“ميِّت في ليلة”: أشهر أفلام الرُعب
كلُّ شيء قد بدأ عندما دخل المهندس المعماريّ “والتر كريج” مزرعة “إليوت فولي” الواسعة، وأخذ ينظر في عجب إلى البيت المبني على أرضها، وحينما اقترب من البيت خرج له فولي فاندهش كريج فور رؤيته. اقتاده فولي إلى البيت داخلاً، وفي وهلة للعين انتقل شعور الاندهاش إلى فولي حينما رأى السيد كريج الذي لمْ يأتِ أبدًا إلى هنا يعرف مكان وضع السُّتَر بجوار البيت. ثمَّ تذكَّر أنَّه مهندس معمار فمن الممكن أن يكون قد عرفه من التصميم. إلى هنا لمْ يكنْ أيُّ عجب يستولي على المشهد؛ فالعجب كلَّ العجب سيحدث شيئًا فشيئًا ومشهدًا بعد مشهد في هذا الفيلم الإنجليزيّ بارع الصناعة، والذي لن تصدق أنَّه بهذه البراعة، ولن تصدق انفعالك معه رغم مرور خمسة وسبعين عامًا على إصداره.
في عام 1945 عرض فيلم في بريطانيا تحت اسم Dead Of Night اعتمد على قصَّتَيْن، وعلى تأليف أكثر من مؤلف، وعلى إخراج أربعة من المخرجين، وعلى تمثيل عدد كبير من الممثلين والمؤديين. اجتمع كلّ هؤلاء ليصنعوا فيلمًا سيجذب إعجابك رغمًا عنك، ورغمًا عن مدة زمنية طائلة؛ لأنَّه فنّ إبداعيّ أصيل وكل فنّ من هذا النوع يبقى.. الفيلم من تصنيف غموض، إثارة، تشويق، رعب. هذا التصنيف تصنيف اليوم؛ لأنَّه قد قدِّم قبل خمسة وسبعين عامًا تحت تصنيف الرعب أولاً.
“كريج” المهندس المعماريّ يستدعيه “فولي” إلى مزرعته لقضاء إجازته الأسبوعيَّة في مهمة عمل ما.. لا يعرف أحدٌ أحدًا من أبطالنا، لكنْ ما أن وضع كريج سُترته وقاده فولي إلى صالة الاستقبال في البيت حتى بدأ الذهول يستولي عليه كليَّةً. لقد رأى مجموعة من الأشخاص كانوا مجتمعين في هذا البيت في إجازتهم كما يجتمع أيّ أفراد للقاء وديّ في إجازة. لكنْ ما كان أحد يتوقع هذا الزائر الذي سيغير كلَّ ما قد دبَّروا له! .. تعجب كريج من رؤية كل واحد منهم الشابة والشاب والعجوز والمرأة ورجل متوسط العُمر قُدِّم له على أنَّه دكتور. وبعد شوط من الذهول المسيطر فسَّره الجالسون على أنَّه إرهاق الطريق نرى كريج يتوجه إلى الدكتور يقول له أنت طبيب نفسيّ أليس كذلك؟ فكيف عرف هذا؟!
سلوك خارق
بدا الاهتمام من الحاضرين لهذا الزائر الغريب؛ حينما بدأ هو يقول إنَّه قد رأى الطبيب من قبل، فقال الطبيب: ربَّما رأتَني في الصُّحُف. لكنَّ كريج قال: ورأيتكم جميعًا من قبل. وبدأ يسرد لهم أنَّهم الجالسين جميعًا أبطال دائمون في حُلم يحلم به، وأنَّه على يقين أنَّه رآهم من قبل. يبدأ التفسير من السامعين؛ ما بين الطبيب الذي يحاول أن يفسِّر كل شيء بطريق العقل والتفسير العلميّ، وما بين الأفراد الذين يُؤولون الأمر على أنَّه نوع من التنبؤ بالمستقبل، أو أنَّه نوع من السلوك الخارق للطبيعة الذي يحدث للإنسان في بعض الأحيان. وكريج يصرُّ على مُفاجأة الجميع بأنَّه يعرفهم، بل أنَّه عاش هذا الموقف من قبل، حتى أنَّه أخبرهم بما سيقع في هذه الليلة العجيبة التي لا يدري أحد إلى أين ستذهب بهم. لكنَّهم جميعًا لم يلحظوا اقتيادهم لموضوع كريج وحده، وعدم اهتمامهم بغرض زيارته أصلاً، ثمَّ يبدأ الغموض يستولي استيلاء تامًّا على الجو العامّ في بيت أبطالنا.
