“سيرجيو” الدبلوماسي الذي دفع حياته من أجل السلام في العراق

لقطة من فيلم "سيرجيو" لقطة من فيلم "سيرجيو"
Print Friendly, PDF & Email

عرضت شبكة نتفليكس مؤخرا الفيلم الأميركي الجديد “سرجيو” Sergio من نوع “الدوكيو- دراما”، أي أنه يصور وقائع وشخصيات حقيقية، من خلال الدراما السياسية مع لمسة رومانسية وإنسانية واضحة.

يعود هذا الفيلم مرة أخرى إلى موضوع الحرب في العراق، وتحديدا إلى ما بعد الغزو الأميركي، وبعد وصول بول بريمر، مبعوث الرئيس الأميركي جورج بوش (الإبن) لإدارة العراق، ثم وصول بعثة الأمم المتحدة إلى بغداد برئاسة المبعوث الدولي لحقوق الإنسان (البرازيلي الأصل) “سيرجيو فيرا دو ميلو”.

نحن نعرف قبل مشاهدة الفيلم، أن “سيرجيو” لقي حتفه في الانفجار الذي وقع فدمر جانبا كبيرا من “فندق القنال” الذي اتخذه سيرجيو دو ميلو مقرا لبعثته الدبلوماسية، وقد وقع الانفجار في 19 أغسطس 2003، وأسفر عن مقتل دو ميلو و20 من أفراد فريقه.

 المعرفة المسبقة بالحدث تجعله يتخذ موقعا متقدما من الفيلم أي أننا سنشاهد في وقت مبكر، وقوع الحادث الإرهابي، ولذلك يتخذ الفيلم مسارا غير تقليدي “غير خطي” في السرد، لإثارة اهتمام المتفرج بمعرفة من هو سيرجيو، ومن أين جاء، وماذا كان يعتزم أن يفعل في العراق، وما هي خلفيته السياسية والدبلوماسية، بل وكيف ان مسار حياته الشخصية. لذلك ينتقل السيناريو الذي كتبه كريغ بوتين (عن كتاب “مطاردة اللهب: نضال رجل من أجل انقاذ العالم)، على الانتقال بين الأماكن والأزمنة، وبين الخاص والعام، لكي يمنح الفيلم عمقا من خلال تسليط الأضواء على شخصية “سيرجيو” الرجل والإنسان المثالي النزعة، الباحث عن السلام في عالم ملييء بالعنف والنزاعات المسلحة والكراهية، كما يبحث عن الحب في ظروف شبه مستحيلة، كيف كان ماضيه وكيف أصبح حاضره، أين حقق النجاح وأين فشل، وما السبب في فشله، ولماذا كان مستهدفا من قبل جماعة الزرقاوي الإرهابية التي كانت وراء التفجير، وما الذي حدث له بعد التفجير، أي قبل أن تنتهي حياته، وهل كان هناك تقصير متعمد في إنقاذه من تحت الأنقاض، وبالتالي بقاؤه لساعات ينزف داخليا الى أن فارق الحياة؟

سيرجيو مع ولديه.. في الماضي

مخرج الفيلم كريغ باركر صاحب تجربة طويلة في العمل التسجيلي، فقد أخرج عددا كبيرا من الأفلام والمسلسلات التليفزيونية التسجيلية (معظمها يتناول مواضيع سياسية)، و”سيرجيو” هو أول أفلامه الروائية. ورغم الدقة شبه “التسجيلية” في تصميم المشاهد عموما، والإيقاع السريع اللهث، والانتقالات السريعة بين الأماكن والمواقف، مع تحديد التواريخ والأسماء على الشاشة، لا يفتقد الفيلم الرونق والجمال خاصة في مشاهده الرومانسية التي تجمع بين “سيرجيو” البرازيلي، وحبيبته “كارولينا” الأرجنتينية، وخاصة تلك المشاهد البديعة التي يفترض أنها تدور في تيمور الشرقية والمصورة في الواقع في تايلاند. ولولا ذلك التناغم الرائع في الأداء، بين الممثل البرازيلي فاغنر مورا في دور سيرجيو، والممثلة الكوبية “أنا دا أرمس” في دور كارولينا، لما صمد الفيلم كثيرا بزمنه الذي يقارب الساعتين.

“سيرجيو”، الباحث عن العدالة في العراق، كان يتطلع إلى اجراء انتخابات تجعل العراق دولة ديمقراطية لكي تبدأ في إعادة البناء بعد ما لحق من دمار. ولذلك يبدأ سيرجيو (في الفيلم) بالحصول على تعهدات من الزعيم الشيعي آية الله السيستاني، أحد الأقطاب الرئيسية في العملية السياسية بعد الغزو الأميركي للعراق. ويرصد الفيلم من بدايته، الصراع المكتوم بين الحاكم الأميركي بول بريمر، والموفد الأممي سيرجيو دو ميلو، فالأول الذي يمتلك أجندة خاصة “أميركية” لإدارة الأمور في العراق، لا يريد إجراء الانتخابات إلا بعد ضمان أن تأتي بمن تريدهم الإدارة الأميركية، كما يتعامل بنوع من الغلظة مع سيرجيو ويريد تطويعه لخدمة الخطط الأميركية، والثاني يرى أن دوره مستقل تماما ويجب أن يبقى كذلك عن دور “المحتل”، حتى يمكنه كسب ثقة الأطراف المختلفة في العراق.

