أفلام الرعب.. حيث تتجسّد المخاوف (1 من 3)

Print Friendly, PDF & Email

يشعر الإنسان بالرعب عندما يعيش في عالم لاعقلاني، مضطرب، عنيف، لا يوفر الأمان. عندما يجد نفسه محاصراً داخل دائرة من الحروب والتناحرات والصراعات بمختلف أشكالها، والتي هي من صنع الإنسان نفسه، أو وسط سلسلة من الكوارث والأوبئة والأمراض التي لا يستطيع أن يتنبأ بها، والتي تهاجمه بغتة من دون أن يتوقعها أو يتمكن من صدّها ومقاومتها.

الإنسان يشعر بأنه مهدّد باستمرار، إن لم يكن من محيطه ومجتمعه فمن ذاته التي لا تمتلك حصانة كافية، وقد تدفعها الضغوطات والكوابح إلى اليأس والشلل أو الجنون. وكإجراء دفاعي أخير يُظهر ردود فعل تدميرية ضد الآخرين وضد ذاته معاً.

هو باستمرار يحس بالخوف والارتياب، يعاني من فقدان الأمان، ينظر إلى المستقبل كشيء أو كمفهوم مبهم وغائم لأنه لا يعرف ماذا سيحدث في اللحظة التالية. وتأتي الحروب والمجاعات والكوارث لتعزّز المخاوف الفردية والجماعية.

الخوف غريزة قوية وفعالة. إنه متأصل في الإنسان وتمتد جذوره إلى الطفولة حيث تُختبر، للمرة الأولى، مشاعر الإثم والارتياب عبر سلسلة لا تنتهي من المحرّمات والمحظورات والكوابح، وما يرافقها من تخويف وتهديد بالعقاب في أشكال مادية وميتافيزيقية تتّخذ من الخرافة مرجعاً.

من هنا تنشأ العلاقة – المتسمة بالحذر والرهبة والشك – بين الطفل وواقعه، خصوصاً في مظاهر الرعب الموجودة في محيطه أو تلك الموجودة خارج نطاق إدراكه كقوى خفية تراقبه وتتربّص به من دون أن يراها، منتظرة الانقضاض عليه ما إن يرتكب إثماً أو فعلاً غير مقبول.

لأن المخاوف بحاجة إلى متنفس ومنافذ كي يتمكن المرء من اختبارها ومواجهتها، أو تهدئتها أو قهرها، فإن الوسائط التي تلبي هذه الحاجة نجدها في الحكاية الخرافية والميثولوجيا والقصص المرعبة وأفلام الرعب.

إن ولع الطفل بالحكايات الخرافية نابع أساساً من توفيرها لهذه الحاجة، فهي في جوهرها حكايات مرعبة لكنها مموّهة عن طريق الدعابة وأجواء المغامرات والتخيلات الطفولية والمغزى الأخلاقي، إذ نجد فيها كل مظاهر وعناصر الرعب: السحر، الأشباح، الغيلان، الوحوش، الانمساخ والتحوّل، القوى الخارقة والخفيّة. حكايات ألف ليلة وليلة أيضاً حافلة بالرعب.

المجهول هو المصدر الأساسي للخوف. المجهول الكامن في المحيط، المتنكر في أكثر من هيئة، أو ذاك المتجذّر في اللاوعي الجماعي من خلال القصص الدينية والأساطير والخرافة والفولكلور، أو المجهول الكامن في أعماق الذات متمثلاً في الطاقات اللاشعورية التي غذّتها شتى أشكال الكبت والكبح، والتي تنتظر الفرصة للانفجار والتعبير عن نفسها بأكثر الطرق عنفاً وتدميرية.

إن قصص وأفلام الرعب تستغل هذا الخوف من المجهول، وتظهره بأشكال مختلفة ومظاهر متعددة.

هناك العديد من المخاوف التي ترجع أصولها إلى أزمنة غابرة ولا تزال متأصلة في الفرد المعاصر. ثمة فزع من كائنات وكوارث وظواهر: الثعابين، العناكب، الأماكن المرتفعة، العواصف، الرعد والبرق، الظلام، الدم، الغرباء، الانفصال، السجن، الخروج من نطاق البيت. أيضاً هناك خوف الإنسان من أشباهه البشر، ومن العالم الذي يسكنه ويتحرك فيه. إن أغلب أفلام الرعب تطرح هذه المعضلة: ما الذي ينبغي عمله كي يبقى الإنسان إنساناً، وكي يحافظ على إنسانيته؟

المسوخ والحيوانات المتوحشة والمجانين القتلة ومصاصو الدماء ومخلوقات الفضاء، وغير ذلك من الكائنات التي تقطن عوالم القصص والأفلام المرعبة، ما هي إلا انعكاسات لمخاوفنا وتناقضاتنا وصراعاتنا. المسخ، أو أي مخلوق آخر عدائي ومهدّد، قد يمثّل – عبر التحليل السيكولوجي – الطاقة الغريزية في اللاوعي، أو الذات الأخرى المقموعة من قبل أعراف المجتمع ومؤسساته، هذه الذات التي تحاول الانعتاق من أسر هذه الأعراف والقيم والتعاليم، وفي الوقت ذاته تسعى إلى تدميرها.

