الفيلم الألماني “جاك”: العالم حيثُ لا مكان للحقائق

Print Friendly, PDF & Email

ينتمي الفيلم الألماني “جاك” من إخراج إدوارد بِرجر وإنتاج العامي 2013 و2014 إلى نفس العائلة التي ينتمي إليها الفيلم البلجيكي الشهير “الصبي صاحب الدراجة” من إنتاج العام 2011 وإخراج الأخوين داردين، هُنا حيث يخوض طفل مهجور من قبل أحد الأبوين أو كليّهما، رحلة من أجل البقاء على قيد الحياة، رحلة لا يبكي فيها الطفل ولا مرّة، يواصلها وهو يسعى بدراجة خفيفة بين الطرقات.

في “جاك” وعلى العكس من الفيلم البلجيكي، تكون الأم حاضرة، أعني الأم بعاطفتها الملموسة، إنها ليست غير مُبالية تمامًا كما هو الأب في حالة الفيلم البلجيكي، وهذا ما يصنع الأزمة عند الصبي “جاك”، جاك لم يتجاوز العشرة أعوام لكنه يلعب دور الأب لأخيه الأصغر مانويل، وكل ما يريد مانويل في العالم هو مكان للنوم. إن والدة جاك الشابة الجميلة التي يبدو أنها قد وجدت نفسها أمًا بالمصادفة ذات يوم بعد علاقة حميمية طائشة من تلك التي تشغل بها وقتها، تُحب ولديها، حد أنها تترك باب غُرفة نومها مفتوحًا أثناء ممارستها للجنس مع رجل صديق، كي يُصبح مُتاحًا بالنسبة للولدين الدخول وطلب مُساعدتها إذا ما احتاجا شيئًا. جاك الابن الأكبر لا يشعر بالغيرة من وجود رجل آخر في سرير أمه، إن أقصى ما يطمح إليه هو أن يكون بالقرب من الأم التي يبدو أنها ستتمثل دور الحبيبة أحيانًا في قلب الصغير الذي يهرول معظم الوقت، ولا يمشي هادئًا إلا فيما ندر.

تتفجّر الأزمة حين تترك الأم ولديها، جاك في مدرسة داخلية يتعرض فيها للعنف من الزملاء الأكبر سنًا، ومانويل الصغير في بيت زميلة، تذهب الأم في رحلة لا أحد يعرف عنها أي شيء. جاك الذي يعيش عالمه داخل كادر سينمائي مُرتبك بكاميرا مهتزة كما اختار لها المُخرج، يدوخ داخل متاهات عقله التي ترسم له أشياء لا يعرف إذا ما كانت قابلة للتصديق أو لا، المتاهات نفسها التي ينقلها الفيلم إلى مُتلقيه، المُتلقي بعد قليل سيلهث مع جاك الذي يعتقد إنه ربما قد ارتكب جريمة قتل ما في حق واحد من زملاءه السابقين، جاك يترك الشاب الذي سقط على وجهه ساكنًا ويجري إلى بيت أمه، هُناك حيثُ لن يمكنه إيجادها، ولا يمكنه الاحتماء بالبيت، لأن الباب مقفل.

العالم الذي سيطرحه الفيلم بعد هذا، وخلاله أيضًا، هو عالم مُقبِض، صورة من برلين في عيني طفل ضائع، طفل مُطارَد لأنه مع أخيه الأصغر سيبيتان في سيارة غريب لا يعرفانه في مرآب يُهددهما فيه حارسه بالقتل إن هُم عادا مرة أخرى. إن الولدين بلا طعام ولا ماء، لا شيء يجعلهما يستمران في الحياة سوى أمل عودة الأم، يعودان مرارًا إلى البيت بحثًا عنها، يكتب جاك على الباب ملاحظات من قبيل “مرحبًا أمي، أين أنتِ؟ نحن في حاجة إلى المُفتاح”.

لا يصل جاك ولا مانويل إلى المفتاح هذا أبدًا، إنهما يدوران في الشوارع نفسها، معظم الوقت في الليل، يحاولان البحث عن الأم داخل الوهم الخائف بأن تكون قد اختفتْ إلى الأبد، أو أن يكون مكروهًا قد حدث لها، يسرق جاك في سبيل أن يُعيد لزميل نظارة مُقربة كان قد أعارها له، لكنها ضاعت من جاك في الحادثة التي اعتدى فيها على الزميل المُهاجِم، إن جاك كما يروي الفيلم عنه، ليس مُجرمًا هو فقط طفل يشعر بالوحدة والخذلان ويُريد أن يبقى مُمتنًا لهؤلاء الذين يساعدوه، هو يسرق لأن لا مال لديه، وهذه هي الوسيلة الوحيدة للتصرف أمامه.

هذه الدورات الليلية في شوارع المدينة، تُلقي الولدين إلى عالم الكبار الموحش، عالم يمكنه دعسهما ببساطة، في الملاهي الليلية، وعند صديق قديم يدعمهما بعض الوقت لكنه لا يستطيع أن يُبقيهما إلى جواره أكثر إنه يقول لجاك مُنكسًا رأسه “لا يُمكنني أن أفعل هذا، لستُ أبيكما”، لكن الولدين اللذين هُما بلا أب ولا أم الآن يعودان إلى الشارع مرة أخرى، ويحاول جاك أن يُلاعب مانويل لعبتهما المُفضلة، ككلبين يتضامّان.

 ليس هُناك مقاطع موسيقية طويلة في شريط الصوت، الشريط مائل لأن يمتليء أكثر بلهاث جاك وهو يهرول، صوت ضربات قدميه السريعة المُرتبكة على الأرض، والكاميرا تتفرج على العالم مُعظم الوقت من مُحيط رأس جاك، وهو نصف طول مساحة رأس البالغ.  سيقود الفيلم جاك ومانويل إلى الأم، التي لم يعد المُـتلقي يتوقع أن تعود، ربما سيفقد المُتلقي الصبر أسرع من الولدين في الفيلم، لأن الكبار لا يُملكان الصبر نفسه على العالم الذي عند الصغار. لكنهما حين يصلان للأم، حين تضمهما وهي تُردد في أذنيهما بحرارة”كم افتقدتكما”، لن يعود يعنيهما إذا ما كانت تُحبهما حقًا. جاك سيعرف أنه لا يوجد شخص قتيل في المدرسة، أن بإمكانه العودة مرة أخرى إلى مكان يحميه، بينما مانويل سيواصل النوم في أي مكان آمن.

كأن جاك هو فيلم عن الصدمات التي يمكن أن تحدث في حياة الأشخاص وهُم أطفال، فتقود إلى حياة مُختلفة، ربما أن الكثير من الحقائق في العالم لا تُفيد لأنه لا توجد حقائق أصلًا، إننا لا نعرف ماذا جرى للأم وهي صغيرة، فثبتت كما يقول فرويد على هذا المستوى الصبياني من رؤية العالم، ولا نحن نعرف أين الأب، أو كيف ستكون هي حياة الصغير مانويل حين سيستيقظ لوقت أطول لاحقًا. يقول جاك إن حُبًا لا يبذل فيه الناس ما يحمي أبناءهم ليس حُبًا، أعني أن لا شيء في العالم مضمون، لا حُب الأم ولا حتى عدم حُبها، العالم مكان يريدُ فيه الأطفال مُفتاحًا لبيت يعدُ بالمزيد من الحياة، لا أكثر.

Visited 81 times, 1 visit(s) today