“المحكمة”.. عندما تتحول قضايانا إلى ساحة للفرجة

Print Friendly, PDF & Email

يجيد السيناريست أحمد عبد الله رسم الشخصيات، خاصة تلك التي تدور مصائرها في مساحات زمنية ومكانية ضيقة، كما رأينا في أفلام: كباريه، الفرح، الليلة الكبيرة، ساعة ونصف. وتقوم الدراما في هذا النوع من الأفلام، غالبا، على مجموعة من القصص القصيرة المنفصلة، والتي لا يجمعها سوي عنصري المكان والزمان المحدودين، والمصير الكارثي (المأساوي) الذي ينتظر الشخصيات في نهاية الفيلم مع تصاعد الأحداث الصغيرة والأزمات الخاصة التي تعيشها كل شخصية على حدة، كأن ينفجر ملهي أو ينقلب قطار أو حتي يهطل المطر بغزارة فوق رؤوس الناس!

ويلعب البعد الكارثي دورا مهما في تحقيق النجاح الجماهيري، وفي إضفاء مسحة ميتافيزيقية ترضي الناقد الباحث عن معني أو دلالة تجاوز البنية المتشظية للأحداث والشخصيات. وربما كان غياب هذا البعد في الفيلمين الأخيرين ” ٢٠٠ جنيه” و “المحكمة” سببا في عدم تحقيق النجاح المتوقع لهما بالرغم من أن المخرج هو محمد أمين صاحب البصمة الواضحة في أفلام الكوميديا السوداء.

وربما كان اجتماع أحمد عبد الله ومحمد أمين لم يحقق الكيمياء المطلوبة لإنجاح العملين بما يتناسب مع تاريخ كل منهما، لأن أمين كان يكتب أفلامه بنفسه، وعبد الله كان يكتب لسامح عبد العزيز، وليس من المستبعد أن تكون هناك اختلافات في الرؤية السينمائية، على مستوي الكتابة، بالرغم من أن كلاهما يميل إلى تقديم رسائل مباشرة ولا يهتم كثيرا بإبراز الأبعاد الجمإلىة في العمل.

وفي هذا السياق، يأتي فيلم “المحكمة”، الذي يحتوي على ثمان قصص مختلفة ومنفصلة ولا يضمها سوي ساحة المحكمة، لأنها في الحقيقة قضايا معروضة على القضاء وتنتظر الحكم. والمتأمل في هذه القضايا سيلحظ أنها، جميعها، مستمدة من الواقع، وتحديدا من الحياة الاجتماعية في مصر خلال العامين الماضيين، فهي تضم قضايا الثأر والميراث والخيانة الزوجية والتحرش والفعل الفاضح والاغتصاب والتحول الجنسي والقتل الرحيم.

مرّ الثلث الأول من الفيلم، المخصص للتعريف بالشخصيات، بطيئا ومملا ولم تظهر فيه أجواء المحكمة، المعروفة يصخبها وضجيجها، كما ينبغي، ما يجعلك تشعر وكأن المشاهد بلا روح، ربما لأن التصوير كان داخل ديكورات مدينة الإنتاج الإعلامي وليس داخل محكمة حقيقية، وربما لأن التصوير كان في ظل جائحة كورونا وما فرضته التدابير الوقائية من تقليل للتجمعات. وعلى أي الأحوال فقد تحسن الإيقاع في الثلثين الأخيرين وصار إيقاع الأحداث أكثر سرعة خاصة أن زمن الفيلم كان قصيرا (ساعة ونصف)، وهي مسألة خدمت الإيقاع وأضرت بزمن الأحداث الذي جاء أقل مما يجب بالنسبة لكل قصة. وبهذا المعني غابت تفاصيل كثيرة عن الحبكة حاول السيناريو أن يعالجها في حدود الزمن المتاح فجاءت بعض القصص مبتورة وغير مقنعة في بنائها مثل قصة غادة عادل التي قتلت أمها المريضة بالسرطان حتي تريحها من عذاب الشعور بالألم، وقصة الشاب المتعلم (أحمد خالد صالح) الذي قتل صديق عمره (محمد مهران) استجابة لإلحاح الأم ودفعه للأخذ بالثأر. وقصة الطالب الذي تحول إلى طالبة (جميلة عوض) ولم تعترف به الكلية وتخلي عنه الجميع بما فيهم الأب والأم اللذان تحول موقفهما من النقيض إلى النقيض خلال دقائق معدودة!

حاول الفيلم أن يقدم نقدا اجتماعيا وتشريعيا على غرار فيلم ” أريد حلا” بنحو ما صرح أحمد عبد الله في أحد اللقاءات الصحفية، وقد نجح الفيلم في ذلك إلى حد غير كبير، لأن الأفلام التي تنجح بدرجة كبيرة في تقديم هذا اللون من النقد، بحيث يصل تأثيرها إلى درجة تعديل القوانين تعتمد على قصة واحدة وتعالج قضية واحدة على مدار الفيلم ما يمنح السيناريو الفرصة كي يطرح إشكإلىته من كافة جوانبها حتي تُحدث التأثير المطلوب.

