“المُفتاح إلى ريزيرفا”: موتيفات هيتشكوك في 4 دقائق ونصف!

Print Friendly, PDF & Email

يُمكن الجزمُ بعدم وجود أيّ قائمة تفضيلية لأفلام مارتِن سكورسيزي بدون فيلميْ “الراحل” The Departed   و”جزيرة شاتر” Shutter Island اللذيْن جاءا مُتتاليْن بفارق أربع سنوات تقريبًا، إنّهما علامتان لامعتان في تاريخ هذا المُخرج الأمريكي الكبير، لكن رُبما لا يعرف الكثير أنّ سكورسيزي قد أخرج بين هذيْن الفيلميْن مجموعة أعمال منها شريطًا/ إعلانًا/ فيلمًا قصيرًا في 2007 لعلامة النبيذ التجارية الإسبانية “فريشّينيت” التي يبلغ عمرها أكثر من مئة عام، بالتعاون مع تيد غريفِن ككاتب.

إنّ تسمية هذا العمل فيلمًا ليس دقيقًا بما يكفي، لكنّ وصفه بالإعلان فيه ظلم كبير للجماليات الفنيّة الخاصّة التي يحتويها، إذ أنّه يعتمد على نصٍ غير مؤرخ لألفريد هيتشكوك يبلغ طوله 3 صفحات ونصف، وقد فُقدت الصفحة قبل الأخيرة لأسبابٍ غير معروفة، ولأسبابٍ غير معروفة أيضًا لم يتم خروج هذا الفيلم الهيتشكوكي إلى النور!

يبدأ الشريطُ البصري “المُفتاح إلى ريزيرفا”The Key to Reserva الذي يبلغ طوله حوالي العشر دقائق بلقطاتٍ من كواليس صناعته، ويحكي مارتِن سكورسيزي، بفرحةِ تلميذ، قصة وجود هذا النص، وأنّه سيتولى إخراجه بنفس أسلوب هيتشكوك، ويظهر النص في الشريط محفوظًا في ملف نايلون داخل علبة سوداء كُتب عليها بخطٍ أبيض “أيقونة” بالإنجليزية، وقد ارتدى سكورسيزي قفازًا وهو يُمسك به كأنّه يحملُ ماسةً خرجت لتوّها من منجمٍ في بوتسوانا حتى أنّه لم يسمح للمذيع بلمسه من الخارج!

المتفاح إلى ريزيرفا!

يبدأ الشريط بموسيقى هيتشكوكيّة خالصة، تنطلق الكاميرا من أوتار كمان يحمله العازف العابس ليونارد (كريستوفر دِنهام)، ثم تبتعد لنشاهد الفرقةَ كاملة، والقاعة الممتلئة عن آخرها في المسرح الهائل.

 ومن خلف بابٍ كُتب عليه “ممنوع الدخول” يخرج روجر ثورنبيري (الأسترالي سيمون بيكر) وفي يده صندوقٌ خشبي، يسير روجر على سلالم مغطاة بالأحمر ثم يدخل المقصورة التي تواجه المسرح، من هناك ينظر إلى الشقراء غريس ثورنبيري الجالسة بين الجماهير بجانب لويس بيرنارد (كيلي أوهارا، مايكل ستوبار على التوالي)، يجد روجر مبتغاه، إنه مفتاح محفوظ داخل المصباح الكهربائي، يقف روجر على أحد الكراسي لإخراج المصباح أمام أنظار ليونارد الذي يُعطي إشارةً بنغمة نشاز إلى لويس الجالس بين الحضور، يترك ليونارد فرقته ويتجه نحو روجر  أمام دهشة الجميع، عراك صغير يؤدي إلى سقوط ليونارد من المقصورة، بعد صرخة تُطلقها إحدى الحاضرات (نيللي شوتو)، يُخرج روجر قنينة النبيذ من العلبة الخشبية، ونكتشف وريقةً تحت سدّادتها كُتب عليها “سري للغاية”، وهنا تنقطع القصّة بفعلِ الورقة المفقودة، وفي النهاية نجد البطلة الشقراء وزوجها يتبادلان قُبلة بينما تضع الشرطة الأصفاد في يديْ ليونارد.