من جهة أخرى، يجسّد المسخ – أو غيره – ذلك الخوف غير المبرّر أو اللاعقلاني المتواري في الأعماق، والذي ينعكس في صورة غريبة، بشعة، وغير سويّة.

في أحد جوانبها، وكتأويل محتمل، يمكن النظر إلى أفلام الرعب كتمثيل طقسي للرغبات المكبوتة.

أفلام الرعب تماثل الكوابيس في أجوائها وصورها، لكنها تختلف في البناء الذي – في الفيلم – يتّبع نظاماً عقلانياً خاضعاً للتحكم والتنظيم والتنسيق. إننا نجد الخاصيات ذاتها (في الرعب السينمائي وفي الكابوس) حيث انعدام الحصانة، قابلية الوقوع في الشَرَك، الشعور بالفزع، العجز التام إزاء قوى غير مفهومة لكن عدوانية وباطشة.

سينما الرعب، بالأحرى، تجسّد الكوابيس الجماعية، وتعيد إلى الوعي ما كان مكبوحاً. إن أساس اهتمام وافتتان الجمهور بأفلام الرعب – كما يقول الناقد والباحث روبن وود – أنها تحقّق الرغبة الكابوسية في تحطيم المعايير التي تقمعنا.

الحالة السويّة (بمعنى الامتثال إلى المعايير الاجتماعية السائدة) تتمثّل في العائلة، المؤسسات الاجتماعية والدينية، النظام برموزه وأجهزته. هذه الجهات تتعرّض دوماً للتهديد ومحاولات الانتهاك والاختراق من قِبل الآخر، غير السويّ، الذي يتمثّل في كل ما هو فوضوي وعدواني وغير ممتثل، والذي يتجسّد في أشكال وهيئات مختلفة: كالمسوخ، مصاصي الدماء، الحيوانات والطيور والكائنات المائية، الممسوسين، المتحوّلين، المجانين.. الخ.

بالنتيجة، هناك دائماً ذلك الصراع بين السويّ والآخر، الخير والشر، النظام والفوضى، الطهارة والدنس، الاكتفاء والشبق، الوعي واللاوعي، الضوء والظلام، الحياة والموت.

الهجوم على الحالة السويّة، برموزها ومظاهرها ومعطياتها، تضفي على سينما الرعب خاصية تدميرية استثنائية، وبعداً ثورياً قلما نجده في أنواع أخرى من الأفلام. وعند إخضاع هذه الأفلام – كمادة وشخصيات وعلاقات – للتحليل النفسي، سنصادف ثيمات ذات دلالة سيكولوجية تتصل بالتابو الجنسي والديني.

إن سينما الرعب تخترق الحدود وتهدمها، تصل الواقع والخرافة، الحقيقة والوهم، الممكن والمستحيل، المرئي واللامرئي، الحياة والموت، الحاضر والتاريخ.. هنا لا تخوم ولا حواجز.

الافتتان والنفور معاً

يرتاد الجمهور أفلام الرعب من أجل اختبار مشاعر الخوف والإثارة والصدمة. الأفلام، كما أشرنا، هي مثل الحكايات الخرافية، وسيلة تنفيس للخوف الكامن. عن طريق المشاهدة أيضاً يحصل المتفرج على قدر كبير من الإثارة المتصلة باللذّة، والتي تشبه لذّة الطفل الذي تتجاذبه مشاعر الإثارة والرعب فيما يصغي بشغف إلى حكاية خرافية.

