“الصورة الناقصة”.. تعود إلى الحياة مكتملة بالصلصال

لا تستطيع قوة في الحياة سجن الذاكرة، تلك الممارسة الحرة فينا التي تحتوي العالم صورا تفصيلية نكاد نلمسها. هكذا تمكن المخرج  الفرنسي الكمبودي ريثي بانمن أن يستخرج من ذاكرته الصور المفقودة الغائبة، في فيلمه الوثائقي “الصورة الناقصة” the missing picture، الذي يتناول جرائم حرب “الخمير الحمر” خلال فترة حكمهم، فيما أسموه وقتها “كمبوديا الديمقراطية” (1975- 1979)، تلك الفترة التي مرساول خلالها ابادة أكثر من خمس عدد السكان؛ أي حوالي 1.7 مليون نسمة من الشعب الكمبودي الأعزل، من أجل ترسيخ بناء مجتمع شيوعي يعتمد على العمل الزراعي، وينعزل عن العالم الخارجي بحسب معتقدهم .

أخذنا الفيلم إلى ذاكرة بعيدة تروي بدء الحكاية لنصل نحن للصورة الأشمل عبر تأمل البدء والمنتهى، لفترة مليئة بالتقلبات السريعة الحادة والتفاصيل، عاشها المخرج في طفولته، وذلك عبر عرائس من صلصال بتفاصيل وجوه معبرة مع تحريكها في بيئة بمؤثرات طبيعية ومزجها أحيانا بالصور الأرشيفية أو بالصوت المؤرشف، مع مؤثرات صوتية وموسيقية تحمل زمن الحكاية وبيئتها.

كل ذلك بمصاحبة راوٍ يروي الأحداث والذكريات يمثل المخرج ذاته، بوتيرة صوت حزينة بطيئة واحدة لا تتغير. لكن السرد يختلف ويتطور، فقد حمل صوت الراوي نفسه وأداؤه بهذا الإيقاع أسر الفترة وحصار الانطلاق والتلون.. حصار الروح، فكان التعليق معبرا وافيا دون ملل، رغم أن مساحة السرد استمرت طوال الفيلم فيما عدا لحظات أو دقائق بسيطة، إلا أنه كان هاما لا غنى عنه خاصة في قصة مرتبطة بوقائع حقيقية تاريخية تمتلىء بالمعلومات والتفاصيل، بل وبجمل ترسم بدورها صورا داخلية موازية للصورة البصرية وتكمل ملامحها بأسلوب عميق التعبير.

تبدأ ومضات هذه الجمل مع بداية الفيلم بشكل جاذب بجملة “في منتصف العمر تعود الطفولة للذهن كماء بطعم حلو ومر”  فندرك من هذه الجمل الأولى أننا بصدد الاستماع لقصة ذات مغزى، وهذا السرد أو التعليق الناجح هو جانب إيجابي في الفيلم خاصة مع استخدام اللكنة الثقيلة لإنجليزية الراوي التي نعرف أنهل ليست لغته الأولى، وبمثل هدوء وبطء إيقاع الإلقاء جاءت بداية صورة الفيلم هادئة كذلك بصمت يتسلل إليه الصوت تدريجيا مع صورة أقراص أفلام قديمة يبدو أن المخرج الراوي يتفقدها يبدو عليها آثار الزمن، وكأنه بها يبعث صورا للحياة.

ثم يأتي مقطع قصير لرقصة تقليدية لفتاة جميلة في زي تقليدي زاهي اللون ترينا مدى التضاد مع القادم من السرد، لتبدأ قصة الصلصال فنتابع أثناء السرد تفاصيل صنع دمى من الصلصال أو الفخار وتحديدا دمية تمثل رجلا يرتدي بدلة بيضاء هو والد الراوي، وهذا اللون الأبيض لملبسه الذي يمثل اللون التقليدي لملابس قومه يقودنا للمفارقة الدرامية والنفسية في الانتقال للنقيض حين يصبح الزي الأسود هو الزي القومي الملزم فيما بعد.

مجيء الموت

وتأكيدا لبروز هذه المفارقة والتضاد نرى العالم الأول للحياة الاجتماعية لمدينة “بنوم به ” في كمبوديا قبل غزو الخمير الحمر واحتفالاتهم من خلال عرائس الصلصال الزاهية الألوان والموسيقى والأصوات المرحة والحديث عن الأكلات والخيرات التي كانت وفيرة لتحل بدلا من كل ذلك بغزو الخمير الحمر، المجاعة والأمراض والموت واللون الأسود الدائم لإقامة جمهورية كمبوديا الديمقراطية.

