من كلاسيكيات السينما العربية: “شاطئ الأطفال الضائعين”

مخرج الفيلم الجيلالي فرحاتي مخرج الفيلم الجيلالي فرحاتي
Print Friendly, PDF & Email

كانت السينما المغربية مشغولة دائما بمناقشة قضايا ومشاكل الواقع مثل البطالة والهجرة والتناقضات السياسية والاجتماعية، والعلاقة المشحونة بين الرجل والمرأة. بعض هذه الأفلام يملك من الطموح الفني ما يجعله يروي موضوعه من خلال الأسلوب الواقعي المشوب بلمسة شاعرية، والبعض الآخر كان يجنح إلى الإفراط في تصوير الفلكلور والمناظر “الإكزوتية” المثيرة التي تروق عادة للمشاهدين في الغرب.

فتح فيلم “شاطئ الأطفال الضائعين” الذي عرض عام 1991، للمخرج الجيلالي فرحاتي، نافذة جديدة من الخيال السينمائي، فهو يبتعد عن القوالب النمطية وعن الواقعية الصارمة، ويقترب أكثر من سبر أغوار العلاقة بين الواقعي والروحاني. وقد ظل هذا الفيلم دائما، يعتبر من أكثر الأفلام المغربية نجاحا وتتويجا واهتماما من جانب النقاد والجمهور.

في هذا الفيلم يبتعد الجيلالي فرحاتي عن الواقعية الصارمة والأنماط الفلكلورية، بقدر ما يقترب من المعالجة التي تقرن الواقع بالقضايا الروحية التي ترتبط بحياتنا وعلاقاتنا داخل الأسرة والمجتمع الكبير.

يروي الفيلم قصة تدور في قرية تقع على شاطئ البحر المتوسط بشمال المغرب. بطلة الفيلم، أو الشخصية الرئيسية، هي “أمينة”، وهي فتاة نراها من طفولتها تهوى اللعب مع الأطفال في القرية حتى وقت متأخر، لا تأبه لنداءات زوجة أبيها التي تزوجها أبوها بعد وفاة أمها.

تكبر أمينة وتكبر معها رغبتها المبكرة في العناد والتمرد، ثم تقع في حب شاب من شباب القرية، نال قسطا من التعليم، لكنه مخادع، يعدها بالزواج بعد أن يقيم معها علاقة، ثم يحاول التنصل من وعوده بشتى الطرق. وعندما تدرك الفتاة أخيرا أنه يخطط للرحيل خارج البلاد، تنشب مشادة بينهما تنتهي بأن تمسك الفتاة بقطعة سميكة من الخشب وتضربه على رأسه فيسقط ميتاً على الفور، ثم تقوم مذعورة بدفنه داخل أحد أكوام الملح المتراكمة بالقرب من شاطئ البحر.

تكبر ثمرة الحب الحرام داخل بطن أمينة، ويزداد إحساسها المزدوج بالذنب، من الإثم الذي وقعت فيه بالحمل المحرم، والجريمة التي ارتكبتها. إنها تراقب الشاطئ كل يوم، تحاول أن تعرف ما إذا كان أحد قد اكتشف الجثة المدفونة. ولكن لن يطول إخفاء حملها، فجدتها العجوز تراقب ظهور علامات الحمل عليها، إلى أن تتيقن، ثم يعرف الأب بالأمر، ويشرع في استجوابها بشدة إلى أن تعترف باسم الشاب، وتروي له تفاصيل ما حدث، بما في ذلك جرية القتل التي ارتكبتها.

يهدأ غضب الأب، ويقوم بوضع أمينة داخل كوخ صغير فوق ربوة جبلية بالقرب من الشاطئ، يأتيها كل يوم بالطعام والشراب، يناجيها، وهو يشعر بالرثاء لها، لكنه في الوقت نفسه، يشعر بالغضب الشديد مما ارتكبته، فيأخذ في التضرع إلى الله، طالبا الغفران والسماح. ويتصور أهل القرية أن “أمينة” سافرت خارج البلاد حسب ما يردده الأطفال طبقا لما سمعوه من الجدة.

زوجة الأب، “زينب”ـ امرأة عاقر لا تنجب، وهي تتظاهر بالحمل بالاتفاق مع زوجها، والد أمينة، تضع كومة من القماش فوق بطنها وتربطها جيدا تحت ملابسها متظاهرة بالحمل. ولكنها تبدأ تدريجيا، في الشعور بآلام الحمل، ومن ثم بالتعاطف مع أمينة في محنتها.

من ناحية أخرى، تتسلل أمينة كل ليلة، وتغادر الكوخ وتتمشى على الشاطئ، تسير ثم تجري، تطارد القطارات التي تعبر جسرا قريبا هو عبارة عن لسان صخري ممتد داخل البحر، ثم تراقب ما يحدث في القرية ليلا.

من بين نماذج القرية، هناك شخصيتان: الرجل المشلول، والفقيه. الأول رجل يمتلك الحكمة والحضور الذهني مع القدرة على طرح التساؤلات المقلقة والتعليق الساخر على الأحداث التي تجري في القرية، لكنه عاجز، مقعد، مشوه الساقين، يرقد معظم الوقت، فوق عربة يجرها صديقه الذي لا يكاد يفارقه أبدا، أي “الفقيه” أو الشيخ الذي يستمد حكمته وسماحته وإيمانه بالقضاء والقدر من تعاليم الإسلام. يسهر الاثنان كل ليلة، يتأملان التناقضات التي تدور من حولهما. وعندما يذهب الفقيه ذات يوم لكي يؤذن لصلاة الفجر، تأتي “فاطمة” زوجة المشلول كي تساعده في العودة إلى المنزل. وذات يوم تغضب فاطمة من زوجها فتتركه وحده في العربة، ويأخذ هو في مناداتها مرارا لكنها لا تستجيب له، فيجاهد ويحاول أن يدفع العربة بنفسه لكنه يسقط في الرمل، لا ينقذه من رقدته سوى أمينة التي ترفع جسده وتعيده إلى عربته مرة أخرى، لكن من دون أن يرى وجهها.

