” صمت القصور”: عندما فتحت مفيدة صندوق الأسرار

Print Friendly, PDF & Email

الزمن : تونس سنة 1965، الحدث : “علية” الشّابة ذات 25 ربيعا مغنية أعراس، تعيش مع لطفي منذ 10 سنوات بدون زواج، رغم حبه لها يرغمها على الاجهاض في كل مرة تحمل منه. ستقرّر العودة إلى مكان طفولتها لتقديم العزاء، بعد أن تعلم بموت الباي “سيد علي” سيّد القصر حيث كانت أمّها خادمة. تعود ذاكرة “عليا” إلى سنوات الطّفولة التي قضتها مع أمها وسؤالها المستمر عن أب مجهول الهوية.

قبل الخوض في الفيلم لابد من تقديم لمخرجته “مفيدة التلاتي” التي ولدت في تونس سنة 1947 في عائلة محافظة، ووافتها المنية في 2021. درست السينما في فرنسا و حصلت على دبلوم في المونتاج سنة 1968، اشتغلت على العديد من الأفلام المغاربية لتقرر سنة 1994 الخوض في اخراج أول فيلم كتبت له السيناريو مع نوري بوزيد: “صمت القصور”. سيحصد فيلمها العديد من الجوائز في نفس السنة أهمها : التانيت الذهبي بقرطاج، الزنبق الذهبي بمهرجان اسطنبول الدولي، تنويه خاص لجنة تحكيم الكاميرا الذهبية بمهرجان كان…لم تكن مفيدة تظن أنها ستصنع فيلما يوما ما بحكم تكوينها في المونتاج، حتّى انبثقت هذه الحاجة في الكتابة والاخراج بعد نبش في الذاكرة دام 25 سنة، فأتحفتنا بأول فيلم تونسي من اخراج امرأة .

مفيدة التلاتلي

في حوار تلفزي سنة 1995، تحكي المخرجة: “حينما كنت طفلة كانت المرأة التونسية تسمّى مُستَعمَرة المٌستعمِر. كتبتُ هذا السيناريو وأنا أفكّر في أمي (التي أهديتها هذا الفيلم) وكل مَسكوت عنه عاشته طول حياتها. كل ليلة نفس الخنوع، نفس الذّهاب والاياب بين المطبخ و طوابق المنزل. اكتشفت السينما من خلال أستاذي في مادة الفلسفة و الذي كان يعرض لنا أفلام لمخرجين عالميين و حين كنت أنوي الذهاب الى السينما رفقة قريباتي كنّا نتحجج برؤية مريض أو حضور حفل خطوبة. كان الفيلم المصري أو الهندي الذي أشاهده يحملني الى عالم من الأحلام بعيد جدّا عن عالمي الحقيقي” .

يعتبر هذا الفيلم أهم ما قُدّم في السينما العربية عن المرأة، بدخول عليا إلى القصر فتحت عيون المشاهد على وقائع وأحداث، ظلم و استبداد و استباحة للأجساد . يمُر شريط الذكريات في مخيّلة “عليا” عبر الممرّات الخالية للقصر، ليحملها الى صداقتها الممنوعة مع “سارة” حفيدة “سيد علي” و ولعُها بالموسيقى و الغناء، عاشت بحثها عن أبيها في صمت مؤلم ، إلاّ أن  تعاطف سيد علي معها كان يوحي لها وللمُشاهد بأنه و الدها. نبشت في ذكريات ظنت أنها دفنتها مع أمها القوية الجميلة “خديجة” التي ناضلت أيضا في صمت كي لا تلقى ابنتها نفس مصيرها كخادمة في القصور. لإنجاح هذه المهمّة لجأت المخرجة إلى تقنية الفلاش باك و أدوات ربط بين الحاضر و الماضي : العود, المرآة, و”خالتي حادّة” خادمة قديمة في القصر والتي ستحيي ذكريات عاليا المنسية.

وجدت مفيدة الخيط الذي تحيك به فيلمها و هو الموسيقى و الغناء اللذان احتلا حيزاً هامّا في الشريط الصوتي للفيلم، كما جاءت الحوارات قصيرة و مركزة، وحضر المذياع كأداة لوضع المشاهد في سياق الأحداث التي عاشتها تونس خلال تلك الفترة والتي شكّلت منعطفا تاريخياً يتمثل في الانتفاض ضد الاحتلال الفرنسي الذي تواطئ مع سادة تونس (الحسينيون) لإمضاء معاهدة الحماية و التي سلبت منهم جل صلاحياتهم.

لقطة من الفيلم تظهر فيها هند صبير على اليمين

 الصمت هو قاعدة اللعبة، فالكل يجب أن يبقى ساكتاً و لو رأى انتهاكاً لحريته أو لشخصه. خديجة كمثال، تعرف الكثير من الاسرار لكنها لا تستطيع البوح بها مخافة الطرد من القصر، تبقى صامتة رغم تعرضها لبشع أنواع الاستغلال الجنسي حتى فقدت إنسانيتها وأصبحت مجرد دمية يلهو بها أسياد القصر و حتى نساء الطبقة الارستقراطية كنّا مجرد ديكور لتأثيث القصر و لم يكن لهن أدنى دور في المجتمع. ركزت مفيدة في إخراجها على اللقطات المكبّرة للوجوه و النظرات في عيون الخادمات , حتى توصل للمشاهد حجم المعاناة و الالم الذي عانته المرأة التونسية والمتمثلة في خديجة.

الشخصيات في الفيلم منقسمة إلى طبقتين : الطبقة العليا (أسرة سيد علي) يسكنون الفوق في قصر جميل و حدائق غنّاء يقضون وقتهم في الغناء والحفلات والاكل اللذيذ، و الطبقة السفلى (الخدم) محشورون في الاسفل كالجرذان يأكلون البقايا و يغنون في صمت و يأتي اليهم أسيادهم في المساء ليفرغوا فيهم مكبوتاتهم و كأنه يدخل في إطار عملهم داخل القصر.

 لعبت عاليا (والتي أدت هند صبري دورها كطفلة بإتقان، في أول ظهور لها على الشاشة الفضية) حلقة وصل بين هاتين المجموعتين وهي تسرد حكاية الصمت الذي سينكسر على يديها، سيحررها الفن من مصيرها الذي كان ينذر بأنه سيكون مشابها لمصير أمها، ستنال حريتها بعد أن تتوقف فجأة عن أداء أغنية غرامية في عرس سارة لتبدأ في إنشاد أغنية وطنية تنادي بالاستقلال، سيخرج المدعوون و تهرب عاليا مع لطفي (سامي بوعجيلة) المعلم الذي يشعل حب الوطن و حبه هو في قلب عاليا.

السؤال المطروح هو: هل تغير شيء بعد استقلال تونس؟ كيف يرفض لطفي المناضل السابق الاعتراف بالجنين و يطلب من عاليا الاجهاض؟ الثوري الذي انتشل المرأة من العبودية بالأمس ها هو يخذلها اليوم و يُبقيها جسداً للمتعة لا غير!

  • ناقد سينمائي من المغرب
Visited 7 times, 1 visit(s) today