“إيراني” تجربة جديدة مثيرة في تصوير الفيلم الوثائقي

Print Friendly, PDF & Email

عرض هذا الفيلم في تظاهرة “المنتدى” في مهرجان برلين السينمائي في دورته الرابعة والستين (6- 16 فبراير).

الفيلم الذي نحن بصدد تناوله هنا يمكن إعتباره تجربة سينمائية جريئة، لا تشوبه أية إدعاءات أو مبالغات أو تفنن في التجميل والتقطيع والإضافات، بل نحن أمام فيلم مباشر يستخدم أسلوب سينمائي بسيط ومعبر، ليخلق حالة فلسفية وفكرية يمكن للمشاهد تأملها واستعادتها عقب انتهاء المشاهدة.

الفيلم بعنوان “إيراني” Iranian  وهو أولا عنوان يؤكد على هوية صاحبه، أي مخرجه الإيراني مهران طمادون الذي يعيش في باريس ويتمتع بالجنسيتين- الفرنسية والإيرانية- والمقصود أنه لم ينسلخ أبدا عن ثقافته أو مجتمعه، بل يظل إيرانيا حتى ولو اختلف مع ما يمارس من سياسات وما يجري الترويج له في إيران من مفاهيم ومعتقدات.

وثانيا يشير العنوان بشكل مباشر أيضا، إلى أن كل ما نراه في الفيلم هو صورة مصغرة للمجتمع الإيراني وما يجري فيه من صراعات وما يشوبها من تناقضات، أي أننا أمام “حالة إيرانية” أو “صورة إيرانية” تماما ربما لا تشبه غيرها في أي مكان في العالم.

طمادون في تجربته المثيرة هذه، قضى ثلاث سنوات كما يقول لنا في مقدمة فيلمه، أي قبل أن ندخل إلى صلب موضوعه، يبحث عن رجال ينتمون للنظام الإيراني ويتبنون أفكاره، يقبلون الظهور في فيلمه والمشاركة أمام الكاميرا، في مناقشات متعددة حول قضايا محددة تتعلق بالوضع السياسي في إيران حاليا.

وقد نجح أخيرا في الحصول على موافقة أربعة أشخاص، غامروا بظهورهم في الفيلم بعد أن أن مارست السلطات الكثير من الضغوط على المخرج وعلى كثيرين ممن اتصل بهم أثناء محاولة البحث والاعداد لفيلمه.

المشاركون الأربعة هم من الشباب ومن الشيوخ، من رجال الدين والبسطاء والمتعلمين، طلب منهم أيضا أن يأتوا بأسرهم: زوجاتهم وأطفالهم، لقضاء بضعة أيام في ضيافته في منزله الفسيح الذي يقع في ضواحي مدينة طهران، لا يقيم فيه عادة عند زيارته لإيران، كما أن والدته المقيمة في العاصمة ترفض الابتعاد عن المدينة والعيش بمفردها في هذا المنزل ذي الحديقة البديعة.

مجتمع مصغر

الهدف من اجتماع الرجال الخمسة (أربعة وخامسهم المخرج نفسه) هو اجراء مناظرة مفتوحة مصورة أمام الكاميرا، حول الأوضاع السياسية والاجتماعية في إيران، والبحث- كما يقول المخرج- عن صيغة للتعايش بين العقائديين الإسلاميين أنصار الجمهورية الإسلامية (ويمثلهم الرجال الأربعة)، والعلمانيين أو أصحاب الفكر الليبرالي (ويمثلهم هو). وقد أراد من البداية أن تتناول المناقشة قضايا محددة منها: هل يمكن أن يقبل المجتمع الايراني التعايش بين أصحاب الأفكار المختلفة دون أن يفرض أحد الأطراف فكره ورأيه على الطرف الآخر؟ هل الزي المفروض ارتداؤه على المرأة في ايران قيد يجب التخلص منه والسماح بحرية الملبس للمرأة؟، ما هي مزايا ومساويء المجتمع العلماني، هل يمكن الاستفادة من تلك المزايا؟ ما هو الموقف من حرية التعبير والنشر؟ والموسيقى والغناء، بل من الإجهاض.. وغير ذلك.