أفلام الرعب ترغم الجمهور على التفاعل والمشاركة عاطفياً وجسمانياً، لكن إلى حد معيّن، معتمدةً على إثارة مخيلته. المتفرج هنا يدرك جيداً أن ما يراه مجسداً على الشاشة ليس شيئاً حقيقياً، ولا يمكن حدوثه في واقعه اليومي. بالتالي هو يعي جيداً أنه ليس عرضة لأي خطر، إذن لماذا ينتابه هذا الإحساس المتواصل بالفزع؟

الملاحظ أن أفلام الرعب تنتعش وتزدهر، وتلقى رواجاً شعبياً، في الفترات العصيبة التي تختنق بالأزمات والمواجهات الحادة، وتكون الكوارث بمختلف أشكالها محتملة ووشيكة الحدوث. للعمليات الارهابية التي حدثت في نيويورك ولندن ومدريد ومدن أخرى دور كبير في تفشي الذعر من جهة، وفي انتعاش سوق أفلام الرعب. الإرهاب، مثل الفيروس، يستهدف الجميع دونما استثناء، لا يفرّق ولا يميّز بين الضحايا. والهجمات تخلو من الرحمة، وبذلك تخلق حالة عارمة من الفوضى، ومن الإحساس العام بالشلل والعجز والقلق، ولا يجد الجمهور تعبيراً عن مخاوفهم وهواجسهم إلا في أفلام الرعب التي تعيد تمثيل الكابوس الحقيقي في حالات متخيلة. السينما هنا تصبح مرآة مجازية تعكس الأحداث السياسية والاجتماعية التي يشهدها الواقع.

يقول المخرج إيلاي روث: “تفجير البرجين في نيويورك بث الذعر في نفوس الشعب الأميركي. الأفلام أفرطت في تصوير الرعب والعنف، وازدادت جماهيرية. الرئيس الأميركي جورج بوش رفع من مستوى خوف الناس بتحذيراته الأسبوعية من خطر الإرهاب. السفر صار كابوساً. في المطارات صار المرء عرضة للتفتيش عارياً. يجعلونك تشعر بأنك إرهابي، وبأن الشخص الجالس بقربك إرهابي. تفشى الشك والارتياب. كل ذلك الرعب والقلق والتوجس يجعلك ترغب في الصراخ. تريد أن تتحرر مما يعتمل في داخلك من تلك المشاعر المخيفة. وليس هناك مكان تستطيع أن تمارس فيه الصراخ. لا تستطيع أن تصرخ في الشارع أو في مكان عملك أو وسط عائلتك. تحتاج إلى متنفس، إلى مكان تعبّر فيه عن الخوف والفزع. المكان الوحيد المتاح والمسموح لك فيه أن تصرخ وتنفّس وتتحرّر كيفما تشاء ووقتما تشاء: صالة السينما. هذا سبب رواج أفلام الرعب. أثناء المشاهدة تواجه مخاوفك وتحاول التخلص منها”.

لقطة من فيلم “سايكو” لهيتشكوك

إذا كان الجمهور يقبل على هذه الأفلام ويدعمها، فإن أغلب النقاد ينظرون إليها في استخفاف وازدراء وسخرية، أو يتجاهلونها ويرفضونها باعتبارها تافهة ومبتذلة ومقرفة. لقد جوبه فيلم مثل “طارد الأرواح الشريرة” بنقد عنيف، لكن الجمهور تهافت لمشاهدته وحقق إيرادات عالية. إن قلةً من النقاد تناولوا هذه السينما بالدراسة والتحليل من موقع الاحترام والتقدير، ووجدوا فيها مظاهر وعناصر وخاصيات جديرة بالتأمل، واكتشفوا صلات قوية بين الثيمات المطروحة في هذه الأفلام والقضايا المدروسة في علم النفس والاجتماع.

من بين الكم الهائل من أفلام الرعب التجارية، ذات الموضوعات المتكررة المضجرة، المصنوعة على عجل تلبيةً لمتطلبات السوق الاستهلاكية، والتي تفتقر إلى الأصالة والجدّة، ولا تحمل قيمة فنية أو فكرية، وسط كل هذا تبرز أفلام جادة تحمل دلالات ومعان سيكولوجية وفلسفية، قابلة للعديد من التأويلات الاجتماعية والسياسية.

أفلام مثل: سايكو (هيتشكوك)، نفور (بولانسكي)، الشياطين (كلوزو)، الأبرياء (جاك كلايتون)، اللمعان (ستانلي كوبريك).. هي أفلام راقية، مصقولة فنياً، ذات رؤية خاصة وأسلوب مبتكر وخاصية جمالية، تطرح موضوعات مركّبة تحتمل وجهات نظر متعددة ومتباينة. إنها غير موجهة لإخافة الجمهور أو إثارته لغايات مجرّدة، بل أنها تعالج قضايا مهمة ومقلقة بشأن الذات والآخر والمكبوت.

