كل ما نتخيله كضوء”.. المدينة وناسها بين الحب والحلم والوهم

بفيلمي “ليلة عدم المعرفة بأي شيء” و”كل ما نتخيله كضوء” All WE Imagine As Light أنارت المخرجة الهندية الشابة بايال كاباديا سماء السينما بذلك النسق المبهر لشعاع الافكار المخترق بشاعرية موضوعات ووقائع تسردها الصورة الوثيقة لتسجل المواقف السياسية والاجتماعية تجاه معضلات محلية.

في الفيلمين تقدم رؤيتها للحب بالنظر اليه كضوء منساب ينعكس على شاشة السينما البيضاء احاسيس نقية مُتَشَكِلة كوجه سرمدي لرجع الماضي وصدى الحاضر. ثم لتأخذ مروياتها نحو تجربة عيش ثورية تسعى للتغيير، تقدمها كدراما واقعية تغادر حزن وخيبة لحظة الحقيقة الى خيال سحري يتعلق بالعاطفة ليضيء الامل.

في الفيلمين تخبرنا كاباديا أن الحرية يزرعها الشباب المُدرِك في الهند بوعيهم المُنبثق مشاعر تبحث عن ملاذ آمن لمستقبل احلامهم في كسر الطبقية والطائفية الدينية السياسية وسطوة الفقر حيث الصوت الانساني القاطع بإصرار لكل اشكال الهيمنة الرأسمالية والتمييز الاجتماعي على اساس اثني والنظام الابوي الذي يفرض المعاناة على المرأة والرجل على حد سواء حسب راي المخرجة.

في الوثائقي كانت نبرتها السينمائية غاضبة حزينة بينما في الروائي صارت أكثر حكمة وهدوء وفيها بصيصٌ للأمل يُمَّكِنَها ان تفقه اهمية الفرح الانساني وسط الازمات. كان الفيلمين قد حصلا على جائزتي الكاميرا الذهبية للأول وجائزة التحكيم الكبرى للثاني بمهرجان (كان) السينمائي ما اتاح لسينماها الوصول الى جمهور عالمي واسع اقترب بفضلها من انتاجات السينما المستقلة الهندية الجديدة. تخبرنا بايال أن العملين كانا أشبه بتيارين متوازيين بطريقة ما اجتمعا معًا بعد ان تقاطعا في نقاط عدة لينساب أحدهما في الآخر. فحين كانت تكتب “كل ما نتخيله كضوء” كان “ليلة عدم المعرفة بأي شيء” مجرد أفكار ومادة خام مصوَّرة انصهرت مع الوقت لتتشكل فيلم دفعه النفس السينمائي الساخط على الاوضاع التي يسجلها الى الظهور سريعًا بصورته الوثائقية المكتملة ليلحقه بعد ثلاث سنوات حكاية “برابها” وصديقاتها كدراما تغلق باب النظرة التسجيلية الخالصة للمدينة (مومباي) لتحولها الى موضوعة اساسية وشخصية معنوية ينصهر فيها البشر بين الحياة المادية والطموح في واقعية اجتماعية قاسية، ثم لتحملها لمسة عاطفية يجسدها الحب نحو سحرية تنقل الاحاسيس للأفق المنشود.

ان التناغم بين الفيلمين حجر زاوية في الاقتراب من فهم طبيعة السينما الخاصة بكاباديا المتعلقة بمومباي خصوصًا إذا ما علمنا أنها تعتبر (كل ما نتخيله كضوء) عمل اول من ثلاثية سينمائية رومانسية عن المدينة ومغتربيها.

يمكننا ملاحظة أنها تفتتح الفيلم بمشاهد وثائقية تحاول ان تتحس نبض المدينة وايقاعها المعاشي. تلتقط روح البيئة الاجتماعية التي يتحرك فيها مسارات شخصياتها المنتمين للطبقة العاملة، يحاصرهم صخب المدن الكبرى وغوايتها حتى ينعدم احساسهم بالزمن وهذا ما تأكده الشخصيات حيث تمضي السنين وهي تراوح في مكانها سعيًا وراء لقمة العيش. وفي مواجهة عالم حقيقي صادم يقتات على اسئلة الواقع القاسي وسريالية الأحداث تُغذي بايال شخوص حكايتها بالمزج بين الخيال والواقع لتشكيل نوع اخر من الحقيقة.

هكذا نراها تزيح ستارة الوثائقي في لقطة اساسية تفتتح مع نزول العنوان على الشاشة فيلمها الدرامي الاول حيث يسرد حكاية برابها وزميلتيها وصديقتيها (أنو وبارفاتي). ثلاثة من العاملات بالقطاع الصحي في مستشفى يمثل مجتمع مصغر لجوهر الحياة في الحواضر المدنية الكبرى. فهنا العيش يكون على حافة المخاطر مثل برابها المرأة التي هاجر زوجها للعمل في أوروبا حتى انقطعت أخباره فظلت معلقة بين الواقع والخيال تصارع امالها واحلامها ومشاعرها. او شريكتها في السكن أنو المرتبطة بعلاقة عاطفية مع شاب مسلم والمصممة على كسر الاستنكار المجتمعي المُسبق بالبحث عن مكان يحقق التواصل الجسدي. فيما غدت بارفارتي الأرملة حديثًا نموذج للعامل المغترب الذي يفنى عمره ليجد نفسه فجأة تحت سطوة رأس المال المستحوذ حتى على مسكنه البسيط.

