“الدجال” أفكار مدهشة وشخصيات مفعمة بالغرابة

Print Friendly, PDF & Email

عُرفت المخرجة البولندية المخضرمة أنجليكا هولاند (71 سنة) باهتمامها الكبير بقضايا الفرد والسلطة، وبالموضوع السياسي، وبالأخصّ موضوع الهولوكوست الذي عالجته في أكثر من فيلم من أفلامها. أما من الناحية الدرامية فتهتم هولاند كثيرا ببناء الشخصية وإبراز أبعادها وتناقضاتها المختلفة، وهي تعتبر كل إنسان حالة قائمة بذاتها، وترى أنه لا يوجد ضحايا ومذنبون بشكل منفصل تماما، بل توجد التضحية والذنب في كل طرف.

خلال الفترة الأخيرة تركّز اهتمام أنجيليكا هولاند على تصوير شخصية حقيقية في سياق عصرها، وكيف واجهت المتغيرات السياسية من حولها. وبعد فيلم “مستر جونز” Mr Jones  الذي عرض بمهرجان برلين العام الماضي، ويتناول التجربة المحفوفة بالمخاطر التي خاضها الصحافي البريطاني غاريث جونز، وكان أول صحافي في العالم ينجح في كشف حقيقة المجاعة الكبرى التي أحدثتها سياسات ستالين في أوكرانيا في ثلاثينيات القرن الماضي.

وإذا كان “مستر جونز” مزيجا بين السيرة الشخصية وبين التاريخ والسياسة، فأحدث أفلام أنجليكاهولاند وهو فيلم “الدجال” Charlatan يتركز على الفرد أكثر من السياسة، رغم أنه يمر ببطله عبر المراحل التاريخية المختلفة، وهو يبدأ في أوائل الثلاثينيات أيضا، في تشيكوسلوفاكيا في زمن القبضة الستالينية الحديدية، وينتهي في السبعينات.

 علاج روحاني

يدور الفيلم حول شخصية التشيكي يان ميكولايسك (1889- 1973) الذي يتجه منذ شبابه المبكّر لدراسة وفهم الطبيعة العلاجية للنباتات والأعشاب، ثم يكتسب قدرة روحية خاصة ممزوجة بمعرفة كيف يشخّص الأمراض من مجرّد تفحّص زجاجة بول المريض.

وهو يطوّر هذه المهارة في “قراءة” البول، من امرأة ريفية كانت تجيد التشخيص بواسطة هذه الطريقة، أصبحت معلمته بعد أن لمست فيه موهبة خاصة في العلاج الروحاني. وكان المرضى يصطفون بالآلاف أمام منزلها، والشيء نفسه سيحدث بعد أن يرث ميكولايسك منها تلك المهارة ويستخدمها في علاج الجميع دون تفرقة بين أغنياء وفقراء.

عندما كان شابا صغيراً كادت شقيقته أن تفقد ساقها بعد أن أصيبت بالغرغرينا وبات بترها محتما. لكنه يتسلل إليها في الليل ليضع على ساقها مزيجا من الأعشاب، وعندما تحلّ لحظة البتر يكتشف الطبيب أن الساق قد تحسّنت.

يقوم بدور ميكولايسك الممثّل التشيكي الكبير إيفان ترويان. ويقوم بناء الفيلم على الانتقال المستمر (اللاخطي) بين الحاضر والماضي، من ميكولايسك بعد أن كبر وأصبح يمتلك منزلا فاخرا اتخذه أيضا عيادة لاستقبال مرضاه. لكنه رغم ما يبدو عليه من كرم وسماحة، لا يتورع عن التعامل بخشونة بالغة مع أقرب الناس إليه.

إنه يشعر بأنه يمتلك “القوة” أو “السلطة”، يريد أن يمارسها على الآخرين. وهم يحتاجونه ويحتاجون مساعدته، لكنه يرفض بشدة أن يصبح قدّيسا ويرفض أن يركعوا أمامه أو يقبّلون يده، أو يعتقدون أنه مبارك وفيه مسّ من السماء.