استجابة الجمهور لأفلام الرعب هي مزدوجة: إنه يشعر تجاهها بالرعب والافتتان في آن. الحس الأخلاقي والمعايير الاجتماعية تجعله يشعر بالفزع والنفور من بشاعة المسخ، مثلاً، وما يمارسه من شرور، في حين يتعاطف، بل ويتماهى، مع ذلك الجزء الكامن في الذات والذي ينظر إلى أفعال المسخ كانعكاس للرغبة الدفينة في تحطيم ما هو كابح وقمعي.

أذواق الجمهور تتغيّر مع تغيّر الزمن وتحوّل المجتمع. فما كان مثيراً ومرعباً في مرحلة معينة قد لا يعود كذلك في مرحلة تالية. ولأن السينما باستمرار تلبّي رغبة الجمهور وتراعي ذوقه ومتطلباته، فإنها تسعى دائماً إلى ابتكار ما هو جديد ومختلف وصادم.

في أفلام الرعب، التفسيرات لما هو خارق وعجائبي من الأحداث والكائنات تقدّم في حدود ضيقة لا تشبع الفضول بل تضاعف الغموض، وتخضع المادة لتأويلات متباينة. الأفراد يتوارون خلف الأقنعة، الأشياء لا تبدو على حقيقتها، المظاهر تبدو خادعة ومضللة.

تحت السطح الخارجي الهادئ ثمة مظهر آخر، سرّي وخفي ومهدّد. لا أحد قادر أن يتحكم في مصيره وفي ما يحدث.. لا الآخر العدواني ولا الضحايا. والجنس البشري يمضي بلا حوْل، وعلى نحو متعذر اجتنابه، صوب التشوّش والفوضى الشاملة.

بدايات الرعب

كانت السينما في مهدها حين عرض الأخوان لوميير، في فرنسا العام 1896، صوراً متحركة لوصول القطار إلى المحطة. قيل أن المتفرجين الذين كانوا يشاهدون القطار على الشاشة وهو يتجه نحوهم مباشرة، صاحوا في ذعر معتقدين أن القطار سوف يخرج من الشاشة ويصطدم بهم، حتى أن بعضهم هرب من الصالة، وأصيب عدد منهم بالإغماء.. حسبما تشير بعض المصادر.

من ردود الفعل هذه، أدرك السينمائيون مدى قوة الصورة وفعاليتها وتأثيرها، وقدرتها على إثارة الخوف والصدمة، يساعدها في ذلك الظلام المخيّم في الصالة والذي يساهم في تصعيد الخوف، إضافة إلى مخاطبة الصورة لمشاعر ولاوعي المتفرج على نحو مباشر وعميق. وقد حاول السينمائيون استغلال ذلك، إضافة إلى الامكانيات الأخرى، في التلاعب بالجمهور الباحث عن الإثارة وذلك بتقديم أفلام تحتوي على حكايات مخيفة.

كان الرائد الفرنسي جورج ميليه (1861 – 1938)، مكتشف الحيل البصرية، أول من عرض أفلاماً ذات طابع غرائبي مروّع، وقدّم أفلاماً مستمدّة من قصص جول فيرن و ويلز التي تنتمي إلى الفنتازيا والخيال العلمي. لكن ميليه كان يسعى إلى إثارة جمهوره أكثر من تخويفه، وكان يستكشف العناصر الفنتازية أكثر من العناصر المرعبة.

توالت أفلام الرعب الأولى، مع ترحيب الجمهور بها، وكانت تستمد مادتها من مصادر أدبية مثل: فاوست، دكتور جيكل ومستر هايد، فرانكنشتاين. هذه الروايات كانت تحوي كل العناصر التي وظفتها أفلام الرعب وكرّرتها في ما بعد، من حيث وجود موقع رهيب كالقصر المعزول، وأجواء مخيفة، وشخصية غير متوازنة تحمل الكثير من العنف والقسوة.

الحرب العالمية الأولى أحدثت صدمة عنيفة، وخلّفت وراءها دماراً هائلاً وعدداً لا يحصى من الضحايا. الرعب الذي سبّبته هذه الحرب كان أشدّ تأثيراً وأكثر نفاذاً من ذلك الذي صورته الأفلام في تلك الفترة. ولم يجد الرعب تعبيره الحقيقي سينمائياً إلا من خلال الاتجاه التعبيري الذي ظهر في ألمانيا بعد الحرب عبر أفلام تعد من كلاسيكيات السينما ومن روائع أفلام الرعب مثل: “مقصورة الدكتور كاليجاري” للمخرج روبرت فينه (1919) و”نوسفراتو” للمخرج فريدريش مورناو (1922).. هذه الأفلام التي صوّرت الجحيم الخاص والرعب الداخلي ليس من خلال المظهر الجسماني بل عبر: تحريفات الموقع والمنظور، التلاعب بعلاقة الضوء والظل، استخدام الإضاءة الاصطناعية، التركيز على الأجواء الكابوسية.. وهي أفلام لم تنجح جماهيرياً لأنها عرضت الخوف واليأس معاً.