ولهذا السبب اعتمد الفيلم كثيرا على أداء الممثلين وموسيقى عمرو إسماعيل لتعويض القصور الذي شابه في بعض القصص. فالأداء كان مرتفعا لدي معظم الممثلين وعلى رأسهم فتحي عبد الوهاب وأحمد داش ومحمد على رزق وجميلة عوض وسلوى عثمان وصلاح عبد الله رغم قصر المساحة الممنوحة لهم. والموسيقي كانت ملاءمة للجو النفسي للشخصيات ومع تصاعد وتيرة الأحداث، غير أنها لم تكن كذلك فيما يخص الجو العام للمحاكمات، فقد جنحت إلى تحقيق نوع من الإثارة يناسب التشويق البوليسي بنحو أكثر، خاصة في قضية مني حسين، القصة الأقوى والأفضل في الفيلم.

وقد كان السيناريو موفقا في كسر رتابة المحاكمات والخروج بالكاميرا، عن طريق الفلاش باك، لخلق نوع من الجدلية بين ما يتردد على ألسنة الشخصيات داخل قاعة المحكمة، من صدق أو كذب، وبين ما كان يحدث في الواقع، في مفارقة تجعل المشاهد أكثر وعيا بحقيقة الادعاءات التي تبديها الشخصيات بنحو يفوق ما يعرفه القاضي الذي لا يدرك أكثر من الأقوال والأوراق التي أمامه، ما يجعل المُشاهد بمثابة قاض آخر أو درجة ثانية من درجات التقاضي.

بالرغم من أن أحمد عبد الله قد انتقي موضوعات المحاكمات بعناية، إلا أن النزعة الخطابية لدي بعض الشخصيات أضعفت بعض القصص وأفقدتها الكثير من العمق مثل شخصية الفنانة المتهمة بتصوير فيديو كليب فاضح (نجلاء بدر)، والتي وقفت تدافع عن قضيتها بتقديم رسالة أخلاقية مباشرة تدين فيها المجتمع الذي يرتكب في كل يوم من الجرائم ما هو أكبر من الكليب الفاضح! وشخصية سلوي عثمان التي قدمت خطبة عصماء للمعني الجوهري لصلة الرحم في قضية توريث العم. ويحسب للسيناريو أنه لم يجنح إلى إلىوتوبيا، فقد كان واعيا جدا بالواقع القضائي والتشريعي الذي يأبي إلا أن يطبق القوانين المفروضة مهما علت نبرة التعاطف الإنساني أو تفلسف المدّعون كما وضح في أحكام قضايا القتل والاغتصاب والميراث.

جميلة عوض

وبالرغم من نمطية الشخصيات وتقليدية الأحداث، يمكننا أن نفهم الفيلم من زاوية جديدة إذا ما وضعنا في الاعتبار أن القضايا التي تناولها السيناريو كانت في معظمها مادة خصبة لمقاطع الفيديو التي تم نشرها على إلىوتيوب خلال السنوات القريبة الماضية، وكانت مثارا للجدل على مواقع التواصل الاجتماعي. فما يميز هذه الحقبة من الزمن هو غلبة البعد المشهدي على الحياة بحيث صرنا نحيا في مجتمع فضولي يجد متعته في مراقبة الآخرين أو تصوير مجده الشخصي كي يشاهده الآخرون، حتي أن الفيلسوف الفرنسي جي ديبور أطلق عليه اسم “مجتمع الفرجة” أو “مجتمع الاستعراض”.

وتتبدي هذه المشهدية في أكثر من موقف داخل أروقة المحكمة، فنجد ذلك الرجل المسن (سليمان عيد) الذي يستهويه حضور جلسات القضايا بالرغم من كونه ليس طرفا فيها، وفي ذلك المحامي الشاب (كريم عفيفي) الذي حضر معه الأب والأم لمشاهدة مرافعته في أول قضية له كمحام، وكانا حريصين على تسجيل هذه اللحظات من خلال التصوير سيلفي مع الابن في قاعة المحكمة!

ويمكن أن يُقال الشيء نفسه عن الشاب المراهق الذي جاء إلى المحكمة خلف الفنانة المشهورة صاحبة الكليب الفاضح حتى يتلقط لنفسه صورة بجوارها. كما أن قضية مني حسين ( مايان السيد) الفتاة التي تعرضت للاغتصاب والقتل من قبل شاب في سن الحدث ( أحمد داش)، صارت قضية رأي عام واحتشد لها الناس خارج المحكمة وداخل المحكمة من أجل “رؤية” تفاصيل المحاكمة.

ربما لم يعمد محمد أمين ولا أحمد عبد الله لإبراز البعد المشهدي في الفيلم، فلم يأت كهدف رئيس ولكن كعنصر صغير ضمن تفاصيل أخري كثيرة، غير أن وقائع جريمة سفاح الإسماعيلية، الذي فصل رأس ضحيته أمام المارة في الشارع، بينما وقف الجميع منشغلين بتصوير الحدث على الموبايل بدلا من التدخل لإنقاذ المجني عليه، تؤكد على هيمنة عنصر “الفرجة” في المجتمع، وتحتاج إلى فيلم آخر يكشف عن أسباب وطبيعة التحول الذي حدث في الوعي الجمعي للمصريين بحيث صار خيار الفرجة مقدما على خيار الفعل!

Visited 26 times, 1 visit(s) today