شخصية هذا الرجل تتناقض في سلوكياتها، بين الكرم الذي يجعله يدفع المال من جيبه لامرأة لكي تأخذ طفلها إلى شاطئ البحر حيث الشمس لعلّه يُشفى من مرض شلل الأطفال، كما يترك مبلغا كبيرا من المال لشقيقته التي جاءت تطلب المساعدة، وفي الوقت نفسه، معاملته الجافة لشقيقته، ورفضه رؤية مريضة يعرف أن حالتها ميؤوس منها، ونهر رجل يطلب العلاج لكنه يبشّره بالموت بكل غلظة.

هذا التناقض يُغري بالتورّط في الحبكة، التي تقوم على استعادة ماضي الشخصية والتنقيب في خفاياها وسيكولوجيتها، وطرح الكثير من التساؤلات حول أخلاقياتها وقيمها وتكوينها الإنساني وعلاقتها بالعالم. فمن هو يان ميكولايسك؟ هل هو نبيّ أم قدّيس، هل هو طبيب يعرف ما يفعل، أم رجل يمتلك موهبة فطرية غامضة ليس من الممكن تفسيرها؟

صناعة الغرابة

الفيلم يظل يتأرجح في تلك المنطقة الغامضة بين الشك واليقين، وبين المعرفة والتخمين. فالمعلومات المتوفرة عن حياة ميكولايسك قليلة للغاية. وهو ما سمح على ما يبدو، لكاتب السيناريو التشيكي ماريك إيبستين والمخرجة البولندية التي شاركته كتابة السيناريو، باختلاق وخلق الكثير من التفاصيل التي تدعم بناء الشخصية وتتعمق في إبراز تناقضاتها، ولكن ليس بغرض فهمها وقبولها أو دفع المتفرج إلى قبولها على مستوى إيجابي، بل التوقّف -مثل صنّاع الفيلم- في دهشة تنتج عن التأمل في تناقضات الشخصية وكيف أمكن أن تجمع بين الخير والشر، الإيجابي والسلبي، والإصرار على مواصلة “مهمة” تبدو مقدسة، والانتهازية التي تبحث عن النجاة في كل العصور.

ميكولايسك الشاب (الذي يقوم بدوره جوزيف ترويان وهو الابن الحقيقي للممثل إيفان ترويان) رغم ولعه بخدمة الناس ورغم أنه سيظل كذلك حتى اللحظة الأخيرة، لا يتمتع بالبشاشة وطيبة القلب، فهو لا يعرف المجاملة، ولا التسامح، ولا حتى الابتسام في وجه مرضاه والتعامل اللين اللطيف معهم. نراه خلال خدمته العسكرية وهو يُرغم على المشاركة في طابور الإعدام بإطلاق الرصاص على عدد من زملائه الفارّين من الجيش.

وذات يوم تطلب منه ربيبته التي تدربه على تشخيص الأمراض من تفحص بول المرضى، التخلّص من عدد من القطط الصغيرة الحديثة الولادة، تضعها في كيس كبير وتطلب منه أن يغرقه في ماء النهر لكي ينقضي الأمر بسرعة، إلا أنه ينهال بالكيس الضخم على صخرة ضخمة مرات عدة ليقتل القطط الوليدة بهذه الطريقة الوحشية، ولكن دون أن نعرف السبب. هل هي قسوة ما لاقاه من معاملة في الجيش؟ لا نعرف. وهذا الغموض يمتد كثيرا إلى مواقف أخرى في الفيلم.

