الصبي ومالك الحزين.. صراع العزلة والحياة

Print Friendly, PDF & Email

منذ عدة عقود، انطلق مشروع استوديو “غيبلي” لأفلام الرسوم المتحركة الذي أنشأه المخرجان إيساو تاكاهاتا وهاياو ميازاكي؛ ذلك الأستوديو الذي صنع لنفسه اسمًا ناصعًا في عالم الأنيميشن والسينما.. داخل اليابان وخارجها.. وظل المخرج الكبير هاياو ميازاكي في قيادة دفة الأستوديو حتى أعلن اعتزاله المفاجيء عام 2013.

من المعلوم خلف الكواليس أن ميازاكي لم يكن راضيًا عن تجربة ابنه جورو ميازاكي في الإخراج السينمائي، ونشبت بينهما خلافات لم يرأب صدعها سوى قدوم حفيد ميازاكي للحياة. وفي 2015 أعلن ميازاكي عودته من خلال فيلم جديد يحمل عنوان “كيف تعيش” -وترجمته بالإنجليزية الصبي ومالك الحزين- وربما كان مولد حفيده بمثابة عودة الإلهام والشغف لعمله بعدما بدا لفترة طويلة متجهم بشأن مصير الأستديو ومآل حياته وهو ما ظهر جليًا في الفيلم التسجيلي مملكة الأحلام والجنون “The Kingdom of Dreams and Madness”.

يفتتح فيلم الصبي ومالك الحزين “The Boy and The Heron” على طفل يعيش أهوال الحرب العالمية إذ يستيقظ على صرخات وصيحات أهل بلدته اليابانية على إثر حريق كبير في مستشفى تعمل بها والدته، وينتهي الحادث بموتها. يأخذنا بعدها الفيلم في رحلة لمعاينة حياة الصبي بعد انتهاء الحرب ويتغلغل في صراعاته الداخلية مع انتقال والده لمدينة أخرى وزواجه من خالته، وذلك البرج المهجور الذي سيكتشفه ويدلف منه إلى عالم سحري جديد من عوالم ميازاكي الشيقة والمثيرة.

في البداية يجدر القول بأن ميازاكي في هذه التجربة يستكمل ما بدأه في فيلمه السابق هبوب الرياح “The Wind Rises” في النزوح قليلاً تجاه لمسة أكثر قتامة -وإن احتفظت بصبغتها الطفولية المبهرجة- على المستويين الدرامي والتقني مما عهدناه عنه في أفلامه القديمة. إلا أنه يبقى وفيًا لعاداته عندما يستحضر مجددًا ذلك الخيال الحالم في توليف عالم سحري ساهب في البراءة في محاولة لدفع الصبي -بطل الحكاية- إلى الغوص فيه والهروب به من واقعه المُؤلم.

هنا تحوم غلالات الحرب من جديد في سينما ميازاكي، لا ينسى المخرج ذلك التأثير الذي تركته عليه غارات الطائرات على مدينة طوكيو حينما كان طفلاً، والتي ألقت بظلالها على معظم أفلامه وانطلقت منها حكايات أطفاله. ميازاكي يشدد دائمًا على أنه يمنح مشاهديه من الأطفال الأولية في صناعته لأفلامه؛ يريد أن يزيح عنهم ثقل الحياة كما أراد لنفسه الصغيرة أن يجد من يزيل عنها ثقل الحرب.

يبدأ كل شيء في الفيلم من العائلة كمحور رئيسي ويتسلل منها لأفكار فرعية أخرى. يستدعي ميازاكي روح الطفل المعتادة بداخله، غير أن ما يزيد في هذه التجربة -تمامًا كسابقتها- هو أنه يستدعيها في حالة استنفار متطابق مع الواقع الذي يهرب منه. هنا يتمادى ميازاكي في تجسيد مدى اضطراب بطله الواضح وتكالب شكوكه إذ نجده -وربما للمرة الأولى في سينما الرجل- يترك بطله الصغير يتناول حجرًا ليجرح به رأسه عمدًا. لا تتوقف أحلام الصبي التي تظهر فيها والدته تندلع فيها النيران وهي تستنجد به، ولا يستسيغ حلول شقيقتها مكانها ولو ارتضى بالأمر. وعلى جانب آخر، نعرف أن جده الأكبر قد اختفى منذ سنوات داخل برج قد صنعه بنفسه وانعزل به إلى أن انهدم عليه، وهناك قوة تدفع الصبي للدخول للبرج. كذلك تسعى خالته للدخول إلى ذلك البرج عند اقتراب موعد ولادتها لجنينها وشعورها بالإخفاق تجاه لم شمل عائلتها الجديدة.