من الإيحاء إلى التصريح

أفلام الرعب الأميركية في العشرينيات استفادت من الأسلوب التعبيري في الإضاءة والديكور لكن دون أن تتخلى عن التوجه التجاري. لذلك لم تحمل هذه الأعمال الصبغة الفلسفية والسيكولوجية، أو تحاول تطوير الإنجازات الفنية والجمالية التي توفرت في السينما التعبيرية، إنما راحت تقدّم الرعب في إطار ميلودرامي معتمدة على شخصيات غريبة أو مشوهة تسعى إلى الانتقام أو انتزاع الاعتراف بحقها في العيش بكرامة ضمن المجتمع السويّ. مثل هذه الشخصيات كانت تمتلك خاصيات إنسانية تثير تعاطف الجمهور معها. ومن نماذج تلك المرحلة: أحدب نوتردام (1923) المسخ (1925) لندن بعد منتصف الليل (1927) شبح الأوبرا (1927).

في الثلاثينيات والأربعينيات كان مصدر الرعب أجنبياً في الغالب. كانت الأحداث تدور في مناطق بعيدة كوسط أوروبا (دراكيولا، فرانكنشتاين) أو في جزر ومواقع مجهولة (جزيرة الأرواح الضالة، كينج كونج). الرعب كان غالباً ما يأتي من خارج أميركا التي تتعرّض لهجمات الوحوش مادياً، جسمانياً، لكنها تظل غير ملوّثة معنوياً

.

“برح الرعب”

في الخمسينيات، مصدر الرعب كان الفضاء الخارجي أو الحشرات العملاقة. في الستينيات، مع فيلم هتشكوكPsycho صار مصدر الرعب داخلياً، وتحديداً، ضمن العائلة الأميركية.

قديماً كانت أفلام الرعب تؤكد على الأجواء أكثر من منبّهات الصدمة. تعتمد على الإضاءة أكثر من المكياج، على المؤثرات الصوتية والموسيقى أكثر من التلاعبات البصرية. الظلام، الليل، القمر، الرياح التي تعوي، الأبواب ذات الصرير، الردهات والممرات المعتمة، الضحكات الشيطانية، الآخر الذي يشكّل تهديداً وخطورة بالغة، الضحية الغافلة الجاهلة بما يكمن تحت السطح الآمن والبريء ظاهرياً.. كل هذا كان من العناصر والمظاهر الأساسية في أفلام تلك المرحلة.

النهايات السعيدة كانت توكيداً على إمكانية استعادة الحالة السويّة رغم التهديدات الجادة والخطيرة، وكانت تعبيراً عن الرغبة في المحافظة على المبدأ الأخلاقي الأساسي: الخير ينتصر دائماً.

أفلام الرعب كانت تعتمد على الإيحاء أكثر من التصريح. عبر الإيحاء يمكن تحريك مخيلة المتفرج، أما التصريح فيعمل على تعطيل المخيلة التي لا حاجة إلى تحريكها طالما أن كل شيء معروض على نحو مباشر ومكشوف. ولا شك أن الإيحاء بالشر والرعب هو أشد تأثيراً وفعالية لأنه الأكثر إقلاقاً وإثارةً للتوتر.

منذ السبعينيات بدأت الأفلام تلجأ إلى التصريح، وإلى عرض كل شيء دونما تردّد. الكاميرا لم تعد تحجم عن تصوير كل ما يهز ويصدم من مشاهد تحتوي على عنف بالغ ولقطات عري متداخلة أو مقحمة في الحدث لدوافع تجارية. تحقيق الصدمة صار الغاية الأساسية. العنف غالباً ما يكون مجانياً. ابتكار مشاهد قتل بمختلف الأدوات. النهايات لم تعد سعيدة والشر ينتصر في صراع غير متكافئ. المسوخ القتلة لم تعد تثير التعاطف فهي مجرد آلة قتل تقتنص الضحايا بعشوائية وبسادية شنيعة. وأغلب هذه الأفلام تهدف إلى انتزاع استجابة غريزية عند المتفرج عوضاً عن التأثير العاطفي أو الفكري. إنها تتلاعب بالمتفرج عن طريق تهييجه وإثارته بالكليشيهات المعروفة من دون إعطاء أهمية إلى المحتوى والمعنى والخاصية.