ميكولايسك يستعين بمساعد شاب لا يمتلك أي معرفة أو موهبة خاصة، بل لأنه يضمن ولاءه الشخصي له في فترة كان في أشد الحاجة إلى هذا الولاء، ولكن هناك أيضا جانب آخر لا يقلّ أهمية، فهذا المساعد الشاب الوسيم “فرانتشك” يلمّح له من البداية إلى أنه يمكن أن يقيم معه علاقة جسدية أيضا.

نحن نعرف عن زواج ميكولايسك القصير الذي انتهى بسرعة والواضح أنه يكره أن يتحدث عنه. هل كان كما يفترض الفيلم، مثلي الجنس؟ علاقته مع مساعده فرانتشك، ستصبح علاقة امتلاك وسيطرة وفرض نفوذ. فرانتشك متزوج وسعيد في زواجه لكنه لا يمانع من عيش الازدواجية الجنسية. أما ميكولايسك فهو يشعر بالغيرة القاتلة خاصة عندما يعلم أن زوجة صديقه حامل، فيمارس عليه ضغوطا شديدة ويعطيه شرابا قام بتحضيره من الأعشاب، يعطيه لزوجته لتشربه ليتسبب في إجهاض الجنين.

مصير ميكولايسك

ميكولايسك يشعر أنه محصن، وغير قابل للمسّ، بسبب علاقاته بكبار المسؤولين، فهو انتهازي يسعى دائما إلى حماية نفسه. وخلال الاحتلال النازي لبلاده يقيم علاقات جيدة مع كبار المسؤولين النازيين ويقدّم خدماته بوجه خاص إلى مساعد هتلر “مارتن بورمان”. وفي زمن الشيوعية يصبح المسؤول عن علاج رئيس الدولة أنطون زابوتوكي. لكن الرئيس سيتوفى عام 1957 ويفقد الرجل الحماية، ثم ينقضّ عليه أساطين السلطة الشيوعية، الذين يشعرون بالغيرة من استقلاليته عن المنظومة، ومن كثرة ما جنى من المال رغم أنه يذكرهم بأنه تبرّع بالكثير لصالح الدولة.

من هذه النقطة تحديدا، أي من وفاة الرئيس التشيكي عام 1957، يبدأ الفيلم ثم يرتد إلى الماضي في بناء متعرّج، بين الماضي والحاضر، لكي يروي قصة هذه الشخصية المثيرة للجدل.

تصبح إحدى نقاط ضعف هذه الشخصية المثلية الجنسية، فقد كانت محظورة في النظام الشيوعي تماما كما كانت في زمن الهيمنة النازية. كانت السلطة تعرف عنه كل شيء. ولكن هذا ليس كافيا، لذا يتعيّن عليهم الآن أن يلفّقوا له تهمة تودّي به إلى الإعدام، مثل بيع دواء يؤدي إلى موت عضو محلّي في الحزب، وسرعان ما يتم القبض عليه وتقديمه للمحاكمة مع مساعده فرانتشك (الذي يقوم بدوره ببراعة يوراج لوج).

ما الذي سيحدث لميكولايسك؟ لقد تخلّى عنه محاميه الذي كان يثق فيه وعيّنوا له محاميا آخر يتشكك كثيرا فيه في البداية إلى أن يدرك أنه مثله، سيصبح “كبش فداء”. كيف سينجو هذه المرة؟ هذا الرجل أثبت من قبل أن سلامته الشخصية فوق كل اعتبار، ولا بد أن يتخلّى عن أي اعتبارات أخلاقية من أجل النجاة.

لا شك أن التناقضات التي تحيط بهذه الشخصية التراجيدية هي التي دفعت أنجيليكا هولاند إلى تقديمها في السينما. وقد فضّلت أن تحافظ على الكثير من النقاط الغامضة التي لا يمكن تصديقها من جانب جمهور اليوم في القرن الحادي والعشرين.