يأتي رجال الشرطة إلى القرية، يبحثون في أمر اختفاء الرجل القتيل، ويشعر والد أمينة بالقلق ويخشى اكتشاف الأمر، فيقوم ليلا بمحاولة العثور على الجثة عن طريق الحفر داخل أكوام الملح بمعول، ولكنه لا يعثر عليها. وذات يوم، بنما تقوم زينب بزيارة أمينة في كوخها كي تطمئن عليها، بعد أن قاربت أمينة على وضع مولودها، تكتشف “أمينة” حقيقة حمل زينب الزائف، فتنتزع القماش الذي تلفه حول بطنها وتواجهها بقسوة، مما يؤثر كثيرا في نفسية زينب، لكن سرعان ما يتصالح الاثنتان، وتقبل أمينة بالأمر الواقع، أي بما هو مطلوب منها، وتحين ساعة الولادة، وتتألم المرأتان في وقت واحد، الأولى وهي في المنزل، والثانية في الكوخ، إلى أن تلد أمينة طفلها، ثم تجنح إلى الراحة، فيسارعون بالطفل إلى زينب التي تتعامل معه باعتباره طفلها.

تتعايش أمينة مع هذا الحال لبعض الوقت، تقوم بإرضاع الطفل ثم تعطيه لزوجة الأب، زينب التي تظهر أمام نساء القرية باعتبارها الأم التي أنجبت مؤخرا، لكن هذا الوضع لا يستمر طويلا، فذات يوم تخطف أمينة الطفل وتهرع إلى الخارج، تريد أن تنجو بابنها وتغادر القرية كلها. يجري الأب خلفها ووراءه زينب وفاطمة، الجميع يريدونها ألا تفضح السر أمام أهل القرية، ولكنها لا تأبه لهم، وتصر على أن يعرف الجميع الحقيقة، فالأمومة أقوى من جميع المشاعر.

يقول المخرج الجيلالي فرحاتي إن ما دفعه إلى كتابة قصة الفيلم هي فكرة تعاقب الزمن كما يتبدى في حياة طفلة لم تكن تكف عن اللعب طول النهار لدرجة أن حركة دوران الشمس كانت تظهر من خلال تغير موضع ظلها تدريجيا، كما كانت هناك فكرة الإحساس بشعور الأمومة الذي يتغلب على كل شعور، ويصبح وسيلة للتكفير عن الذنب. وهناك بالطبع فكرة حلم المرأة العاقر بالحمل وتشبثها بالفكرة ولو بالتظاهر الكاذب بالحمل.

 كلها شخصيات تعاني في سياق اجتماعي شديد العزلة والخضوع للموروث من القيم، مع سلبية واضحة إزاء المصائر الشخصية التي تبدو وكأنها أصبحت مقررة سلفا.

يطرح الفيلم بعض الأفكار الفلسفية عن تجاور الحياة والموت، وعن علاقة الاب بابنته، وعن رغبة الإنسان الفطرية في التحرر والشعور بالحرية كما نرى في شخصية أمينة من طفولتها، فكثيرا ما نراها تتجول على الشاطئ ليلا وحدها، أو تردد بعض الأغاني داخل كوخها الذي أرادوا أن يكون سجنا لها، فتحررت من السجن عن طريق الخيال. وأمينة في الفيلم هي رمز للتحدي والتمرد والقدرة على الخروج على المألوف. وتجسيد لقوة المرأة.

هناك أيضا بعض الإسقاطات الدرامية حول دور المثقف الذي يردد الكلمات الكبيرة، والتعليقات الفلسفية، لكنه عاجز عن الفعل الإيجابي، كما نرى في شخصية الحكيم المشلول. أما رجل الدين فهو رمز للخلاص والتطهر.

يلعب المكان دورا كبيرا في البناء الدرامي للفيلم، فالبحر يحتوي الغضب الكامن في الناس، كما يبتلع آلامهم واحباطاتهم، كما أنه بمثابة مرآة تعكس ما يدور داخلهم من صراعات.

يحيط المخرج من خلال أسلوب تصوير الفيلم، الشخصيات وأماكن الأحداث، بهالة ضبابية، كما يسود اللون الأزرق معظم المشاهد التي تم تصويرها في الشتاء، وينعكس ضوء القمر على الفضاء الفسيح الذي تتحرك فيه الشخصيات.

قد يعيب الفيلم بعض الإطالة والاستطرادات خصوصا في النصف الثاني منه، وربما كانت شخصية المشلول في حاجة إلى مزيد من التعمق، خصوصا علاقته بالفقيه، لكن هذا لا يقلل من تميز الفيلم فنياً بدرجة كبيرة، وابتعاده عن المبالغات والميلودراما والوقوع في أسر المناظر الفولكلورية كعادة الكثير من الأفلام المغربية. ويظل هذا الفيلم حتى الآن، هو أفضل أفلام مخرجه الذي درس المسرح في باريس حيث قضى هناك عشر سنوات قبل أن يعود إلى المغرب ويختار السينما وسيلة للتعبير الفني.

رابط الفيديو للفيلم كاملا

Visited 8 times, 1 visit(s) today