“ويسترن” أسود في افتتاح مهرجان لندن السينمائي

Print Friendly, PDF & Email

على العكس من مهرجان كان السينمائي الذي لا يرحب بعرض أفلام شبكة نتفليكس مشترطا ضرورة عرضها أولا في دور العرض الفرنسية لعدة أشهر، كما يطالب اتحاد أصحاب دور العرض الفرنسية، يرحب مهرجان لندن السينمائي، ليس فقط بعرض أفلام نتفليكس في برنامجه الكبير بل ويعرض أيضا فيلما جديدا من أفلام نتفليكس في افتتاح الدورة الـ 65 مساء الأربعاء وهو فيلم جديد يمكن ترجمة عنوانه إلى “كان من الصعب سقوطهم” The Harder They Fall للمخرج البريطاني جيمس صامويل وهو في نفس الوقت، مغنى معروف ومؤلف أغاني، وهذا هو فيلمه الأول كمخرج. ومن المقرر أن تبدأ عروض الفيلم في دزر العرض البريطانية في 22 أكتوبر الجاري قبل أن عرضه على شبكة نتفليكس يوم الثالث من نوفمبر.

جيمس صامويل مخرج الفيلم، بريطاني ينتمي إلى أصول افريقية (سوداء) وهو يقدم في فيلمه الأول طاقما كبيرا من الممثلين السود البريطانيين والأمريكيين، يتصدرهم إدريس ألبا الذي وصف الفيلم بأنه “مدرسة جديدة في سينما الويسترن”.

وكما قدم المخرجون السود في الولايات المتحدة أفلاما ضمن سلسلة “شافت” وغيرها، ترفع من شأن البطل الأسود العنيف في سياق بوليسي، وتتوجه أساسا الى جمهور الأمريكيين من أصولا أفريقية، يسعى صامويل هنا إلى احياء دور الأفرو- أمريكيين في عالم الويسترن.. أو بطولات الغرب الأمريكي. ولكن ان كان الفيلم يستند الى بعض الشخصيات التي لها وجود فعلي في تاريخ الغرب الأمريكي، إلا أنه يخلق من حول تلك الشخصيات أحداثا متخيلة بالطبع. والفيلم الذي يدور حول الانتقام، والعنف الذي يمارسه السود ضد رفاقهم السود أو بالأحرى، منافسيهم في عالم الاجرام، يجرد موضوعه بدرجة كبيرة، ويهتم أكثر بالأسلوب السينمائي، بتكوين الصورة وزوايا التصوير والإيقاع.. ولا شك أنه يجمل بعض علامات مدرسة سيرجيو ليوني في الإخراج، بل ربما يتجاوزه أيضا في جرعة العنف، ويميل أكثر إلى محاكاة سينما تارانتينو الذي سبق أن عمل معه.

عصابتان من السود في الغرب الأمريكي، تتنازعان لا على الذهب والمال، ولكن العصابة الأولى تسعى بقيادة زعيمها للانتقام من زعيم عصابة أخرى آخر خرج لتوه من السجن. أي أن الموضوع لا يثير الاهتمام، كما أن محاولة تجاوز مستوى العنف في أفلام الويسترن (البيضاء) مكشوفة، ومنها الكثير من المشاهد التي تحاكي ما سبق أن شاهدنا في أفلام قديمة. وربما يكون شريط الصوت الثري هو أفضل ما في الفيلم.

الفيلم التركي

أما أول فيلم شاهدته في مهرجان لندن السينمائي الـ 65 بعد فيلم الافتتاح، فهو الفيلم الكردي- التركي The Brother’s Keeper أي “حارس الأخ”. وهو الفيلم الروائي الثاني للمخرج الكردي فيريت كاراهان، وهو أيضا الذي كتب السيناريو عن تجربة شخصية له حينما كان يتعلم في طفولته في مدرسة داخلية في منطقة نائية. وكان هذا الفيلم أحد أهم الأفلام اتي عرضت في قسم بانوراما بمرجان برلين هذا العام.

يعتبر الفيلم مفاجأة حقيقية بمستواه الفني الكبير، وموضوعه الذي يجمع بين التراجيديا والكوميديا وينتقل بين العنصرين ببراعة ومهارة مشهود لها، لكنه ينتمي إلى المدرسة الواقعية، ويرصد الكثير من التفاصيل الدقيقة التي تحكم سلوك الأطفال في المدرسة الداخلية، وتباين شخصيات المدرسين، ويزيح تدريجيا القشرة الخارجية التي تغلف تلك الشخصيات، ليكشف عن الوجه الآخر، الهش، الذي يخفي قسوة وعنفا كبيرين. ومن خلال دراما بسيطة تبدأ بحادث صغير وتنمو وتدور من حوله كاشفة عن كثير من الجوانب المثيرة، يصبح موضوع الفيلم ليس فقط ما حدث لهذا الصبي الذي يرقد فاقدا الوعي، ولا ما لم يحدث له، بل يتخذ الفيلم من هذا الحادث، وسيلة لكشف المنهجية البيروقراطية، وثقافة العقاب والعنف، والتربية الصارمة للأطفال، وأساسا- ذلك الحرمان المضني من جميع وسائل الأمان والرحمة والحب داخل ذلك المجتمع الصغير.