لا أتفق مع من يرون أن الهدف من الفيلم هو سرد سيرة حياة سيرجيو دو ميلو التي قضى منها أكثر من 34 عاما في العمل لحساب الأمم المتحدة. صحيح أن هناك الكثير من المشاهد التي تعيدنا الى ماضي تلك الشخصية وتسلط الأضواء عليها من زوايا مختلفة، ولكن الهدف كان سبر أغوار تلك الشخصية ذات الدوافع المثالية التي تجعل “دو ميلو” يتشبث أولا باستقلاليته معارضا بقوة السلوك الأميركي في العراق، والمضي قدما في مهمته في ذلك البلد حتى لو أغضب ذلك الإدارة الأميركية، وثانيا تسليط الأضواء على مشاعره الرومانسية الجامحة التي تجعله يرتبط ذلك الارتباط الذهني والروحي والعاطفي بكل قوة، مع “كارولينا” منذ أن التقى بها في تيمور الشرقية حينما كان يتطلع الى إقرار السلام وتحقيق استقلال الإقليم عن اندونيسيا، وكانت هي تقوم بدور “اقتصادي” باعتبارها خبيرة اقتصادية في المنظمة الدولية، لدعم المشاريع الصغيرة ومبادرات الأسر الفقيرة في الإقليم، كما قامت فيما بعد بتأسيس نقاط تفتيش جمركية بين تيمور الشرقية واندونيسيا.

الطابع الرومانسي يطغى على الفيلم

هناك ربط جيد بين دور سيرجيو في الانتفاضة الطلابية في باريس 1968 حينما كان طالبا في السوربون، أي إشارة إلى ميوله اليسارية ورفضه للمؤسسة وتمرده عليها منذ شبابه المبكر، ونجاحه في إقناع زعيم الخمير الحمر في السبعينات، بتحقيق السلام والسماح للاجئين بالعودة عندما يكشف الفيلم أن الرجلين كانا زميلين في السوربون، وسيستخدم سيرجو تلك العلاقة القديمة لكسب ثقة الرجل. كما ستساعده كارولينا بعد ذلك في التعرف على الظروف القاسية التي يعيشها سكان تيمور الشرقية، ورغبتهم في أن “ينظر إليهم العالم”.

لا شك في وجود الكثير من المعلومات وبعض الثرثرة البصرية والانتقالات المفاجئة الكثيرة دون ضرورة بين الأماكن والأزمنة، والمشاهد السريعة التي تريد تغطية كل شيء دون أن تنجح بالطبع، ولكن المخرج نجح في إبراز العلاقة العاطفية بين سيرجيو وكارولينا وكيف أنها دفعته الى تحقيق الكثير، وثانيا نجح أيضا في ردنا طوال الوقت إلى الموضوع الأساسي. فالفيلم يرتد باستمرار الى حيث انتهى سيرجيو تحت الأنقاض عاجزا عن الحركة بعد أن انحصر النصف الأسفل من جسده تحت ركام كبير من الحطام الذي لا يمكن نزعه سوى باستخدام آلات ثقيلة لا يمتلكها سوى الأمريكيون. لكن الأميركيين يتركونه، في حين يتم انقاذ مساعده “غيل” وشخص آخر من فريقه يضطر الطبيب الى بتر ساقيه في الموقع لتخليصه. فهل تُرك سيرجيو عمدا لكي يظل ينزف حتى الموت؟

هذا أيضا فيلم عن الأزمة الوجودية التي تعترض حياة رجل خاض الكثير من المعارك الدبلوماسية في حياته، وشاهد الكثير، واغترب طويلا عن وطنه حتى أنه فقد القدرة على التعرف على ما أصبح عليه ولداه اللذين لم ينجح في إقامة علاقة حقيقية معهما، وقد كبرا الآن بعيدا عنه. والفيلم يعبر عن ذلك الشعور بالغربة والألم، والرغبة في العودة إلى الوطن وإلى تلك الأماكن التي ألفها في شبابه وبقيت في ذاكرته. لكنه يريد أن تكون معه حبيبته “كارولينا”.

سيرجيو يستمع الى سيدة فقيرة في تيمور الشرقية

جرى تصوير الفيلم بين ريودي جانيرو، وعمان كبديل لبغداد، وتايلاند كبديل لكمبوديا وتيمور الشرقية. ويستخدم المخرج الكثير من مواد الأرشيف، يمزجها أحيانا بالشخصيات الحقيقية كما في حالة بول بريمر، ومقاطع من نشرات الأخبار الدولية حول انفجار مقر بعثة الأمم المتحدة في بغداد، وظهور الرئيس بوش أكثر من مرة على شاشة التليفزيون، ومداولات الأمم المتحدة، ثم ظهور كوفي عنان الأمين العام للأمم لمتحدة في النهاية وهو ينعى سيرجيو بعد مصرعه.

إن التعامل مع الفيلم كعمل من أعمال السيرة الشخصية، سيدفع الكثيرين الى التساؤل عن باقي المهام الكبرى التي قام بها سيرجيو في قبرص والسودان وموزمبيق وبنغلاديش وغيرها، وسيجعل البعض يتساءل أيضا عن مدى التزام الفيلم بالدقة التاريخية عندما يذكر على سبيل المثال، أن سيرجيو دفن في موطنه أي في ريودي جانيرو، في حين أنه دفن، في الحقيقة، في جنيف بسويسرا.  ولكن الدراما في النهاية هي الدراما، أي ليس من الممكن أن يأتي العمل الدرامي نسخة طبق الأصل من الحقيقة. فالمهم هو التأثير الذي يتركه العمل على المشاهدين: والواضح أن المخرج كريغ باركر رأى أن التأثير سيكون أقوى لو جعل سيرجيو يدفن في بلده، لكي يصبح طبيعيا أن تصر كارولينا على الذهاب لكي تقضي بقية حياتها هناك. والعبرة في النهاية بلقدرة على الإقناع.

فيديو

Visited 101 times, 1 visit(s) today