الخيال كأداة للواقعية: عالم رأفت الميهي الخاص

قد يبدو للوهلة الأولى أن سينما رأفت الميهي تنزع نحو الخيال والفانتازيا، وأنها ابتعاد عن الواقع الصارم لصالح عوالم هزلية أو غرائبية. لكن التدقيق في مشروعه يكشف أن الخيال عنده لم يكن يومًا مهربًا من الواقع، بل كان سلاحًا لفضحه وتعريته، وأداة نقدية قادرة على كشف ما لا تقدر الواقعية المباشرة على إظهاره.

الميهي لم يكن واقعيًا بالمعنى التقليدي، كما عند عاطف الطيب أو داوود عبد السيد. لم يكن يضع الكاميرا في قلب الشارع ليصور تفاصيله كما هي، بل كان يخلق عالمًا موازٍ، يبدو ساخرًا أو عبثيًا، لكنه يعكس الواقع بأكثر أشكاله فجاجة. الخيال عنده هو مرآة مشوهة تكشف القبح بوضوح أشد.

في سمك لبن تمر هندي”، على سبيل المثال، تنقلب القواعد السينمائية رأسًا على عقب: الشخصيات تخرج من أدوارها، الممثلون يتكلمون إلى الكاميرا، القصة تتفكك وتعيد تركيب نفسها. هذه الفوضى السردية ليست عبثًا مجانيًا، بل استعارة لواقع أكثر فوضوية، واقع لا تحكمه قوانين منطقية ولا حلول نهائية. ما يبدو فيلماً “غير منظم” هو في الحقيقة تصوير ميتا–واقعي لمجتمع مضطرب.

كذلك في السادة الرجال، يضعنا الميهي أمام خيال جريء: امرأة تتحول إلى رجل هروبًا من القهر الاجتماعي. هذا التحول الفانتازي يضع الأصبع مباشرة على جرح المجتمع الذكوري، ويطرح أسئلة عن الهوية والجندر والسلطة، أسئلة ما كان يمكن للواقعية التقليدية أن تطرحها بحدة وجرأة مماثلة. هنا يظهر كيف يصبح الخيال أداة لفضح أبنية المجتمع.

الميهي أيضًا يستخدم الخيال ليجعل المشاهد شريكًا في التساؤل لا مجرد متلقي. الخيال عنده يربك المتفرج، يخلخل يقينه، ويجبره على التفكير فيما وراء الحكاية. عندما تنهار الحلول أو تُقلب الأدوار، لا يكتفي المشاهد بالدهشة، بل يواجه نفسه: ماذا يعني أن تكون امرأة في مجتمع ذكوري؟ ماذا يعني أن يكون العدل مجرد لعبة قانونية في الأفوكاتو؟ كيف نصنع المعنى في عالم عبثي؟

إذن فالخيال عند الميهي ليس بديلًا عن الواقع ولا زخرفة جمالية، بل هو أداة تحليلية. هو وسيلته للاقتراب أكثر من جوهر الواقع، بقدر ما يبتعد ظاهريًا عنه. إنه نوع من “الواقعية السحرية” ولكن بروح مصرية، تمزج بين العبث والكوميديا السوداء والفكر الفلسفي.

وبهذا المعنى، يمكن القول إن سينما الميهي كرست الخيال كأداة نقدية، قادرة على قول ما تعجز عنه الواقعية، ومكنته من تقديم شهادة فنية على عصره: شهادة ساخرة، مؤلمة، وفي جوهرها شديدة الصدق.

من فيلم “سمك لبن تمر هندي”

الخيال عند رأفت الميهي إذًا ليس هروبًا من الواقع، بل وسيلة للقبض عليه والإمساك بجوهره. في فيلم سمك لبن تمر هندي يضعنا الميهي منذ اللقطة الأولى أمام تجربة شعورية أكثر منها درامية، عالم فانتازي يعلن منذ البداية أنه “تمثيل في تمثيل”، وكأن المخرج يرفع القناع ليكشف أن كل ما سنراه لعبة، لكنه في الحقيقة يضعنا أمام أكثر صور الواقع قسوة. تلك المفارقة التي يقوم عليها الفيلم تكشف فلسفة الميهي: أن الجنون لا يواجه إلا بالجنون، وأن العبث لا يُفهم إلا عبر المزيد من العبث.