فكيف يمكن لنا أن نصدق أن بوسع أيّ إنسان أن يشخّص الأمراض الكثيرة، من الكلية والقلب والروماتيزم إلى البول السكري، من مجرد فحص قارورة البول في ضوء مصباح؟

ومن الذي يصدق أنّ رجلا كهذا كان يمتلك بالفعل قوة روحية خاصة مستمدة من إيمانه الكاثوليكي، تجعله يكتفي بلمس يد المريض ودعوته إلى الإيمان الصادق بالخلاص حتى يتحقق له الشفاء؟ وكيف يمكن تفسير نجاح الرجل في التنبؤ لأحدهم بالموت (يوم الثلاثاء) لكي يقع الموت بالفعل “يوم الثلاثاء”! ما الذي يجعل ميكولايسك صارما خشنا في معاملته للمرضى، وفي الوقت نفسه، يمكنه أن يتنازل عن قبض ثمن العلاج؟

أنجليكا هولاند مع أبطال فيلمها

هذه التناقضات الكثيرة الكامنة والظاهرة في تكوين الشخصية، حالت بيننا وبين فهم ميكولايسك والعجز عن التعاطف معه أو حتى كراهيته ورفضه. إننا ببساطة، لا نفهمه. كما أننا لا نفهم سر ما يقدّمه فرانتشك رفيقه من تضحية هائلة من أجله، رغم تيقنه من أنانية الرجل وقسوته عندما يتعلّق الأمر بنجاته الشخصية. وكيف يمكن أن نغفر له تعامله اللين مع قيادات النازيين الذين يحتلون بلاده وتقديم أفضل ما لديه لهم؟

قلق وانجذاب

كل ما سلف من التساؤلات تصبح مصدرا للقلق ولكنها تظل في الوقت نفسه، مصدرا للانجذاب، فنحن نريد أن نعرف، وأن نفهم. لكن الفيلم سينتهي دون أن نعرف أكثر مما تصوّره لنا أنجيليكا هولاند في فيلمها، ولن نعرف ما يكمن وراء السطور.

لذلك يخرج المرء بنوع من الشعور بالإحباط. فمشروع فيلم عن شخصية بكل هذه التعقيدات كان يقتضي صياغة أخرى رغم الاعتراف بأن ما يبقي على سحر الفيلم ورونقه، ذلك الأداء البارع الدقيق من جانب الممثل إيفان ترويان في الدور الرئيسي. إنه يبلغ هنا قمة تقمّصه وتماهيه بالكامل مع الشخصية التي يؤديها. يبث فيها الحياة، لا يفلت منه إيقاع الشخصية ولا مرة واحدة.

وفي علاقته مع صديقه فرانتشك الذي يقيم معه في نفس المنزل، يعبّر ببراعة عن الحب والغيرة والغضب والرغبة، بحيث يصبح الفيلم أيضا “قصة حب” ربما تنتهي نهاية سيئة. فالسلطة دائما أقوى من الفرد، مهما تصوّر أنه محصن بسلطته وقدراته الخاصة. وهو ما يذكّرنا، على نحو ما، بثلاثية المخرج المجري الكبير استيفان سابو “ميفستو”، “الكولونيل ريدل”، “هانوسين”، عن الصراع بين صاحب الموهبة الخاصة، الذي يتصوّر أنه يمكن أن يمتلك سلطة ما، بينه وبين السلطة الحقيقية التي تهيمن على مقدرات البشر.

وهي إشكالية لو ركّز عليها سيناريو “الدجال” لربما كنّا أمام تحفة سينمائية. لكن لا بأس. فهذا فيلم يثير الرغبة في المتابعة حتى النهاية. ويحسب لأنجيلكا هولاند اختيارها للممثلين وإجادتها تحريكهم واستخدامهم من خلال هذا الأداء الدقيق. فيلم “الدجال” ربما كان أكثر جاذبية من غالبية الأفلام التي شاهدناها في مسابقة مهرجان برلين. لذلك لاشك أنه يستحق التحية والتقدير.

Visited 35 times, 1 visit(s) today