الأفلام المرشحة لأوسكار أفضل فيلم: الوصفة التقليديّة إلّا قليلًا

تسعة أفلام، وثمانية مخرجين ومخرجة واحدة، نسخة الـ “أوسكار” لعام 2020، ستكون مثار للجدل، كالعادة، ربما بدءًا من قائمة الطعام النباتيّة بنسبة شبه تامّة، ونهايةً بخطاب واكين فِينِكس الهجائي المُتوقّع عن عنصرية لجنة الـ “أوسكار” وافتقار معاييرها للتعددية العِرقية.

مُستبعدةً، كالعادة، عشرات الأفلام الجيّدة التي جانبها الحظ، وقع اختيار أعضاء الأكاديمية على تسعة أفلام، منها ستة  تدور أحداثها بالكامل في الماضي من الثمانينيات وما قبل ذلك، وفيلمان في الحرب العالمية الأولى والثانية، وستة أفلام يتصدّر بطولتها المُطلقة ذكور، وفيلمان طافحان بالتِستوستيرون، بالإضافة إلى الاسمين اللامعيْن: سكورسيزي وتارانتينو.

باختصار؛ تشكيلة “أوسكارية” كما ألفتها الجماهير منذ زمن طويل، لولا وجود الكوري الجنوبيّ بونغ جون هو، والمُخرجة غرِتا غِروِغ التي تُنافس حبيبها نوا بومباك في نفس الفئة، وإن كان من المُستبعد أن يعود أحدُهما بالأوسكار إلى البيت!

تربّع في أعلى هذه القائمة الفيلم الكوري التُحفة “طفيل” “باراسايت”، واستقرّ في آخرها “حدث ذات مرّة في هوليوود” في وصول غير مُستحق لكوِينتِن تارانتينو الذي أفلتت منه خيوط القصّة في فيلمه هذا.

تسعة أفلام تسلسلت بفروقٍ واضحة في كلّ شيء، واتّفقت في نيْلِها إعجاب لجنة الـ “أوسكار”، فأدخلتها الثانيةُ التاريخَ من أكثر أبوابه إمتاعًا.

“الإيرلندي”: كُل النّسخ حاضرة

أبطال سكورسيزي دائمًا مجانين، مهووسون بالإنجاز، عازمون على الوصول إلى مُبتغاهم رغم الأسنّة التي تحف الطريق؛ من روبرت بَبكِن في “ملك الكوميديا” الذي انتزع “جوكر” تود فيليبس نصيبًا وافرًا من جنونِه، وحتى الأب رودريغز الذي لم يُثنِه توحش اليابانيين عن أي شيء في “سايلنس”، ومن ماكس كايدي الذي يتقلّب على جمره في “كايب فير” Cape Fear حتى الـ “دينامو” جوردَن بِلفورت في “ذئب وول ستريت”، ومن الطفل الجسور “هيوغو” حتى القاتل، معبود الجماهير، ترافِيس بِكِل في “سائق التاكسي”!  

فهل يختلف فرانك شيران (روبرت دنيرو) بطل “الإيرلندي” عنهم؟ بالتأكيد لا.

هل يُقدّم سكورسيزي شيئًا مغايرًا تمامًا هذه المرة؟ لا. وهذا بالضبط أجمل ما في “الإيرلندي”!

إنّها ذات الجعبة التي يُخرج منها سهامَه فلا يُخطئ، ذات القُبّعة التي تتدافع منها أرانبه المدهشة.

في ساعات “الأيرلندي” الأكثر من ثلاث، نتتبع القصة المأخوذة من أحداث حقيقية عن فرانك شيران الذي بدأ كسائق شاحنة وانتهى به الأمر قابعًا في دار رعاية المسنّين يقصّ فيها عن حياته الحافلة، وعلاقته برئيس المافيا الإيطالية راسل بوفالينو (جون بيشي)، ومقتل النقابيّ جيمي هوفّا (آل باتشينو)، وما بين هذا وذاك من تفاصيل داكنة، ممتلئة بالهرب، والرصاص، والعهود، ونكث العهود، والبيوت التي لا تكتفي من الدهان!

إنّ سكورسيزي لا يُكرر نفسه على مستوى الموضوع فقط، بل على مستوى الصورة أيضًا، هناك مثلًا المشهد الذي يُحطم فيه شيران كفّ البقَال، لقد شاهدنا موتيفة مهاجمة/ إدماء كفّ اليد في “عصابات نيويورك”، و”كازينو”، وفي مشاهد الصلب في “الإغواء الأخير للمسيح” حيث تنغرز المسامير في أيدي الأبرياء دون رأفة.