وفي محاولات ومحاورات وسجالات فجَّرها الزائر كريج يبدأ كلُّ فرد من هؤلاء يحكي عن قصة غريبة كلَّ الغرابة حدثت له. يتحدث الشاب عن سباق سيارات قد خاضه وكيف نبَّأه حلم غريب بحادث كاد أن يودي بحياته، وتتحدث فتاة عن حادثة غريبة قد حدثت لها في بيت أحد الأصدقاء، وتؤكد امرأة الأمر بغموض كاد يودي بحياتها بسبب مِرآة غامضة كانت قد اشترتها من محل آثار، ويُلاطف الجميع فولي بقصة عن شبحين، ثم ينهي الطبيب نفسه بأغرب قصة تعرض لها في حياته الطبيَّة عن مُهرِّج ودميته وما حدث لهما. وفي ثنايا هذه القصص تحدث أحداث أخبرهم عن وقوعها كريج فيزداد عجبهم ويبدأ الخوف يتسرَّب للجميع، ثم تحدث أمور يظنون أنَّها تستبعد ما ادعى كريج في أول الليلة حدوثه. وما بين إيمانهم بما سيحدث، وبين محاولة تجنُّب أيّ مصير سيء يقضي أبطالنا ليلتهم الرهيبة التي لا يدري عن نهايتها أحد.
فيلم الإطار
تأليف الفيلم يعتمد على ما يُسمى بـ “فيلم الإطار”، مُجاراةً لما يُسمَّى في الأدب القصصيّ بـ “قصَّة الإطار”. وهي إحدى تقنيات القصّ فيها يدور حدث كبير (هو هنا اجتماعهم في البيت وما أثاره كريج في نفوسهم) هذا الحدث يُمثِّل للرواية أو القصة الكبيرة إطارًا به تُروى العديد من القصص القصيرة والجزئيَّة. وأشهر كتاب قصصيّ في التاريخ استخدم هذه التقنية هو “ألف ليلة وليلة” الذي يعرفه الغرب تحت اسم “الليالي العربيَّة”، وكذلك أشهر كتب الغرب في هذه التقنية هي رواية “الديكاميرون” للإيطاليّ جوفاني بوكاتشو.
ورغم أنَّ تأليف الفيلم قد قام به كثيرون إلا أنَّه بالعموم يمتاز بالكثير من الجودة ودقة الصناعة. ولعلَّ أهمَّ ملامحه هي القدرة على جذب الانتباه إلى أقصى حد، وإلى آخر لقطة من الفيلم وهو أمر بالغ الصعوبة في التأليف. وسنجد في تأليف الفيلم روح الكوميديا بالرغم من كونه فيلم غموض ورعب. وأيضًا ستجد أنَّ كثيرًا من أفلام الرعب بعده قد تأثَّرتْ به.
الفيلم يقوم على استخدام التفسير العلميّ لظاهرة اسمها “ديجافو” أو وَهم سَبق الرُّؤية. وتعني شعور الشخص بأنَّه رأى الأمر من قبل، أو سمع القول، أو عاش المشهد الذي يقع الآن له في الماضي. ويأتي هذا الشعور في صورة لمحة كالبرق، لكنَّه يترك الإنسان في شعور من الذهول والدهشة. ولا شكَّ أنَّها من أعجب الظواهر التي تحدث للإنسان، ومما يحيِّر العقل البشريّ إذا حاول أن يفسرها تفسيرًا معقولاً. بل إنَّ الدهشة الأعظم تكون في المرة الأولى التي تقع للإنسان هذه الظاهرة؛ حيث يستولي عليه شعور الدهشة إلى درجة تلجمه، فكيف قد قابل هذا الشخص وهو لمْ يعرفه أبدًا ولم يسمع عنه؟! وكيف أتى هذا المكان من قبل وهو لمْ يترك بلدته طوال حياته؟!
هذه الظاهرة لغرابتها يجتهد الكثيرون لتفسيرها. وبالعموم هناك نوعان من التفسيرات تفسيرات تتسم بالعلميَّة مثل الادعاء بأنه اضطراب في الذاكرة أو العقل، أو وجود تأثيرات لحوادث أو أناس مشابهين لمَن نراهم أثناء الحادثة مما يفسِّر شعور رؤيتهم من قبل. وهناك تفسيرات أبعد من الطريق العلميّ وأقرب إلى غيره؛ مثل الادعاء العلميّ -الذي يظنُّ الكثير أنَّه نظريَّة علميَّة مؤكدة- الذي يُسمَّى بـ”نظريَّة الأكوان المُوازية” والتي تفترض وجود أكوان أخرى مماثلة تمامًا لكوننا تقع في إحداها الحادثة، ثم تقع في كوننا فتُحدث هذا الاضطراب للشخص، وهناك تفسير لها في الديانة الهندوسيَّة والديانات التي تؤمن بفكرة تُدعى “تناسخ الأرواح” حيث تعتقد أنَّ الروح تتمثل في جسد آخر بعد الوفاة غير الذي كانت فيه، وتفسِّر الظاهرة بأنَّها قد حدثت للإنسان الذي كان يمتلك هذه الروح من قبل، وغيرها من التفسيرات الكثيرة.