لا تظهر النساء في الفيلم بل يفرض عليهن التواجد في الحجرات الخلفية، بينما يقوم الرجال بطهي الطعام، ويظهر بعض الأطفال منهن فتيات صغيرات ترتدين غطاء الرأس. وإذا أدركنا أننا أمام إعادة تجسيد على نطاق صغير- أمام الكاميرا- للمجتمع الإيراني الذي يرى البعض أن الإسلاميين يشكلون فيه الأغلبية، في حين يمثل الطرف الآخر- العلماني- الأقلية، لأدركنا أن وجود المرأة وراء الستار يرمز إلى وضعها الحالي في المجتمع أو أن هذا ما أراد المخرج إبرازه من البداية بذكاء شديد عندما ألح على ضيوفه الذين نراهم وهم يصلون إلى المنزل بسياراتهم واحدا وراء الآخر، أن يتصلوا بزوجاتهم ويقنعوهن بالقدوم والاقامة معهم منعا لتسلل الملل والشعور بالوحدة إلى نفوسهن.

المخرج طمادون متزوج ولكنه ترك زوجته وراءه في فرنسا وأتى وحده في زيارة لعائلته في إيران ولتصوير الفيلم الذي استغرق الاعداد سنوات. الموجودون يتطلعون إليه في البداية بنوع من التشكك.. يوجهون إليه انتقادات كثيرة من أول لحظة، قبل أن يبدأ الهجوم الشرس على العلمانية والنظام المدني المطبق في المجتمعات الأوروبية.. لكنه لا يركن الى الصمت أو يسلم بالتراجع بل يحاول دائما أن يبرز حجته دون أن يفقد أعصابه أبدا، وهو يرد ويجادل ويحاول إقناعهم بأن النظام العلماني وجد لحماية حرية الأديان كافة، وأن قيمة المرأة لا تعود إلى ما ترتديه، ولكن الردود تأتي أيضا حاسمة وقوية، وخلالها يستخدم “الضيوف” ما يسوقه طمادون نفسه من أفكار للهجوم عليه بدعوى أنه “ديكتاتور” يريد أن يفرض أيديولوجيته عليهم وأنه لا يقل تشددا عقائديا عنهم، ويصل الحديث في وقت ما إلى أنه ليس من الممكن التعايش بين فكرين متناقضين تماما، ودائما تكون المرجعية الدينية هي الحاسمة، لكن المناقشات التي تتخذ في الكثير من الأحيان شكلا حاميا، لا تصل في أي لحظة إلى نقطة الصدام، بل تتخللها الكثير من المواقف والتعليقات الضاحكة والنكات والمشاركة في الأمور الحياتية البسيطة.

تبرز في الفيلم شخصية رجل دين يرتدي الملابس التقليدية، لكنه يترك نفسه على سجيتها في الكثير من المواقف، يطلق النكات ويضحك ويسخر ويمارس طهي الطعام ببراعة. هناك أوقات أيضا لأداء الصلاة، بل وفي أحد المشاهد نراهم يقنعون المخرج الذي يعلن بوضوح أنه غير ملتزم دينيا من البداية، بالوضوء والمشاركة معهم في الصلاة، فيوافق ويقول إنه لا يمانع بل وإنه أيضا يشعر بالسعادة في المشاركة.. لكنه يظل على موقفه السياسي والاجتماعي الرافض للنظام الإيراني تماما وهو ما يعبر عنه بوضوح في الفيلم.