لا يُمكن تجاهل الحنين الجارف الذي يمنحه “الإيرلندي” لزمن التسعينيات وفيلم سكورسيزي البديع “غودفيلاس”، وما قبله وما بعده من مفرداتٍ مألوفة لعب بها مخرجنا المحبوب بمهارة فائقة الإمتاع دون كلل.

في جُملتيْن؛ “الإيرلندي” كُل ما يُحبّه سكورسيزي، وكُل ما نحبه نحنُ في سكورسيزي.

“قِصّة زواج”: عنق الزجاجة أفضل من قاعها

الطلاق الذي يحدث لمئات الآلاف كل يوم يلتقطه نوا بومباك في فيلمِه “قِصّة زواج” ويقرر أن يشرّحه، وأن يدفعنا لمعاينته تحت مِجْهره المُحاصِر، فيغترف تعاطف الجماهير بكلتا يديه.

يحكي الفيلم عن نيكول وتشارلي (سكارلِت جوهانسن وآدم درايفر)؛ عاشقان، ثم زوجان، ثم مُنفصلان. هكذا ببساطة!

نيكول ممثلة كانت تنتظرها مسيرة مهنية حافلة في لوس أنجلوس، لولا زواجها من تشارلي وانتقالها معه إلى نيويورك، لتصبح ممثلة في فرقته المسرحيّة. بعد سنوات تُعيد النظر في حياتِها وكيف انزوت داخل عالم تشارلي المسرحيّ الطموح، فتقرّر الطلاق، ومن هنا يبدأ سيلٌ من المشاعر، والأسئلة المُلحّة، وحُرقة النهايات.

كان من السهل استحضار فيلم “كريمر ضد كريمر” (1979) من بطولة داستِن هوفمان وميريل ستريب. وقد بدا التشابه بين العملين في أكثر من ملمح؛ التوتر العام، وحضانة الابن، وخطط المحامين للفتك بالطرف الآخر. في الفيلم “السبعيناتي” تقف ميريل ستريب داخل المصعد يواجهها داستِن هوفمان غير مصدّق لما قالته لتوّها فينغلق باب المصعد دونهما، إنّها الدلالة على استحالة العودة، في “قصة زواج” يتكرر المشهد ولكن “العزول” هنا باب المنزل، الذي يُغلقانه “سويًا” في وجه بعضهما، وهو مشهد، رغم قصره، مُقبض للغاية.

أمّا المشهد الذي حجز لنفسه مكانًا في أيّ جدل قادم حول الجندر والنسويّة في السينما الأمريكية الحديثة فكان بين المحامية نورا (لورا دِرن) ونيكول، وتحدّثت فيه الأولى فيما يُشبه الخطبة المُقتضبة عن ضغط المجتمع على الأمهات، وكيف أنّ السيدة العذراء ولدت ابنها بمفردِها في غيابِ “الأب” الذي لم يُكلف نفسه عناء الإخصاب!

يضغط بومباك على أبطالِه حتى الرمق الأخير، وينقّلهم بين فِخاخ الذاكرة، ولوم الذات، و”ماذا لو” كريه المذاق، في سيناريو ممتع، وذكي، وحسّاس.

إنّ الطلاق رغم الحُب، أكثر صعوبة من الاستمرار في الزواج دون وِفاق، هذه الحقيقة/كرة الصوف التي غزل منها بومباك قصّته المؤثرة. ولكن لماذا اختار اسم “قِصّة زواج” وليس ” قِصّة طلاق” أو ” قِصّة حُبّ”؟ ربّما من سيعرف الإجابة، هو أكثر من سيبتهج إذا حاز هذا الفيلم على الـ “أوسكار”.

“طفيل”: الجوارب ليست في أماكنِها  

يبدأ فيلم المخرج بونغ جون هو، بجوارب معلّقة على منشر غسيل بلاستيكي صغير الحجم يطل على النافذة صباحًا، وينتهي الفيلم بها تظلل أحد أبطاله مساءً، جوارب تواجه النافذة، تعلو ساكني البيت، كأنها أقدام مُعلّقة تدلّت رؤوس أصحابها إلى الأسفل، حياة تمشي رأسًا على عقب.

