاهتمام بالمتحف، ونجار يصنع توابيت للقتلى أثناء حصار الألمان للمدينة في الحرب العالمية الثانية.

وسط كل تلك المشاهد يبدو رجلان دخيلان على المكان والزمان، أحدهما يتسلل إلى القصر بين مجموعة من ضباط روسيا القيصرية وهو شبح لا يراه أحد ولا يسمعه ونشاهد الفيلم من خلال عينيه وهو الراوي الذي نسمع صوته كذلك وهو يمثل المخرج سوكورف نفسه، والآخر رجل أوروبي غريب الأطوار يرتدي ملابس سوداء، وهو أيضا غريب على المكان، يراه الحراس لكنهم يتضايقون من وجوده ويحذرونه دائما بأنه ليس مسموحا له التواجد هنا.

يستطيع الأوروبي رؤية الرجل الشبح من ضمن من يراهم من الأشخاص والأشياء غير الطبيعية والتي يبدو أنه الوحيد القادر على التواصل معها، ويأخذه ويأخذنا معه في رحلة مثيرة حالمة كأنها رؤية في عالم آخر يتلاشى فيه الإحساس بالزمان والمكان الحقيقيين.

المهم في الفيلم أنه تم تصويره بالكاميرا المحمولة”Steadicam في لقطة واحدة مستمرة بدون قطع مونتاجي لمدة 90 دقيقة. سوف نتذكر هنا الخلاف بين مونتاج سيرجي إيزنشتين وميزانسين أندرية بازان، وسوف نتذكر فيلم ألفريد هتشكوك  “الحبل” Rope (1948) الذي تم تصويره هو الآخر في لقطة واحدة متتابعة رغم ما بين الفيلمين من إختلافات، حيث جعل التصوير الرقمي سوركوف قادرا على تصوير اللقطة دون توقف، في حين اضطر هتشكوك إلى استخدام المونتاج في بعض المواضع ولكنه أخفاها بذكاء.

في الفيلم الروسي تعامل سوكروف مع مجاميع كبيرة من الممثلين، وفي مساحة أكبر مما يجعل تخطيط الحركة للمثلين والكاميرا أكثرا تعقيدا من فيلم هيتشكوك الذي يدور بين أفراد معددوين في مكان صغير بحبكة بوليسية بسيطة، سوف نتذكر ذلك، ولكن الأكثر أهمية ليس الإنجاز التقني، إنما الرؤية الإخراجية التي استوعبت هذه التقنية، فليس مهما أن الفيلم استخدم مجاميع تصل إلى ألف شخص أو أكثر واستخدم ثلاثة أوركسترات موسيقية وغطت أحداثه ثلاثة قرون زمنية مختلفة وتم تصويره في 33 غرفة من غرف متحف الأرميتاج، ليس مهما أن مدير التصوير وقف خلف الكاميرا ليصور 90 دقيقة مرة واحدة ،وليس مهما أن خطأ بسيطيا من أحد الممثلين الثانويين في لقطة عابرة قد يؤدي إلى إعادة الفيلم كله، وليس مهما أن مئات من الأفراد كان عليهم التدرب على رقصة تستمر لمدة عشرة دقائق متواصلة، وليس مهما أن الكاميرا كان عليها أن تجد طريقها بين هذا الحشد الكبير بحركة مرسومة بعناية ومتقاطعة مع حركة الممثلين.

رؤية سوكوروف

كل ذلك يجعل الفيلم إنجازا تقنيا فريدا بحق ولكن ما يجعل الفيلم مميزا هو رؤية سوركوف في توظيف التقنية فلسفيا وبصريا فهو هنا استطاع خلق معايشة للماضي ليست بالمعنى الدرامي ولكن بالمعنى الإستكشافي فاللقطة الواحدة أعطت الإنطباع بحقيقية المشهد التاريخي أو أنه موجود فعلا كحدث مستقل، وعلى الكاميرا أن تستكشفه. استخدام اللقطة الواحدة هنا أشبه بحركة العين عندما تتأمل لوحة تبدأ من نقطة ثم تتحرك لا إراديا حركة ناعمة بطيئة من نقطة إلى آخرى، ومن جزء إلى آخر، يمينا ويسارا وإلى أعلى ثم إلى أسفل حتى تصل إلى الإطار وتفهم الصورة في مجملها بعد أن تداخلت مع تفاصيلها، وتعايشت مع حالتها الإبداعية في الزمان والمكان، وشعرت بروحها الخفية التي تجمع تفاصيلها البسيطة في صورة كلية متناسقة.

هذه الحركة الإستكشافية جعلت المشهد التاريخي يبدو أصيلا وحقيقيا، كأنه يحدث فعلا في زمانه ومكانه، أو كأنك تقرأه في كتاب، كما أضفت عليه الفخامة والوقار والرهبة. تتسلل الكاميرا إلى احدى الغرف، وتأخذ نظرة جانبية حائرة، وتقترب من الممثلين ملتفتة يمينا ويسار ثم تأخذ نظرة عامة وتقترب من مركز الحدث لتبتعد مرة آخرى لاقطة التفاصيل البسيطة في رحلة العودة والانسحاب وفي التقاطها شيئا بسيطا هنا أو هناك تتمايل في خفة لتتجاوزه إلى تفصيل آخر وراءه، وتصبح الكاميرا بنفسها في عمق الصورة.

 هذه الحركة الحالمة للكاميرا وهذه المعايشة الإستكشافية للتاريخ صنعت الصورة الكلية والحالة الذهنية التي تستوعب داخلها الأحداث المختلفة المتباعدة في الزمان والتي لا تحكي شيئا واحدا أو محددا، والفن الحقيقي وحده هو القادرعلى هذا التجريد الذهني الخالص.

يتذكر سوكوروف بحنين فخامة روسيا القيصرية، ويتساءل عن الحضارة الروسية وانتمائها أو انفصالها عن الحضارة الغربية وعن حقيقة الروح الشرقية الكامنة في موسيقى رحمانينوف وريمسكي كورساكوف وروايات تشيخوف وديستوفسكيوغيرهم من صانعي مجد الحضارة الروسية. عندما يستمع الأوروبي في الفيلم إلى موسيقى روسية يسأل: من مؤلف هذه الموسيقى؟  فيرد الشبح: روسي. فيقول الأوربي: بل ألماني، فكل الملحنين ألمان.

والأهم أن سوكروف جعل من الممكن معايشة تدفق وانسيابية الزمن كأننا نرى الماضي بعيون الحاضر ونشعر به نفس واحد متصل يملأ صدورنا في جو أشبه بالحلم كما يقول الفيلم ” كل الناس تستطيع رؤية المستقبل، ولكن لا أحد يستطيع رؤية الماضي”.

إذا كنت مهتما بفناني عصر النهضة: مايكل أنجلو ورامبرانت ورافاييل وروبنز، فربما تجد الفيلم جميلا، وإذا كنت مهتما بالتاريخ الروسي قبل الثورة الروسية فربما تجده ممتعا ،أما إذاكنت مهتما بالسينما فتأكد أنك سوف تجده جميلا وممتعا.

Visited 77 times, 1 visit(s) today