يمد الميهي خيطًا مباشرًا من فيلمه السابق “الأفوكاتو” إلى هذا الفيلم، عبر شقيق حسن سبانخ – أحمد الطبيب البيطري – ليقول إننا لا نزال في العالم ذاته: عالم القمع والفساد واللاعدالة. لكن بينما كان حسن محاميًا يجيد الالتفاف والتكيف مع السلطة، يحاول أحمد – كطبيب – الإصلاح المباشر، ليقع في عبث أشد قتامة. هنا يتحول الحلم إلى كابوس، وتتحول الحيوانات إلى كائنات تحمل علامات الواقع: الحمار الذي يحمل من إنسان، القرد الذي يرفض الرقص للمحافظ، الأموات الذين يتكلمون قبل أن يعودوا لموتهم. كلها إشارات تقول إن منطق الحياة الاجتماعية والسياسية صار أغرب من الخيال نفسه.

لا يترك الميهي شخصية أحمد لتواجه الواقع الفاسد ببراءة، بل يصدمه بكل أبواب مغلقة: من مساعده الذي يسرق في الخفاء، إلى عجزه عن دفن أبيه القادم من الغربة، إلى افتضاح مأساة العمالة في الخليج، إلى مطاردة الأجهزة الأمنية له ولخطيبته. وكلما حاول أن يتشبث بالعدل، يرد عليه العالم بالسخرية والقمع، حتى يجد نفسه في “مستشفى الإنتربول” حيث تُمارس السلطة أقصى درجات العبث: غسيل كلي للوعي كي يتوافق الفرد مع ما تريده الدولة.

الخيال هنا ليس مجرد زخرف، بل هو لغة لقول ما لا يُقال. فعندما يلتقي أحمد بأبيه في المستشفى ويتذكر رحلة التعليم والعمل والزواج، يتضح أن كل مسار الحياة اليومية للمواطن يتحول إلى دائرة مغلقة من الإحباط. وعندما يواجه الضابط ملاك أباه الرافض للخضوع للدولار، ندرك أن السلطة لم تعد فقط قمعية بل مستسلمة، تابعة لمنطق السوق العالمي. إن الميهي يستخدم الكابوس ليفضح كيف ينهار المعنى نفسه، فلا يبقى سوى السخرية المرّة.

عادل إمام في “الأفوكاتو”

وفي خضم هذا العبث، يحاول أحمد أن يقاوم عبر الكلمة، أن يخاطب الناس في الشارع، أن يعظهم بأن الظلم ليس قدرًا، وأن العدل ممكن إذا نهضوا هم بأنفسهم. لكن المفارقة القاسية أن كل خطبه لا تجد إلا آذانًا صماء، حرفيًا أمام عيادة الصم والبكم، أو مجتمعات منشغلة بالرقص والطبل. يتركه الناس لأنه “بتاع كلام بس”، كاشفين عن مأساة المثقف الذي يحاول الإصلاح في مجتمع لا يريد أن يسمع. وهنا يتجلى أثر الفلسفة الكلبية في سينما الميهي: إذ يقدم الحلول، لكنه سرعان ما ينقضها، فلا يترك لنا إلا الإحساس بالعبثية.

النهاية لا تخون هذا المسار: أحمد وزوجته يُقتلان، ولا يبقى سوى كائن هجين – ابن إنسان وحمار – ليقول إن المستقبل نفسه سيخرج مشوّهًا إذا ظل المجتمع على حاله. صورة شديدة القسوة لكنها أيضًا شديدة الصدق، إذ تلخص أن استمرار الواقع العبثي لا يمكن أن يُنتج إلا مزيدًا من العبث.

بهذا المعنى يصبح سمك لبن تمر هندي نموذجًا لسينما الميهي التي تستخدم الخيال كي تكشف الواقع. فالجنون ليس هنا انحرافًا عن المنطق، بل هو عين المنطق في مواجهة عالم فقد تماسكه. الفيلم يفضح مأساة المواطن العربي في زمن الهجرة والانفتاح الاقتصادي وتغوّل السلطة، لكنه يفعل ذلك من خلال لغة الحلم والكابوس، ليجعلنا نرى أنفسنا كما لو كنا نرى مشهدًا سرياليًا مضحكًا ومبكيًا في آن واحد. وهو ما يجعل

الفيلم، رغم مرور العقود، لا يزال حيًا لأنه لم يتحدث عن لحظة تاريخية عابرة بل عن بنية دائمة من الفساد والاغتراب، بنية لا تزال تشكل حاضرنا.