يبدا فيلم “أوكجا” أيضًا لنفس المخرج بمشهد لحذائيْ الثرية المهووسة لوسي مِراندو (تيلدا سوينتون) ناصعي البياض.

الأقدام ومتعلّقاتها تعني الأساس، تشير أيضًا إلى ما يقبع في الأسفل، هناك الكثير من “أعلى” و”أسفل”، و”فوق” و”تحت” في أفلام بونغ جون هو، بكل التنويعات الممكنة، عالمان لا يختلطان وإن حدث فالنتيجة ليست أقل من مجزرة! 

تعيش أسرة السيد كاي- تايك في منزل “الجوارب المعلّقة” تلك، أربعة أفراد عاطلون عن العمل، تتغير حياتهم حينما يزورهم صديقُ ابنهم ويمنحه فرصة للعمل كمدرس خصوصي في أحد البيوت الفارهة، التي تقبع فيها الجوارب في أماكنها الصحيحة، ومن هنا تتسلل الأسرة واحدًا تلو الآخر إلى البيت الجميل، وتحاول التمتع بنعائمه متعايشة مع الأسرة الثرية التي لم تشك بشيء سوى بالرائحة المنبعثة من الدخلاء خفيفي الظل. في النصف الأول من الفيلم لا يُمكن إلا أن تُعجب بذكاء تلك العائلة الفقيرة، وقوتهم التي تقترب من التبجح، ثم تتسلسل الأحداث ككرة الثلج بعد رنّة جرس تدقها مدبّرة المنزل السابقة باحثة عن آخر شيء يخطر على البال.

يقع الفيلم ضمن ما يُمكن أن نطلق عليه كـ”نوع” genre سينمائي فرعي بـ”غزو البيوت”؛ حين يسكن الغرباء بيت أسرة كانت سعيدة قبل هذا الحدث، بالحيلة أو بالاقتحام المباشر، يتشابه “طفيل” مع فيلم الأمريكيّ جوردان بيل “نحنُ” الصادر في 2019، الذي خرج خالي الوفاض، على غير المتوقع، من ترشيحات الـ “أوسكار”، وكان يحكي أيضًا عن الخلاف الطبقي، وما تنهشه الحياة الأمريكية النهمة من حياة الأفراد.

بونغ جون هو يعرف أين يحقن إبرته بالضبط، وكيف تصل الجُرعة إلى هدفها مباشرة، في أكثر من ساعتين بقليل، يغمرنا بونغ جون هو بالضحك، والخوف، والحزن، والتأمل، في النهاية المُظلمة للعائلتين، و”الرائحة” المتخفيّة تحت الجلد؛ والكرب المُباغت، والخطط التي لا تعمل أبدًا.

يذهب بونغ جون هو وراء الخلاف الطبقي، يذهب أعمق، يذهب بعيدًا، حيث جوهر المخاوف الإنسانية وإحباطها، بسيناريو مُذهل، متدفّق، وخيال جميل ومؤذٍ.

لنعيد التأمل في مصير العائلتين ونتساءل: يا ترى من كان الطفيليّ على حياة الآخر!

“نساء صغيرات” وفيلم أصغر

رأيت المُخرجة غريتا غِروِغ لأول مرة في فيلم “بيت الشيطان” الذي شاركت فيه بدور صديقة البطلة التي تتناول معها البيتزا والصودا ولا تكف عن الثرثرة، ثم يُفجر القاتل المختل رأسها، بعدة عدة مشاهد، داخل السيارة فيتناثر مخها في كل مكان.

بعد أقل من عشر سنوات كانت غريتا غِروِغ تجلس في مسرح دولبي في احتفال الـ “أوسكار” 2018 باعتبارها المرأة الوحيدة المُتنافسة مع زملائها في فئات: أفضل مخرج/ة وأفضل فيلم، وأفضل سيناريو أصلي، حيث شاركت بفيلمها “ليدي بيرد” الذي قدّمت فيه غِروِغ الطرازَ المعروف للمراهقة الأمريكية التي تعيش خلافًا صارخًا مع والدتها، وتقضي يومها في التفكير بالحب والجنس، ومحاولة البحث عن فتاها الذي سيفتتحان جسديهما معًا.