يشير ميازاكي إلى أن الحل الذي تهرع إليه العائلة من طوفان مشاكلها هو العزلة والانكفاء. وكذلك التقهقر إلى ماضي قد يجدوا فيه السلوى والإجابة. وهنا لا يمكن الإغفال عن قرار ميازاكي نفسه بالاعتزال عن السينما لسبب أو لآخر؛ فهو أيضًا اختار العزلة والإنفراد، وهو من عبر عن خوفه وانزعاجه من مصير الأستديو ومستقبله إذا خلت منه السينما.

ومع ولوج الفيلم إلى الجانب الخيالي الفنتازي من الحكاية، ودخول الصبي وخالته إلى ذلك العالم الآخر خلف البرج، لا يحاول الفيلم أن يزيل تلك العتمة -على الأقل في ظاهرها- بل على النقيض يظهر أمامنا عالم مليء بالبحار الهائجة والرياح العاتية، الببغاوات التي تتغذى على البشر، والبجع المفترس، وطائر مالك الحزين المخادع، ومخلوقات “الوارا وارا” اللطيفة التي تحترق في السماء.

يتناسق الجانب البصري الرسومي للحكاية مع تلك الرؤية. فنرى الكائنات المتخيلة تحتفظ بمظهرها البريء المُكمِّل لكل تلك العوالم والمخلوقات التي صنعها ميازاكي من قبل، ثم نكتشف أنها تُخبيء وجهًا آخر يرسم ارتباكًا مماثلاً لحيرة الصبي ومخاوفه. تتباين درجات الألوان على الشاشة لكن يسيطر عليها اللون الرمادي ودرجات ألوان داكنة بدرجة أكبر فضلاً عن إضاءة لا تبالغ في بريقها.

تتوافد على الشاشة كل تلك المعالم اليابانية التي لطالما برع ميازاكي في تشكيلها وتقديمها؛ معالم رمزية تستخدم الأسطورة اليابانية في إحالاتها لدعم أصالة حكاية بطلها وأحداث قصته؛ ومعالم مكانية معمارية تنهب من اليابان تارة ومن غيرها من الدول أخرى وتستلهم من المكان والمساحة كجزء لا يتجزء من رحلة الفيلم، ومن أجل ترسيخ ذلك في ذهن المشاهد لا يترك ميازاكي مساحة معينة وإلا وعاد ليزورها في مشهد أخر. وبالطبع تسيطر اللوحات الفنية لمختلف الفنانين على تكوينات الفيلم، تلك التي صارت أقرب لطقوس فنية متواترة في جميع أفلام ميازاكي.

تتضح بوصلة الفيلم ونوازع ميازاكي من صنعه تدريجيًا حينما نتأكد خلال تلك الرحلة الخيالية أنه لا يسعى للهروب بالطفل المنكسر-أو يجدر القول روح الطفل المهمومة داخل ميازاكي- وأخذه من الواقع إلى سحر عوالمه كي يخفف من وطأة الحياة، لكنه في الحقيقة يعيد اكتشاف الواقع من جديد وبمنظور أشبه بالبعث الجديد.. نرى الصبي يواجه كل تلك المخلوقات العجائبية مصدومًا من شرها في البداية ولكن سرعان ما يكتشف أن البجع المفترس محكوم ببيئته وجفافها من الأسماك. والببغاوات خُلِقت لتقتات على لحم البشر وتخشى نهاية عالمها الأوحد.