ولمْ تُذكر الظاهرة باسمها في الفيلم ولكنْ ذُكِر وصف لها بالنصّ؛ خاصةً ورودها على هيئة لمحة من البرق في عقل صاحبها. هذا الفيلم استغلَّ التنوع من تفسير هذه الظاهرة التي يمرُّ بها البشر في حياتهم لتكون نواة الدراما في هذا الفيلم. وهذا قبل كل شيء يقول إنَّنا أمام فيلم جيد لمْ يرضَ بأنْ يكون مجرد فيلم تافه يبتزّ انفعالاتك. والفيلم على ذلك يعتمد على قضية التفسير العلميّ لبعض الظواهر، وفي الإطار العامّ يُشير إلى قضية أعظم وهي اختلاف التفسيرات البشريَّة أمام أيَّة ظاهرة تحدث للإنسان.
تفسيرات مختلفة
نعود إلى ظاهرة “ديجافو” والتي لها الكثير من التفسيرات المختلفة العلميَّة والفلسفيَّة والشعبيَّة. ونرى الفيلم قد اعتمد على المواجهة الصريحة بين وجهة النظر العلميَّة التي لا تقبل إلا بتفسير يتعلَّق بما يعرفه العلم لا ما يجهله، أو على الأقلّ توجيه عقليّ للأحداث يتبع المنطق المعروف، هذه الوجهة يمثِّلها الطبيب النفسيّ. وبين وجهة النظر الشعبيَّة والتي من الممكن أن تقبل التوجيه العلميّ للحوادث ومن الممكن أن ترفضه عندما تراه لا يشبع نهمها في تفسير ما يحدث أمام ناظريها، وقد تفسِّر هذه الحوادث بفعل القوة أيْ أنَّها تقع وحسب لأنَّها تقع دون نسبتها إلى أيّ فاعل، وقد تنسبها إلى قوّة عُليا مسيطرة توجِّه الأفعال الإنسانيَّة كيفما تريد. لكنَّها بالعموم يروق لها هذا الجو من الغموض الذي يكتنف هذه الظاهرة وأمثالها مما يُحيِّر العقل الإنسانيّ.
صدر الفيلم عام 1945 أيْ عقب انتهاء الحرب العالميَّة الثانية، وفي هذه السنوات وقبلها بعقود كانت الفلسفة الحديثة قد بدأت تهتمّ بالظواهر التي كانت تنكرها فيما مضى؛ وهي كل الظواهر المتعلق بالميتافيزيقا -أيْ ما وراء الطبيعة والعالَم الظاهر لنا الذي نستطيع أنْ ندركه بحواسِّنا-. بل إنّ مذاهب فلسفيَّة بُنيت على أساس مما فوق الشعور والحدس وغيرها مثل جهود فيلسوف يُدعى “برجسون”. وعلى صعيد آخر اهتمَّتْ الجهود العلميَّة التي كانت تنكر هذه الحوادث بإيجاد حلول علميَّة لها؛ لكنَّها كانت حلولاً قاصرة عن إيجاد تفسير كُليّ مُقنع. فمثلاً نرى الطبيب يفسر الحوادث المقصوصة في الفيلم بأنَّها نوع من الاضطراب العقليّ والنفسيّ إثر التعرُّض لحادث مؤثر يستدعي استجابةً، أو أنَّها فصام في الشخصيَّة، أو أنَّها حوادث يستدعيها توارد الخواطر بين الأشخاص.
وبالعموم بعد هذه السنوات -الأربعينيات- سيهتمّ النشاط العلميّ كثيرًا بظواهر العقل وأنشطته، ومسألة توارد الأفكار وانتقالها عن بُعد، خاصةً بعد الاهتمام الضخم الذي أولاه “الاتحاد السوفيتيّ” لهذه المسائل في ظلّ تنافس شرس بينه وبين خصمه “الولايات المُتحدة الأمريكيَّة” في فترة عُرفت بـ “الحرب الباردة”. ولهذه الظاهرة ولعدد آخر من الظواهر الكثير من التوجيهات والتفسيرات التي تحاول نسبتها للمنطق المعروف لدى البشر، لكنَّ درجة إقناعها تختلف كثيرًا لدى العائشين لهذه المحاولات. وليس هنا محلاً لإكمال الموضوع لكنَّه إنْ أشار إلى شيء سيشير إلى قصور الإنسان عن إدراك ما حوله كلَّه حتى إنْ أدرك بعضًا منه.
وستندهش من جودة التصوير في الفيلم وجودة الإخراج، ورغم أنَّ أربعة مخرجين قاموا بصناعة الفيلم كلّه إلا أنَّه في الإطار العامّ جيد جدًّا. وبالقطع هناك أشياء بسيطة قد وقعت في المونتاج مثلاً، وعيوب صوتيَّة طفيفة جدًّا. هذه الجودة لن تكتمل دون الجانب التمثيليّ الذي امتاز بجودة التأثير، بل الممثلون هم العامل الأول في التأثير في هذا الفيلم الذي سيعدك بقضاء وقت ممتع مع قصص مثيرة، وفكرة قويَّة، ومفاجأة في النهاية.