وهذا العام تدخل غِروِغ بفيلمها التالي “نساء صغيرات” Little Women إلى الترشيحات النهائية لجائزة أفضل فيلم، ولكن هذه المرة تقف ضد، صديقها ووالد ابنها، نوا بومباك؛ إنّها قصة قد تفضلها لجنة الـ “أوسكار” على عشرة أفلام جيّدة، ويحضر هنا وصول الزوجين السابقين كاثرِن بِغِلو وجيمس كاميرون إلى نهائيات الـ “أوسكار” التي فازت بها الأولى عن فئتي أفضل مخرج وأفضل فيلم.

الفيلم مُقتبس عن رواية ساحقة الشهرة بنفس الاسم للكاتبة لويسا ماي ألكُت، تحكي فيها معاناة أربع فتيات وأمهنّ أثناء الحرب الأهلية الأمريكية، وقد تم تحويل الرواية مرات كثيرة إلى أعمال فنيّة، كما عُرض منها نسخة كرتونية مدبلجة إلى العربية كمسلسل في التسعينيات.

على مستوى الصورة فإنّ غِروِغ موهوبة، وبرعت في اختيار مواقع التصوير، وحركة البطلات والأبطال داخل المساحات المحدودة والواسعة على السواء، لكن الإشكالية في “نساء صغيرات” أنّه فشل في تحقيق ما تُريد مُخرجته أن يكون أهم ما فيه، فهذه المخرجة الشابّة، كغيرها من صانعي الأفلام، لم تستطِع أن ترى أبعد من مترين فيما يخص قضايا النساء في السينما.

إنّ “تجميع” الممثلات في فيلم واحد لا يعني بالضرورة ترجيح كفّة النساء في الصناعة السينمائية على مستوى القضية أو الدراما، ولا يوصلهنّ لأي محطّة، إلا بقدر ما تُناصر أفلام مع يعرف بـ “الاستغلال الأسود”  أو blaxploitation من السبعينات عن “قضايا” السود.

يدور “نساء صغيرات” في مجملِه، كما في فيلم غِروِغ السابق، عن الرومانسية، والزواج، والرجال الوسيمين، مع تقديم بعض الرسائل التي نثرتها غِروِغ هنا وهناك، ولقّنتها بالملعقة عن طموح النساء والصعوبات اللاتي تعترضهن، في أسلوب تقريريّ مُباشر دون أي محاولات في التعمّق، أو الإتيان بالجديد!

“نساء صغيرات” فيلم عادي، يُمكن متابعته في أمسيات الضجر عندما تُريد مشاهدة نساء جميلات في ملابس عتيقة مُلفتة.

تقول البطلة جو (سيرشا رونَن) في أحد مشاهد الفيلم لصديقها (تيمِثي شالميه) بأنّها سئمت من الفكرة التي تقول بأنّ المرأة لا يُناسبها إلا الحب، وهذه الملحوظة بالضبط هي ما يجب على غرِتا غِروِغ أن تستوعبها جيدًا!.

“فورد ضد فيراري”: أمريكا الواقعة في حجرتين

يُجيد المُخرج جيمس مانغولد تصويرَ الرجال الوسيمين الغارقين في العرق، والملابس المتّسخة، والمجهود البدنيّ الذي لا يجاريهم فيه أحد، فيقدم هنا كريستيان بايل ومات دايمون في ذروة سحرهما الرجولي رغم زيوت التشحيم، وغبار الطرقات، في فيلمٍ يدور أكثر من نصفِه في مضمار السباق وورش السيارات.

يحكي “فورد ضد فيراري”  Ford V Ferrariعن السباق التاريخي ذي الأربعة وعشرين ساعة الذي تم في باريس  1966بين شركتي “فورد”  الأمريكية و”فيراري” الإيطالية، وما فعله مصمم السيارات كارول شِلبي والسائق كِن مايلز للفوز على منافسيهم.

لا يسرد مانغولد حقائق تاريخية بقدر كشفه لشكل الحلم الذي يُنجزه الشغف، والصداقة، والإيمان بالآخر.

رأى بعض المشاهدين أنّ الفيلم يهمهم بنغمة “الحلم الأمريكي” لكنّ ذلك غير صحيح إلى حد كبير، إذ أظهر الفيلم إدارة “فورد” الأمريكية على قدر من الجشع، والمحدودية والبيروقراطية، والغيرة الرجالية التي تعمي وتصم، فتأتي اللفتة الساحرة من مدير “فيراري” العجوز وهو يرفع القبّعة تحيةً لمنافسِه مايلز بعد أن سُحقت بهجة الأخير على يد ابن جلدته.