تقنياً، صار الاعتماد الأساسي على المؤثرات الخاصة – البصرية والصوتية – والمكياج من أجل إحداث أكبر قدر من التأثير في تصوير الرعب والعنف، وإقناع المشاهدين بواقعية المشهد.. وذلك على حساب القصة والشخصية والجو العام. من خلال المؤثرات والمكياج أصبحت مشاهد القتل أكثر إثارة للفزع والاشمئزاز حيث تُعرض بسادية مفرطة.

ثمة إفراط في استخدام حركة الكاميرا من غير أن تكون لها وظيفة درامية. الكاميرا الذاتية المتحركة حول الشخص أو المقتربة من المنظور لا تقدّم معلومة سردية جديدة أو تفيد في إحداث التطابق مع وجهة نظر المتفرج، وإذا كانت أحياناً تعبّر عن وجهة نظر الوحش أو القاتل اللامرئي، فإنها أحياناً لا ترتبط بشخصية معينة ضمن المشهد ولا تعبّر عن وجهة نظر ما. إنها استعراضية، تلفت الانتباه إلى نفسها فقط. إنها تتلاعب بإحساس المتفرج وتوقعاته حيث يُعتقد بأنها تمثل حضور قوة لا مرئية وخارقة تراقب الشخصية لغرض شيطاني. إن غاية حركة الكاميرا هنا هي دفع المتفرج نحو حالة من الالتباس. في السابق، كانت الكاميرا ترغم المتفرج على تبني أو تقاسم وجهة نظر الضحية حيث القاتل أو الوحش يكون مرئياً، أما منذ السبعينيات فقد أصبح المتفرج مشاركاً في وجهة نظر القاتل حيث الضحية تكون هي المرئية.

آليات الرعب

في دراسة نويل كارول عن سينما الرعب (مجلة Film Quarterly، ربيع 1981) يتطرق إلى البنى الأساسية التي ترتكز عليها أفلام الرعب ومن ضمنها حبكة الاكتشاف والتي تتألف من أربع حركات أساسية:

الأولى: حضور الوحش يتأسس بواسطة الهجوم الذي يشنّه على أحد الضحايا.

الثانية: يتم اكتشاف وجود الوحش من قِبل فرد أو مجموعة، لكن لسبب أو لآخر لا تعترف القوى المتنفّذة في المجتمع (السلطات المحلية، المحافظون، أجهزة الحكومة، الجيش، المؤسسات، العلماء، العائلة) بوجود مثل هذا المخلوق المتوحش ولا تدرك طبيعة التهديد، وهي تعتبر الادعاء بهذا الوجود من قبيل الوهم أو التخيّل أو الكذب.

الحركة الثالثة: المحاولات اليائسة والفاشلة التي يقوم بها المكتشفون أو العارفون لإقناع الجماعات الأخرى بوجود الخطر المهلك وحجمه. الوقت يضيع والوحش يزداد قوةً وبطشاً. في هذا الجزء تدور المناقشات حول الوحش ويجرى الكلام عن عدوانيته وقوته الخارقة وطبائعه البغيضة. هنا يُستعاض عن حضوره المادي بحضور اللغة التي تثير مخيلة المتفرج ورعبه. وكلما كان خفياً ولا مرئياً ازدادت فعاليته وأصبح أكثر إرعاباً.

أما الحركة الرابعة ففيها تتم المواجهة بين البشر والوحش، والتي تنتهي بانتصار الإنسان غالباً، وهزيمته أحياناً.

سينما الرعب مأهولة بالمسوخ والأشباح والشياطين والأموات الأحياء ومصاصي الدماء والمتحولين إلى ذئاب أو فهود والبيوت المسكونة ومخلوقات الفضاء الغازية وكائنات ما قبل التاريخ والمومياوات والحشرات والزواحف العملاقة والمضطربين عقلياً والعلماء المجانين والسحر الأسود

.

من فيلم “طارد الأروح الشريرة”

في هذه الأفلام نرى الأشياء تتمرّد ضد الإنسان وتحاول تدميره (البيت، المصعد، السيارة.. الخ). الطبيعة بأشيائها ومخلوقاتها تثور وتشن حرباً لا هوادة فيها ضد البشر. الحيوانات الأليفة لا تعود صديقة للإنسان بل تنقلب ضده وتتحوّل إلى كائنات فتاكة. المخلوقات الشمعية تبعث حيّة وتنشر الذعر. الدمى تتحرك بروح شيطانية وتقتل في خبث. النباتات تصير مفترسة. الأعضاء البشرية المبتورة (كاليد) تتحرّك من تلقاء ذاتها لتنتقم.