يرى الصبي والدته في نسختها الشابة وتحمل معها قدرة خارقة وهي نفث “النار”، وفي أول مرة يصادفها يراها تحرق السماء ويحترق معها مخلوقات “الوارا وارا” الطيبة، لكنه يعلم حينها أنه لا يمكن لتلك المخلوقات أن تصعد وينفذ بعضها لعالمنا إلا إذا احترق بعضها في السماء؛ يعلم أن دورة الحياة هي الخلق والفناء، وأن نار احتراق والدته لا بد وأن يعقبها حياة. ثم طائر مالك الحزين المخادع الذي قاد الصبي بمكره إلى ذلك البرج وعالمه، يتحول لصديق وانعكاس للصبي نفسه وطبيعته.

نسير مع الصبي في رحلته.. رحلة بعثه ومغامرته مع والدته وخالته ومالك الحزين إلى أن نصل معه إلى جده المنعزل الذي يسعى جاهدًا لربطه بهذا العالم الآخر، وأن يرث مملكته السحرية من بعده. هنا يقف الفيلم على عتبة الصراع الأهم لروح ميازاكي الحائرة؛ الجد الهرم اليائس الذي خارت قواه وارتضى بما قام به وحققه، وذلك الصبي الذي يحاول نفض غبار الارتكاس عن كاهله، واستئناف المسير في سبيل الحفاظ على الجانب البريء الحيوي داخل أعماق المخرج الياباني.

هذا الصبي ليس بساذج؛ لقد رأى كل الشر بذلك الواقع المحيط به.. رأى الشر بداخل نفسه ذاتها.. لكنه قرر أن يؤمن بالحب كأمل في النجاة.. قرر أن يرى الببغاوات تستحال إلى طيور صغيرة لطيفة.. قرر أن يمسك بيد خالته ويعتنقها كوالدته الجديدة.. قرر أن يدع نيران أمه تتحول لطاقة حياة وذكرى جميلة لن ينساها. لن يستسلم في النهاية إلى عزلته وهرمه، وسيتصالح مع العالم بقسوته وعقباته.

مرة أخرى يشكل تعاون ميازاكي مع مؤلفه الموسيقي الأثير جو هيسايشي تناغم لا مثيل له وكأن المقطوعات الموسيقية قادمة من نفس النسيج والخيال الصانع لذلك العالم، تقفز فرحًا مع الصبي وخيبة لحزنه، واندهاشًا لتعجبه. مسيرة طويلة من التعاون بين المخرج والمؤلف امتدت منذ أربعة عقود ومازالت تسطر لنا تجارب بديعة.

على صعيد آخر، يقول منتج الفيلم سوزوكي توشيو، والذي هو صديق قديم امتد مشواره مع ميازاكي منذ بداية عملهم، يقول إنه حالما رأى شخصية طائر مالك الحزين، علم على الفور أنه تجسيد لشخصيته، وإذا ما نظرنا إلى تلك العلاقة التي تدرجت بين الصبي ومالك الحزين من مرحلة الغموض ومنها لحالة الامتعاض المتبادل ثم تؤول إلى صداقة قوية.. تلك الروابط التي جمعتهما على حدة شخصياتهما، كلها أمور تؤكد أن هذا الفيلم ربما هو أكثر أفلام ميازاكي ذاتية في مسيرته. خرج الفيلم للنور العام الماضي بعد أن امتنع سوزوكي (مالك الحزين المشاغب) عن عمل أية دعايا للفيلم والمقامرة على اسم ميازاكي، ويُمكن القول أنه نجح في رهانه.

في النهاية، تشير الأخبار الأخيرة إلى أن ميازاكي يخطط لمشروع جديد، لذا فهذا ليس بعودة وداعية بقدر أنه التماس جديد للحياة. ميازاكي الذي استمر في رفض عرض أفلام أستوديو “غيبلي” على المنصات الرقمية، وافق أخيرًا في عام 2020 على بيع حقوق أفلامه لها وهو ما مكنه من تمويل هذا الفيلم بحرية شبه كاملة وبلا حاجة لتدخل أو تسريع لعملية تصويره من الشركات المنتجة.

ولعل ميازاكي قرر بالفعل أن يُساوم الواقع كيلا يخسر البراءة.

Visited 3 times, 1 visit(s) today