رغم أنّ الفيلم يخلو تمامًا من أي مشاهد جنسية تُذكر، لكنّ هناك نكهة اشتهاء يسهل التقاطها، فكان لابد من تذكر فيلم “كراش” لديفيد كرونِنبِرغ، حيث تجمّع الناجون من حوادث مرورية مُميتة بعكاكيزهم، وأسياخهم، وجروحهم العميقة لمشاهدة برامج إرشاديّة عن تفادي حوادث السيارات فيتعاطون معها كتعاطي غيرهم مع مشاهد البورن!.

في “فورد ضد فيراري” خاتمتان، تستطيع تخمين إحداهما بلا جهد، فلا يمكن أن يحمل فيلم رياضيّ أمريكي اسم “فورد” دون أن يكون الفيلم عن فوزها، أما الأخرى فهي أبعد قليلًا عن التوقعات، ولكنّها المآل المنطقي لجوهر الفيلم: يتحقق الفوز بما لا يستطيع المال أن يشتريه، كما قال شِلبي لأحد موظفي الشركة.

“فورد ضد فيراري” فيلم شائق، ومُشبع، ويقدم بسلاسة أمريكا المقسومة إلى فريقين: أنصار النظام، وأنصار الحلم.

“جوجو أرنب”: هتلر الذي أنقذني وقتل أمي

هنا فيلم آخر يحاول انتزاع الضحكة من القتامة، ثم غمسها في القتامة مرة أخرى. المخرج النيوزيلندي تايكا وايتيتي يُقدم “جوجو الأرنب” Joho Rabbit عن قصة صغيرة مُقتطعة من زمن ألمانيا الهتلرية.

جوجو (رومَن غرِفِن دايفز) طفلٌ نازيّ يُشاركنا صباح ذهابه إلى مخيّم “طلائع” النازيّة، وهو يتدرب وحيدًا أمام المرآة، ليس وحيدًا تمامًا فقد كان بجانبه صديقه الخياليّ هتلر الذي لعب دوره وايتيتي بنفسِه.

في المخيم نجد القائد كلِنزِندورف (سام روكوِيل/ وايلد بِل في فيلم التسعينيات الشهير “الميل الأخضر”) في دور بديع، وهناك أيضًا الآنسة الشقراء البدينة رام (رِبِل ويلسن) التي يخصصها وايتيتي لتوجيه كل شتائمه الجنسية للنازيين؛ إنّه جسد المرأة الذي يحوّله الرجال إلى شتيمة مقذعة في عراكهم الذي لا “عقل” له ولا “دين”!

يُثبت جوجو فشله سريعًا في المخيّم بعد أن يتراجع عن قتل أرنبٍ ما بكسر عنقه، ومن هنا نال لقبَه للدلالة على جبنه، ولكن صديقه الخيالي هتلر الذي كان يشاركه جوجو مخاوفه وأفكاره أقنعه بأنه ليس من السيء أن يتشبّه الإنسان بالأرنبِ!

جوجو أرنب أو “المؤرنَب” لم يتوقف، رغم الأذى النفسي الذي تلقاه في المخيّم، عن تغذية نازيّته الغضّة بكراهية اليهود، وكان كل شيء يسير كالعادة حتى يكتشف أنّ والدته الجميلة روزي (سكارلِت جوهانسن) تُخبئ خلف جدران إحدى الغرف صبيّة يهودية جميلة اسمها إلسا، فيقع النازيّ الصغير بين حبليْن يشدّانه إلى مُتنافِرَيْن؛ هتلر ووالده والوطن هناك، ووالدته التي يؤمن بها بلا شك في “هناك” آخر تمامًا.

يعيش جوجو تناقضات يومِه ولحظاته مع إلسا التي جعلته يشعر بالفراشات ترفرف في بطنه، وهي علامة الحب كما قالت له روزي، ولكن إحدى الفراشات قادته، في مشهد آخر، إلى جثةِ روزي المشنوقة في الشارع في يومٍ ألمانيّ بديع.

“جوجو أرنب” فيلم ريشة، عذْب، “بونبون” سهل الابتلاع وإن كان مذاقه بائتًا بعض الشيء، توظيف الأغاني الشهيرة في توقيتها المثالي بالذات أغنية “يجب على الجميع أن يعيش” لفرقة “لَف”، في الفيلم لمحة من “الحياة حلوة” لروبرتو بينيني مع الفارق الكبير لصالح الأخير بالطبع، لا أمل يُذكر في أن يفوز الفيلم على منافسيه، لكنّ من الضروري الإقرار بأنّ ما رآه البعض “أنسنة” فجّة لصورة هتلر ممكن اعتباره إجراء شجاع بشكلٍ ما لوايتيتي، والشجاعة يجب أن تكون محل ترحاب على الدوام.