أفلام الرعب لا تتوقف عند حد معيّن، إنها تقتحم الواقع والخيال معاً لتستمد منهما المادة الأولية التي منها تشكّل حكاياتها المخيفة والصادمة. 

الذات والآخر، السوي والشاذ

في يونيو 1816، كانت ماري شيلي في التاسعة عشرة من عمرها حين كتبت قصة قصيرة ابتكرت فيها شخصية العالِم فرانكنشتاين الذي يقوم بمحاولة لخلق إنسان كامل واستثنائي تكتمل فيه صفات الجمال والقوة والنبل.

في معمله الغريب، وبأشلاء بشرية كان قد سرقها من المقابر، يجري تجربته الفاشلة والمروّعة، التي تنتج مسخاً مشوّهاً ومرعباً: بشرة شمعية، وجه شاحب، رأس كبير ذو حجم شاذ، عينان ناعستان، جسم ضخم وثقيل، مشية متردّدة وغير ثابتة.. إنه أشبه بجثة متحركة أو طفل وُلد مشوّهاً. وبسبب مظهره الشنيع يرفضه خالقه. لقد خلق شيئاً من دون أن يكون لديه استعداد لفهمه، لهذا يتوجب عليه أن يتحمّل المسؤولية ويواجه العواقب المترتبة على ذلك.

ماري شيلي حوّلت القصة بعد عامين إلى رواية طويلة في ثلاثة أجزاء، حقّقت نجاحاً كبيراً وأعيدت طباعتها مرات عديدة، كما تم إعدادها مسرحياً أكثر من مرّة. أما أول إعداد سينمائي للرواية ففي العام 1910 على يد توماس أديسون.

البداية الحقيقية لسلسلة أفلام فرانكنشتاين كان في العام 1931 من إخراج جيمس ويل. ظهر المخلوق هنا عملاقاً، خارق القوة، لكنه محدود الذكاء، ناقص الإدراك، لا يستطيع التمييز بين الطفلة والزهرة، والنار تربكه وتعميه. إنه متناقض الصفات: عاجز وقوي، ودود وعنيف، منفر وجذاب. اختلافه في المظهر والقدرة العقلية يحول دون تحقيق رغبته في الانتماء إلى البشر والاعتراف به. هذا الرفض وسوء الفهم يفضي به إلى التمرّد والكشف عن طاقة الغضب والتدمير التي يمارسها بطريقة طفولية. إنه ينقلب ضد خالقه، ويتحرّر من سلطته، منطلقاً عبر الأرياف حتى يلقى مصرعه في طاحونة تحترق.

الفيلم أظهر المخلوق في حالات عاطفية وإنسانية تثير تعاطف الجمهور معه، فهو يعاني ويتألم ويفتقد من يحبهم ويتوق إلى الارتباط بالبشر. حتى جرائمه تبدو غير مقصودة، وليست نابعة من شعور بالكراهية.

إنه يختلف كلياً عن خالقه فرانكنشتاين الجامد الحس، المجرّد من العواطف الإنسانية. وبالرغم من أن هذا الخالق يستحق العقاب لانتهاكه الأخلاقيات واحتقاره للبشر وممارساته الوحشية وطموحه المدمّر، إلا أن مخلوقه البرئ يكون هو المستهدف للعقاب والتدمير.

في العام 1935 بُعث المخلوق من جديد في فيلم “عروس فرانكنشتاين” ثم في “ابن فرانكنشتاين” (1939).. بعد ذلك توالت السلسلة عبر أفلام متشابهة ومتكرّرة، لا تخرج عن التركيبة الأصلية في الحبكة والبناء، ولا تختلف إلا في التفاصيل والحبكات الجانبية، فضلاً عن فشلها فنياً وتجارياً.

في أواخر الخمسينيات، عادت السينما البريطانية إلى النص الأصلي ومنه أعدّت فيلم “لعنة فرانكنشتاين” (1957) الذي حقق نجاحاً تجارياً، ومهّد لسلسلة أخرى من الأفلام، وبمخلوقات مختلفة شكلاً، واستمرت حتى أوائل السبعينيات حيث لم يعد المسخ مخيفاً مقارنةً بالمخلوقات الجديدة التي ابتكرتها سينما الرعب. ولم يعد للمسخ حضوراً إلا في أفلام قليلة، متباعدة، تحمل طابعاً هزلياً أو رومانسياً.