يتميز الفيلم بمناظره الطبيعية في البيئة الكردية النائية المعزولة حيث تنتشر الثلوج التي لا تتوقف عن السقوط، والأشجار العارية الشاحبة، وتلك العزلة المخيفة عن العالم: صعوبة الاتصالات الهاتفية، فساد المنظومة التي تجمع بين الكبار والصغار.. فالكبار أي المعلمون وناظر المدرسة، الذين يفترض أن يكونوا قدوة للتلاميذ، لا يبدو أنهم يهتمون سوى بتسيير أمورهم الشخصية ولو عن طريق الانحراف والغش.

إلا أن حادثا بسيطا ينسف القشرة الباردة المتجهمة الموجودة على السطح ويكشف عن “آلية” العنف التي تسيطر على المتجمع الصغير الذي يرمز بالطبع، إلى المجتمع الكبير في تركيا نفسها، وغالبا أيضا، ما تمارسه السلطة التركية على الأقلية الكردية من ترهيب مستمر.

حادث بسيط يقع يصبح هو المدخل الى جميع الشخصيات، وهو الذي يكشف ما تحت القشرة السطحية من جمود وتزمت واتباع صارم للقواعد البيروقراطية، كما يكشف أساسا، عن غياب الثقة من جانب الكبار في الصغار. إنه يضع جميع الموظفين والعاملين في المدرسة بمن فيهم عامل غرفة التدفئة، وسائق سيارة المدرسة، وغيرهما، جنبا الى جنب مع المدرسين والناظر. كلهم يتسترون على خيباتهم وفسادهم. الوحيد الذي يبدو كشخصية إيجابية هو مشرف غرفة الصحة المدرسية الذي يبدي اهتماما بالطفل الذي يسقط مريضا، يتوقف عن الكلام تماما ويمتنع عن تناول الطعام ويرقد بين الحياة والموت.

ما حدث هو أنه نتيجة للعقاب الشديد وخوف التلاميذ الصغار من العقاب الذي ينزله بهم المدرسون لأي هفوة صغيرة، يتسلل طفلان الى غرفة التدفئة لأخذ “دوش” ساخن بعد تعرضهما للعقاب من جانب المدرس، عن طريق وضعهم تحت الماء البارد في حين أن درجة الحرارة في الخارج تبلغ 35 درجة تحت الصفر.

لا توجد أدوية في المدرسة سوى الاسبرين. لكن الطفل لا يعاني من ارتفاع في درجة الحرارة. ما الذي وقع بالضبط؟ لا نعرف سوى قرب النهاية.. لكن هذا كما قلت ليس هو المهم، بل الأهم أن نرى كيف أصبح الجميع يكذبون ويرغبون في النجا بأنفسهم على حساب الحقيقة، بمن فيهم أيضا الطفل الآخر “يوسف” صديق الطفل المريض “مهمت” الذي يتضح لنا أنه كان يكذب في روايته للقصة خشية العقاب.

في جوانب كثيرة يشبه هذا الفيلم الأفلام الإيرانية (المنياتير) التي تنطلق من حالة ما أو حادثة صغيرة لتتفرع الى عشرات التفاصيل الصغيرة الأخرى التي تتشابك معا وصولا إلى “التنوير” أي الكشف عن الأسباب الكامنة العميقة.

من أكثر عناصر الفيلم تميزا، التصوير في تلك المنطقة النائية بمناظرها الطبيعية، ومن دون أن حيل أو ألاعيب الكومبيوتر التي أصبحت مألوفة، بل إن التصوير يتم بفعل خلال هطول الثلوج، إلى جانب عنصر التمثيل المتقن الذي يبدو شديد الاقناع، وخصوصا دور سوف الذي يقوم به طفل لم يسبق له الوقوف أمام الكاميرا، واقتضى الأمر من المخرج اجراء اختبار لأكثر من مائة طفل الى ان عثر على الطفل المناسب الذي أدى الدور ببراعة تامة وصمد بوجه خاص في اللقطات القريبة بتعبيرات وجهه التي تفضح مشاعره تجاه المدرسين الذي يكذبون أو يتسترون على الحقيقة، ثم وهم يقفون عديمي الحيلة وخصوصا المار الذي يتصل بخدمة الإسعاف إلا أنه يجد جميع سيارات الإسعاف مشغولة.

ويصنع المخرج بعض المشاهد الطريفة التي تخفف من وطأة الأحداث من ناحية، كما تعد سخرية من عقم البيروقراطية، من ناحية أخرى. فهو يجعل مثلا كل من يدخلون غرفة الصحة في المدرسة ينزلقون بسبب وجود بعض الماء على أرضية مدخل الغرفة. ولكن لا أحد يهتم باستدعاء من يجفف الأرضية الا بعد أن ينزلق أحدهم ويصاب بجروح. وكذلك حينما نرى استحالة اجراء مكالمات تليفونية بالهاتف المحمول بسبب ضعف الشبكة إلا بعد وضع كرسي فوق منضدة والصعود فوق الكرسي!

الفيلم في النهاية درس لمخرجي العالم الثالث الراغبين في تحقيق أفلام كبيرة بإمكانيات صغيرة ومن خلال مواضيع بسيطة لكنها عميقة تلمس المشاعر الانسانية في كل مكان.

Visited 35 times, 1 visit(s) today