“الجوكر”: الثمرة التي تفسد مرّتين

هناك مشكلة ما تُحيط بالجوكر/ المُهرّج. هذه قاعدة سينمائية يعرفها الجميع، ويحبها الجميع.

آرثر فلِك (يواكين فينِكس) يريد أن يُصبح ممثلًا فكاهيًا محترفًا في العروض المسرحية ولكنّ ظروفه لا تسمح، بدايةً بمرضِه النفسيّ ونهاية بثقل ظلّه، يعمل مهرّجًا بدوامٍ جزئيّ في إحدى المؤسسات التي تريد أن تُضحك الناس.

سرعان ما ندخل في عوالم آرثر وتتكشّف قصّتُه رويدًا؛ العوالم صنيعة الواقع والخيال في آن.  

يُقدّم المخرج تود فيليبس فكرة بإحدى يديه ويمحها بيده الأخرى، أشبع رغبات الجماهير بفيلمٍ يقتصّ للكثيرين، مشاهد خاطفة مثل اللوحة الإعلانية التي يُمسكها آرثر بالمقلوب، وآثار الدهان الأبيض الذي لم يُزله جيدًا من وجهه، ألهبت التصوّرات عن الشخصية المُحتقنة الجاهزة للاشتعال، بجانب الموسيقى البديعة التي تكاد أن تلمسها بيدك.

أما فينِكس فقد كان كل الفيلم؛ شعره الدهني، الندبة فوق شفته، بشرته المُعتلّة، حتى اللون الأخضر في عينيه يتحول من معاني الوفرة والخصوبة والانتعاش، إلى ما يشبه المياه الآسنة التي تُحيط بالمنازل التي هجرها أصحابها، وقد وضعه الفيلم ككل في مقارنة مُتوقّعة تمامًا مع جوكر الراحل هيث ليدجر الذي قدمه مع كريستوفر نولان.

كل جماهير “جوكر” كانت جاهزة، وكل التوقعات كانت صائبة، منذ اللحظات التي انتشر فيها المقطع المُصوّر لفينِكس وهو يواجه الكاميرا بينما تتداخل ملامحه مع وجهه في نسخته “الجوكرية”.

لقد كان فيليبس على قدر كبير من الذكاء حين حوّل آرثر نجمًا، وإن مؤقتًا، يرقص على هتافات الجماهير في الختام، أيّ نهاية أخرى كانت ستُفقد الشخصية قدرًا من جاذبيتها، لقد أشبع هذا الفيلم حاجات مختلفة لدى جماهير العالم؛ انتصار رمزي، مُختلَف في تصنيفه، كما يفعل الفن دائمًا.

الانتقاد الأبرز لفيلم “جوكر” كان اتّهامه بالتكرار وبأنّه لم يُضف جديدًا، وهنا تساؤل في مكانِه تمامًا: هل من المنطقيّ أصلًا أن نتوقع جديدًا من فيلمٍ بطله جوكر مريض يُريد أن يُصبح ممثلًا فكاهيًا؟

“حدث ذات مرّة في هوليوود”.. فعلاً

تارانتينو، كما سكورسيزي هنا، جرّته مُمتلئة بذات الموتيفات، وطريقة رصّ الأحداث، والخيوط الرقيقة التي تربط قصصًا “تارانتوية” متنافرة استعذبها الجمهور بلا مُقاومة منذ البدايات. الفرق بين سكورسيزي وتارانتينو هذه المرّة أنّ الثاني لم يكن موفقًا.

تم عرض الفيلم Once Upon a Time in Hollywood مع اقتراب الذكرى الخمسين لمقتل الممثلة شارون تايت على يد عصابة مانسن مع ضيوفها، في بشاعة غير قابلة للطيّ أو التجاوز.