الذي لا يموت                        

ظاهرة مصاصي الدماء لها جذور في الأساطير الشعبية والتاريخ، وقد تناولتها العديد من الروايات والقصائد والمسرحيات التي ظهرت في القرن الثامن عشر. كان الخوف من مصاصي الدماء شائعاً في العصور السابقة، ففي انجلترا شاع اعتقاد بأن من ينتحر يتحول إلى مصاص دماء، لذا كانوا يغرزون وتداً في قلب المنتحر لضمان عدم انبعاثه، لكن هذه العادة تم منعها في العام 1823.

ظهر اسم دراكيولا لأول مرّة في رواية الكاتب الأيرلندي برام ستوكر، التي نشرت في لندن العام 1897. وتشير المصادر إلى أن ستوكر استمد الشخصية من قائد أرستقراطي يدعى فلاد حكم إحدى مقاطعات رومانيا في القرن الخامس عشر واشتهر بقسوته ووحشيته إزاء خصومه، حيث حارب الغزاة الأتراك واستخدم الخوازيق في تعذيب وقتل آلاف الأسرى. وتتعدّد الأساطير حول هذه الشخصية فيقال أن الأتراك قطعوا رأسه،  وجثته دفنت قرب كنيسة، غير أن شائعات انتشرت عن خروجه من قبره واعتدائه على أهالي المنطقة بالاختطاف والقتل ومص الدماء.دراكيولا، إذن، هو مزيج من الحكاية الشعبية أو الفولكلور والتاريخ.

دراكيولا كلمة ذات معان متعددة، فهي تعني التنين أو الشيطان أو ابن الشيطان. إنه الكائن الذي لا يموت، الذي عاش لقرون طويلة معتمداً على شرب الدم البشري. إنه يخرج ليلاً من قبره، يتجول في الأنحاء، يختار ضحيته (غالباً من الإناث)، وبنظراته السحرية التي يصعب مقاومتها يغوي الضحية فتستسلم له في حالة شبيهة بالتنويم المغناطيسي، عندئذ يغرز أنيابه في عنقها ويمص دمها. هي تموت ثم تبعث لتكون تابعة له.. بالدم يحافظ على شبابه وقوته وهيمنته.

هو شخصية قوية جداً، سلطوية وعدوانية، تتسم بالدهاء والمكر والقدرة على التحول في هيئة حيوان (كالذئب) أو طائر (كالوطواط). لا يخرج إلا في الليل الدامس لذلك يلقب بأمير الظلام. لا ظل له، والمرآة لا تعكس صورته. خفيف الحركة، يظهر ويختفي فجأة. شهواني يعشق النساء، ومن أجل الإيقاع بالضحية يبدو بالغ اللطف والتهذيب، ويمارس إغواءه بأساليب لا تقاوَم. هو لا يطالب أتباعه وعشيقاته إلا بالولاء والطاعة. إنه يمثّل قوة الشر المطلق. أما نقاط ضعفه فتكمن في حساسيته من ضوء الشمس والصليب والثوم.

في التحليل السيكولوجي يمثّل دراكيولا الطاقة الجنسية المكبوتة التي يُنظر إليها كطاقة شاذة، منحرفة، مفرطة. كما يرتبط مص الدماء بالإغواء الجنسي. من جهة أخرى، يجسّد الرغبة البشرية في عودة الأحباء الموتى من الأهل والأصدقاء.

دراكيولا أصبح أسطورة سينمائية منذ ظهوره على الشاشة في العام 1920، حيث توالت سلسلة لا نهائية من الأفلام التي تتناول هذه الشخصية أو غيرها من مصاصي الدماء. ولا يزال دراكيولا حتى يومنا يرتاد الشاشة في مظاهره وصوره المختلفة: المتعطش للدماء، الرومانسي، المعذّب، الشهواني، الملعون، الوحيد، الهزلي.. تنويعات لا حصر لها تحافظ على المقومات الجوهرية وعلى الكليشيهات الأساسية.

في خضم الكم الهائل من الأفلام التجارية التي تستغل جاذبية هذه الشخصية لتحقيق الرواج، أنتجت السينما العالمية بضعة أفلام تعد من كلاسيكيات السينما لما تحمله من قيمة فنية عالية، وما تطرحه من رؤية عميقة، مثل فيلم “نوسفراتو” (1922) للألماني مورناو، وفيلم “مصاص الدماء” (1932) للدنمركي كارل دراير. كذلك قدم الألماني هيرزوغ رائعته البصرية “نوسفراتو” في العام 1979.

Visited 146 times, 1 visit(s) today