ومن خلال هذا السرد النفسي والتاريخي للذكرى استطاع الفيلم عرض مساوىء الحكم الشمولي ومساوىء الشيوعية، فموت فردية وذاتية الإنسان يعني أن تموت فيه الحياة، فقد حرموا أي متعلقات أو ملكية خاصة، وأصبح الجميع أرقاما بلا ارتباطات.. فساد الصمت والبؤس الجميع، هجروا أرضهم فخلت مدينة كاملة من سكانها وصارت أرضا بلا إنسان، يجندون بعد ترحيلهم لمدينة أخرى في الزراعة والأعمال الشاقة، تحيطهم الأعلام الحمراء بلون الدماء التي سالت تعذيبا أو إعداما إن تخاذل أحدهم أو خالف أمرا.. كل ذلك باسم صناعة عالم مثالي يعتبر تجسيده ومتابعة مردوده على الناس أكبر سخرية منه.

يقارن الفيلم بين الصورة التي لم تفقد والتي أخذت من لقطات أرشيفية يسودها الشعارات والتهليل والعمل بابتسامة مصطنعة تزين وتزيف الواقع، والصورة المفقودة الغائبة التي تحملها الذكرى التي صارت من طين.

الشخص الذي يمثل الراوي هو الوحيد الذي يرتدي زيا ملونا في الفيلم يعكس صورته الداخلية فهو وحده الذي لم يتأقلم ولم يتعلم، وما زال يحلم ويتحرر بالذكرى والذاكرة، فاللون في هذا الوضع شيء من الحرية، ونشعر كذلك بتحرر أبيه حين حلقت روحه في السماء وفارقت واقع رفضه حتى الموت بامتناعه عن الطعام متمسكا بآدميته رافضا طعام الحيوانات وماءهم.

الكاميرا والتماثيل

وقد تعاملت الكاميرا مع عالم الصلصال والتحريك تعامل الكاميرا مع الفيلم الروائي في زواياها وحركتها فنتجول معها وسط المزارع والأنهار بحركة سريعة أو بطيئة.. بلقطات فوقية ماسحة ” كعين الطائر” أو مقربة تبين تعبيرات الوجوه ، مع المزج بين عرائس التحريك والصور المسجلة.

 وفي الحقيقة فإن فكرة دمى الصلصال مناسبة لفكرة الفيلم من حيث تغير أقدار البشر كالدمى من جهة، ومن جهة الإحساس بالحكاية السردية والذكرى في ذهن صبي لم يكن يتجاوز ثلاثة عشر عاما.

ومن بين الصور الهامة قاسية المدلول تعنيف طفل لأمه لأخذها حبات من المانجو إثر معاناة من الجوع فتؤخذ لتعدم صامتة، وكذلك أخذ أم الذرة من طفلها الجائع لأنهم “شرفاء” حتى مات الطفل جوعا، إضافة لحركة الكاميرا الهامة في تجسيد الأحداث وتأثير الصورة فإن المونتاج كان داعما قويا لها خاصة في مشهد موت الكثيرين تباعا في المشفى وتصوير خلو سرير ثم امتلائه وخلو المجاور وهكذا.

وباقتراب الفيلم الغني بالعمق الإنساني من نهايته يبدأ استدعاء جمل جاءت في بداية السرد لتقع في محلها الطبيعي من السرد بالوصول لها كالجملة الأولى “في منتصف العمر تعود الطفولة للذهن كماء بطعم حلو ومر” لتتصل دائرية الحكاية. كما تتكرر صور مميزة كنفس اللقطة القريبة لموج البحر المتراطم كما ترتطم النفس المعبأة بالذكرى والتي جاءت أيضا في البداية، ورغم اتضاح المعنى المقصود بالصورة المفقودة إلا أن الراوي يخبرنا في النهاية  أنه ما زال لم يجدها، يقول ذلك بمصاحبة مشهد يتكرر لإهالة التراب لدفن ميت في حفرة ، تبين ألمه الباقي الذي يحول دونه ودون صورته الناقصة ودون إهالة التراب عليها، وإن كان يحمل الكثير من الصور الناقصة. 

Visited 88 times, 1 visit(s) today