 يدور الفيلم في 1969، عن الممثل ريك دالتون (ليوناردو ديكابريو) وبديله الممثل كليف بوث (براد بيت) وهي الفترة التي شهدت تحولات جذرية في هوليوود لفظت الكثير من العاملين في الحقل ومنهم ريك دالتون، فيحاول اكتشاف نفسه مرة أخرى، وموائمتها مع المتطلبات الجديدة، ونعرف أنّ النجمة الصاعدة آنذاك شارون تايت (مارغو روبي) وزوجها رومان بولانسكي  يجاورانه في ذلك الحيّ الهوليوودي، ويستعرض الفيلم أيضًا نجومَ تلك الحقبة الساحرة في حنين يجترّه تارانتينو بلا توقف، فيصل إلى المشاهدين كما أراد له صاحبه>

حول هذه الأفكار “يلف ويدور” هذا الفيلم، مع تركّز نصفه الثاني على اللاشيء تقريبًا، حوارات ممطوطة، مشاهدة مترهلة، قصص تعض ذيلها، “كولّاج” بصري فقد لمعته، وسحره.

أما فكرة تغيير الحقائق التاريخية، كما فعل تارانتينو في فيلمه “إنغلورْيس باستردز”، فهي فكرة ذات استخدام واحد، لا يمكن أن تُبهر الجماهير مرتين بفكرة من هذا الطراز، ولكنّ تارانتينو أعاد تشغيلها بإبقاء شارون حيّة وإبادة قاتليها بوحشية.

النقطة المضيئة في الفيلم كانت السينماتوغرافيا المُدهشة، والمقاطع الموسيقية التي توّجت صورًا بديعة، ولكن ذلك لم يكن كافيًا لينجو الفيلم من عاديّته المفرطة التي اقتربت من الرداءة، وكم كان ذلك مُخيّبًا لأمل كثير من محبي تارانتينو من أمثالي.

“جرّة” تارانتينو لم تسلم هذه المرّة. للأسف!

1917حيث أصبح الزمانُ مكانًا

هناك أمران عن الأفلامِ التي تحكي عن مُهمّة صعبة يُنفذها أصحابُها رغم الحرب المُشتعلة: أنّ الفريق المُناط به المهمة سيفقد بعض أفراده، وأنّ المهمة ستنجح. وإلا تنتفي العلّة الدراميّة لصناعة هذه الأفلام.

هنا يستخرج “جواهرجي” الجُثث سام مندس قصّة من مصدرِها قبل أكثر من مائة عام، ويصنع فيلمًا مستوحى من حكايات جدّه الذي شارك في الحرب العالمية الأولى.

قصة الفيلم بسيطة للغاية، بلايك (دين- تشارلز تشابمَن) وسكوفيلد (جورج ماكاي) مُلازمان يقع عليهما الاختيار لمهمة وجب إنجازُها في أقلّ من ثلاثةِ أرباع اليوم، مالم فالنتيجة مجزرة ضحاياها 1600 جنديًا بريطانيًا أحدهم شقيق الأول.

ينطلق المُلازمان في واجبٍ وطنيّ بالغ الثقل، يحركهما أمل واهٍ، ولكن على الأمل أحيانًا أن يكون على قدرٍ من الوقاحة.

في هذا الفيلم يستحيل الزمانُ مكانًا، يتشكل الوقتُ على هيئة ساحة حرب ضروس مزدوجة تستطيع أن ترى حدودها، ومخاطرها، والموت المختبئ خلف كل ثانية/ منعطف.

الطريق المفروش بجثث الجنود يزيد الحمل أطنانًا، ويرفع الترقب إلى ذروة سنامِه.

 وكاميرا مندس البارعة كعادتها، كانت قلب اللحظات الفارقة، كاميرا تشعر بها تركض وتلهث، وتقع، وتتمنى، وتخاف، وتطمئن!

جورج ماكاي الموهوب، ساعد الكاميرا في عملها، بوجهه الممتقع، وأدائه الذي لا يُقسّط شيئًا.

بدا، إلى حدٍ ما، أنّ مشاهد نجاة البطل من الموت غير واقعية، فلا يُمكن السير بين رصاص الألمان دون أن تسقط قتيلًا مئة مرة، ولكن الإجابة التي سيُلجمنا بها مندس أنّ هذه القصص قد حدثت بالفعل حسب رواية الجد، الذي وصف لحفيده عدد المرات التي نجا منها من موتٍ، كان وقتها، لا مفر منه.

إنّ الأفلام التي تعجن العاطفة بالحرب، تفوز دائًما بقلوب الجماهير، وبجوائز الـ “أوسكار”!

Visited 325 times, 1 visit(s) today