تبلغ مدة فيلم هيتشكوك/ سكورسيزي هذا 4 دقائق ونصف تقريبًا، وبالرغم من المدة القصيرة جدًا، إلا أنّه بالإمكان رصد عدد كبير من الدوال أو الموتيفات التي تميّز بها هيتشكوك منذ أعماله الأولى التي بدأت في زمن السينما الصامتة، وانتهت في عقد السبعينيات، أو عقد الـ”أنا” حسب تعبير الصحافيّ الأمريكيّ توم وولف في مقاله الذي نشره واصفًا عقد السبعينيات بأنّه ذروة الفردية.  

امرأة شقراء بشعرٍ قصير

سكورسيزي

عند الحديث عن موتيفات هيتشكوك يُمكن البدء بالنساء بثقةٍ كاملةٍ، إنّ البطلة الشقراء في هيتشكوك موضوع محبب لدى النقاد، والصحافيين، ومنظّري النسويّة والنوع الاجتماعي على مر العقود، وغدا مُصطلح “شقراوات هيتشكوك” معروفًا لكل القارئين عن سينما هذا المخرج البريطاني الكبير.

يقول هيتشكوك بأنّ الشقراوات أفضل من يُمثلن دور الضحية، إنّهن مثل الثلج البكر الذي يُظهر آثار الأقدام الدمويّة!

في “المفتاح إلى رزيرفا” البطلة شقراء بشعر قصيرٍ متموّج، الشعر القصير كان الموضة آنذاك، لكن الشعر الأشقر كان تفضيلًا هيتشكوكيًا قُدّم غير مرّة.

وقد كان ذلك منذ أفلامه الأولى مثل: “النزيل: قصة عن ضباب لندن” حيث تُظهر الشخصيات الرجالية الثلاث ولعًا شديدًا بالشعر الذهبي، وتُعبّر كل شخصية عن هذا الولع بطريقتها الخاصة الذي وصل أحيانًا إلى درجة القتل!

وظلت البطلة الشقراء علامة في هيتشكوك حتى “مؤامرة عائلية” (1976) آخر أفلامه مع باربارا هاريس.

وما بين الفيلميْن العديد من الرؤوس الشقراء، أبرزها: غريس كيلي، وجانيت لي، وتيبي هيدرن.

اللافت في النظر إلى أنّ هيتشكوك لم يختر مارلين مونرو لأيٍّ من أفلامه، رغم أنّها الشقراء الأشهر في تلك الفترة، رُبما يعود ذلك إلى خلو صورتها السينمائية من “العاديّة” التي تُميّز بطلات هيتشكوك، تلك العاديّة التي تُعرّض صاحبتها للمآزق الدراميّة، فهل يُمكن تخيُّل مارلين مونرو مُجرّد لِصّة تتعرض للطعن في دورة المياه ثم تتداخل عدسة عينها مع بالوعة المرحاض؟ وهل يُمكن تخيلها زوجة تبحث عن ابنها لدى عصابة من العملاء السريين؟ وهل يُمكن أن تلعب دور امرأة يجتهد حبيبها في تحويلها إلى نسخة مُطابقة أكثر جمالًا وإن من نفسِها؟ لقد حجبت الشخصيّة السينمائية لكل من هيتشكوك ومونرو بعضهما عن بعض، ولا يُمكن لهاتيْن الصورتيْن أن تتوافقا بأي شكلٍ من الأشكال.