“برابها” التي يسقط العنوان عليها في المشهد الاول حين ترفع الستارة في استثمار رمزي لمعنى اسمها بالهندية وهو (الضوء او السطوع) تكاد تكون حجر الزاوية بين المدينة وشخصيات الفيلم. فهي حينًا تتماهى مع مومباي الدافعة لساكنيها نحو تصديق بهرجة الوهم والقناعة بما لديهم والخوف من كسر المظهر الاجتماعي مع الاستمرار في الغرق في الحلم المستحيل. وفي مظهر اخر تعيش مع (أنو وبافارتي) قيم الأسرة في المساندة والدعم المادي والعاطفي والتكافل بما يتيح لأواصر الصداقة النمو بقوة حتى مع تلك الأسرار والخبايا التي تحفظ لكل واحدة خصوصيتها الانسانية.

هي بذلك لا تتخلى عن روابطها الاسرية وتقاليد العائلة والمجتمع القاسية حيث ظلت بانتظار زوج غائب لفترة طويلة غير انها بمشاركة هموم الحياة بتفاصيلها اليومية مع ارواح اخرى مشابهة تعمل على كسر مفاهيم تقليدية بالية واعراف مجحفة تنزاح بعيدًا عن الأواصر الانسانية التي تسهل عيش الانسان بدل تعقيده. يتحول غضب المخرجة كاباديا الواضح بنبرته في فيلمها الاول الى استفهام عميق وهادئ ومؤثر عاطفيًا في دراما الثاني، يحلق بسحر فوق الواقع لتشخيص معاناة المرأة في مجتمع ابوي ذكوري يسلبها حق الحياة الطبيعية إذا ما اختفى الزوج لأي سبب.

ميزة واقعية بايال انها تحضر سرديًا بلا مبالغات درامية او انفعالات ميلودرامية، بل تترك لكاميراها حرية التجول دون قطع مكثف سعيًا وراء روح المدينة ولالتقاط انفاس ساكنيها وملامح افكارهم وتموجات مشاعرهم. فهي تستخدم ايقاع الحياة لرسم اطار الاحاسيس مثل مشاعر الصداقة او الاقتراب العاطفي اثناء التنقل بوسائل النقل العام وفي شوارع المدينة أو حتى البهجات الصغيرة لشباب يعيشون متعة كرة القدم في الحديقة العامة. فيما تغدو الطبيعة مغذي للتواصل الحسي والشاعري مثل نغمات تساقط المطر او حفيف الاشجار بالغابة. لتتماهى مع سينماها عليك ان تستوعب دور شريط الصوت الفاعل جدًا. ان تعيش عاطفته وتصل الى افكاره المنعكسة على الصورة.

إحدى أهم ميزات أسلوب المخرجة الهندية، توظيفها لشريط الصوت بشكل مؤثر يستثمر كل الخلفيات الصوتية للمحيط الحياتي لتغذية الاثر الانساني بصريًا، مدعومًا بموسيقى تصويرية تتبسط نغماتها لتذوب في عمق الحالة الدرامية للمشهد او المزاج الشعوري للشخصيات ما يدفع الإحساس الى هارموني عالي مع الأفكار والموضوعات ضمن حكاية الفيلم.

بصريات الفيلم تتفاعل مع ألوان المدينة النابضة بالحياة، ومن خلال نغمات الليل والنهار تنجح في استحضار الواقع النفسي للحياة الخاصة للشخصيات. كما انها تستكشف بعمق التعقيدات الاجتماعية والثقافية للبيئة الهندية المحلية. اللقطات الواسعة تطرح تساؤل حيوي يمثل جوهر اساسي بالفيلم، هل مومباي مدينة الاحلام حقًا ام هي وهم كبير؟ فنُطِل من خلاله خصوصًا في النصف الاول نحو وقائع درامية تقدم صورة الرأسمالية الحديثة وسحقها المتواصل للطبقة العاملة حيث الصراع الطبقي بتجلياته الكبرى من خلال وجوه الاستنزاف اليومي المتعددة، كما انها تلقي نظرة على مشاكل المجتمع المعاصرة مثل الانفجار السكاني والرعاية الصحية وأزمات كالتفرقة العنصرية وارتفاع منسوب العداء الاثني ناهيك عن المعضلات الاقتصادية المتفاقمة مع اطلالة على المشاكل الشخصية الحياتية لعديد البشر بالخصوص لمعاناة المرأة من النظام البطريركي.

 هنا يمكننا رؤية شيئًا ما من واقعية ساتياجيت راي الاجتماعية كما في فيلمه مدينة كبيرة قبل ان تنقل بايال فيلمها بنصفه الثاني الى تحدي فردي للمجتمع من اجل انتصار الحب تعتمد فيه تنمية المشاعر على وهج واقعية سحرية تحتضن الطبيعة كمتنفس وملجأ.

ان الجمال البصري للصورة والتأثير الفاتن لشريط الصوت مع سرد يتبلور حول عاطفته قبل افكاره يدفع الى تأمل شجي في رمزية العلاقة بين الفرد الانساني والمدينة وناسها ما يجعل من فيلم المخرجة بايال كاباديا تجربة فنية شعورية تنهل من الحس وتتغذى على عمق رموز الخيال وسحره لتخلق واقعها الاصيل بكل أفراحه وأتراحه حيث العدالة الاجتماعية أسمى الغايات وجوهر الاحلام.