وفي الفيلم جدال كثير عن المرأة، وعن الجنس، وكيف أن الملابس المكشوفة تجعل الرجل يشعر بالإستثارة، وأن الرجل غير المرأة في هذا الأمر، وكيف يجب أن تتغطى المرأة وأن تبتعد عن أي أعمال قد تثير الغريزة، وكيف أن الإجهاض جريمة بحكم الدين الإسلامي، وأن الدولة يجب أن تحكم طبقا لتعاليم “العقل الكامل”، أي الدين وليس من الممكن القبول بنظام من وضع الإنسان هو أضعف وأقل كثيرا مما وضعه الخالق.. إلخ

الغناء والموسيقى

وعندما يتطرق الحديث إلى الموسيقى والغناء يوافق بعض المشاركين ومنهم رجل الدين، على الاستماع للموسيقى والأغاني التي يغنيها الرجال، ويشترط ألا تسبب أغاني النساء أي نوع من الإثارة، في حين يرفض الشباب الحاضرون تماما فكرة غناء المرأة من الأساس!

يحاول المخرج جاهدا تفنيد تلك الآراء، والرد عليها، ويصل إلى موضوع حرية الفكر والنشر والإبداع، فيقوم بتعليق صورة ضخمة على جدار الغرفة لمكتبته في باريس التي تضم الكثير من أنواع الكتب معظمها ممنوع في إيران، كما يلصق على جدار آخر صورة أخرى موازية للكتب المسموح بها في إيران. ويدير مناقشة طويلة حول حرية الفكر، يتفق بعضهم ويختلفون معه حولها. لكن الفيلم ينتهي إلى فشل فكرة التعايش داخل البيت الواحد بين أطراف يختلفون تماما في العقيدة السياسية والنظرة الاجتماعية. ولكنهم نجحوا في شيء واحد أساسي هو إجراء ذلك الحوار المفتوح الصريح المتبادل بحرية كاملة دون أن يقهر طرف الطرف الآخر.

مع نهاية الفيلم نعرف من خلال التعليق الصوتي للمخرج أنه تعرض للاستجواب والتحقيقات والضغوط العديدة للتخلي عن الفيلم، وغادر إيران في النهاية عائدا إلى فرنسا بعد أن قيل له بوضوح إنه إذا عاد مرة أخرى إلى إيران فسوف يسحبون جواز سفره ويرفضون أن يغادر مرة أخرى إلى الخارج!

يقع الفيلم في 105 دقيقة وهو زمن طويل نسبيا كما يبدو للوهلة الأولى بالنسبة لموضوعه خصوصا وأنه يدور في مكان واحد (في البداية فقط نرى مناظر عامة لطهران بزحامها المعروف وتكدس طرقها بالسيارات ثم مناظرها الليلية).. ولكن المخرج ينجح في خلق إيقاع متدفق سلس في فيلمه من خلال استخدام الكاميرا الحرة التي تتجول داخل المنزل وتتخذ الكثير من الزوايا المتنوعة كما يعتمد على اللقطة المشهد أي المشهد الذي تتغير فيه أحجام اللقطات، مع التركيز على اللقطات القريبة (كلوز أب) للتعرف عن قرب، على مختلف الشخصيات التي تشارك في التجربة. وقد نجح أيضا في خلق مساحات للتنفس تتوقف فيها الحوارات، واستخدم الموسيقى والأغاني (وهو ما استفز معظم المشاركين فطلبوا وقف الغناء).. كما استخدم المونتاج بحيث يوحي بمرور الزمن وتعاقب الأيام، وكان يقطع المناقشات تارة بالصلاة أو بالطهي والثرثرة العادية التي تخللتها الضحكات والنكات وألعاب الأطفال.

ورغم زمن الفيلم الطويل نسبيا، ليس من الممكن أن ينصرف المشاهد في أية لحظة عن متابعة الفيلم، بمواضيعه المثيرة المطروحة بقوة في المجتمعات العربية في الوقت الراهن، ورغم أي ملاحظات حول جرأة وصراحة ما يقال خلال تلك المناقشات، سيجد المشاهد الكثير مما لم يكن يعرفه، عن إيران، وعن الأفكار التي يرددها طف من الطرفين. ولعل هذا هو أكثر ما يميز الفيلم ويجعله معاصرا تماما.

((هذا المقال نشر أولا في موقع الجزيرة الوثائقية ويعاد نشره هنا باتفاق خاص))

Visited 34 times, 1 visit(s) today