نساء مُسيطر عليهنّ

تُحيل النقطة السابقة دومًا إلى نقطة أخرى وهي تعاطي الرجال مع النساء في أفلام هيتشكوك، إنّهم مهووسون بامتلاكهنّ والسيطرة عليهنّ، ولذلك الامتلاك صورٌ مُختلفة؛ إما بالزواج، أو بالعلاقة العاطفية، أو بالاحتجاز، أو بتشكيكهنّ في أنفسهنّ، أو حتى بالقتل.

وتظهر هذه الدالّة أو الموتيفة في أفلام أكثر من غيرها.

في “المفتاح إلى رزيرفا” نفهم أنّ الشريكيْن ليونارد ولويس قد اختطفا زوجة البطل، ونراها بين الحضور غير قادرة على الهرب، أو الاستنجاد بأحد كي ينقذ زوجها الذي يتعارك مع آخر في المقصورة. 

في فيلم “مارني” نرى مارك روتلاند (شون كونري) يُلاحق مارني (تيبي هيدرِن) بإصرار عجيب، ويفرض نفسُه عليها كزوج حدّ ابتزازها بكشف أمرها وتسليمها للشرطة.

في فيلم “اختفاء السيدة” ملاحقة شبيهة بين البطلين إيريس وغلبرت (مارغريت لوكوود ومايكل ردغريف).

في فيلم “دوار” Vertigo الذي يعده البعض أفضل أفلام هيتشكوك على الإطلاق، بعد أن يجد سكوتي (جيمس ستيورات) شبيهة/نسخة حبيبته الميّتة مادلين (كيم نوفاك) يحاول أن يجعلها نسخةً من تلك الحبيبة الُمنتحرة من فوق برج الكنيسة.

وحتى في فيلم “الطيور”، رغم أنّ ميلاني (تيبي هيدرن) هي من تذهب إلى خليج بوديغا لتتبع الرجل الذي راق لها في محل بيع الطيور (رود تايلور)، فإنّ الحال يُقلب لصالحه فورًا، فتضطر إلى البقاء معه في البيت مُحتجزين بسبب الطيور التي هاجت فوق الأهالي، وينتهي الفيلم وهي بين ذراعيه القوتين وبجانب والدته، الابن وأمّه سلطة مُكثّفة نحو البطلة الخائفة، ذات المشهد يتكرّر في فيلم “مارني” مع نفس البطلة لكن بدون الأم بالطبع.

في فيلم “ظل الشك” يحاول تشارلي (جوزيف كوتِن) زعزعة ما تراه وما تسمعه ابنة أخته المنبهرة به (اسمها تشارلي أيضًا)، ذلك الانبهار الذي يجعلنا نشكُّ بوجود علاقة جنسيّة ما بين الفتاة وخالها! والنتيجة كانت مأساوية بقدر ما يسمح به المزاج السوداوي!

أما السيطرة الأكثر بشاعة فهي من نصيب ماريون كراين (جانيت لِي) حيث ابتلع الموتيل روحها بعد أن سُفك دمها في المشهد الشهير من فيلم “سايكو”.

أماكن مزدحمة

في أفلام هيتشكوك ليس بالضرورة أن تتم مشاهد القتل في الشوارع الخلفية أو الأماكن الفارغة، إنها تحدثُ في وضح النهار، وفي جمعٍ من الناس، والقائمة طويلة فعلًا

في “المفتاح إلى ريزرفا” يدور الحدث الأساسي في المسرح أثناء العرض الموسيقي، وهو مشهدٌ مأخوذٌ في تفاصيل كثيرة من نظيره في “الرجل الذي عرف أكثر من اللازم”، حين حاول الجُناة اغتيال رئيس الوزراء، وفي ذات الفيلم أيضًا يُقتل مسيو برنارد (دانيال جيلا) في ساحة مراكشية بالسكين أمام المئات من المحتشدين.

في فيلم “غرباء في قطار” يدور المشهد الحاسم في مدينة ملاهٍ، فوق لعبة “الأحصنة الدوّارة” تحديدًا وهي تعملُ بأقصى سرعة أمام الجمهور المذعور.

في فيلم “اختفاء السيدة” تتلاشى السيدة فروي مثل فص ملح من وسط قطار مليءٍ بالركاب، في فيلم “شمالًا إلى الشمال الغربيّ” يُقتل أحد الأبطال في قاعة الجمعية العامة للأمم المتحدة على رؤوس الأشهاد.

حبلٌ، ومفتاحٌ، وسقوطٌ من حالق

ليس هذا كل شيء، في الدقائق الأربعة إشارات أخرى إلى أفلام سابقة لهيتشكوك الذي قال بأنّ الانتحال الأدبي الذاتي هو أيضًا أسلوب!

المفتاح، القنينة التي تخبئ سرًا، السلالم، القتل بالحبل، السقوط من مكانٍ مرتفع، إخفاء الأشياء في أماكنٍ غير معهودة، وغيرها من العلامات التي كررها هيتشكوك في أعماله العديدةِ.

في “المفتاح إلى رزيرفا” تحتوي قنينة النبيذ على وريقة تنص على أنّه “سري للغاية”، في فيلم “سيئة السمعة” كانت قنينة النبيذ تحوي سرًا آخر ساهم في كشف المستور! في ذلك الفيلم أيضًا تُمنع آليسا (أنغريد بيرغمان) في بيت زوجها من مفتاحٍ بعينه، فيُثار فضولها البشري حتى درجته القصوى!

أما السلالم فهي الحاضرة الدائمة لدى هيتشكوك، في افتتاحية “النافذة الخلفية”، على سبيل المثال، تستعرض الكاميرا تسعة سلالم تقريبًا تربط الشقق والمُلحقات ببعضها البعض، وفي فيلم “ظل الشك” كانت درجات السُلّم أحد عناصر القصة.

وفي فيلم “اطلب ميم من أجل جريمة قتل” فقد جاءت المفاتيح والسلالم سويًا، إذ يكمُن حل اللغز في مفتاح شقة الزوجية، وفيمن وضعه تحت البساط الذي يغطي الدرج!

ورد أيضًا في أفلام سابقة لهيتشكوك إخفاء الأدوات المطلوبة في أماكن غير مطروقة، في “مؤامرة عائلية” يُخفي اللص الماسة الثمينة في النجفة العملاقة بالقرب من السلم (سُلّم مرة أخرى)، أمّا القتل خنقًا فيُمكن أن نذكر هنا فيلمي “اطلب ميم من أجل جريمة قتل” آنف الذكر، وفيلم “حبل” الذي يدور في مكانٍ واحدٍ.

والسقوط من مكانٍ عالٍ لا يحيل فقط إلى “فيرتيغو”، بل إلى “شمالًا إلى الشمال الغربي” أيضًا حيث يسقط الغريمان من فوق جبل راشمور.  

المفتاح إلى هيتشكوك

إنه عدد كبير جدًا من الدوال أو الموتيفات بالنسبة لأربعة دقائق ونصف، أو حتى لأربع ساعات، هيتشكوك الذي يعتبره الكثير أهم مخرج بريطاني في القرن العشرين، كان من ضمن علاماته أنه رجل يُكرّر أفكاره، يقول هيتشكوك واصفًا نفسه بأنّه مخرج نمطي، فحتى لو صنع فيلمًا عن سندريلا سيبحث الجمهور فورًا عن جثة فوق الأريكة!

إنه المخرج الذي يتحوّل المخرجون أمامه، برغبتهم، إلى تلاميذ لا يخجلون من التعبير عن إعجابهم، وعن التأثير الهائل الذي تركه على فنهم، وعملهم، وقد كان سكورسيزي هُنا نموذجًا لذلك.

المفتاح إلى ريزيرفا، أحد المفاتيح إلى هيتشكوك.

Visited 54 times, 1 visit(s) today