“كازانوفا فيلليني”: البراءة المثالية حلم طوباوي

يروي فيلم “كازانوفا- فيلليني” (1977) لفيديريكو فيلليني، بعضاً من مغامرات هذا العاشق الاسطوري وحكاياته الجنسية، من غير رابط فعلي بين هذه المغامرات سوى كونها من بطولته.

وتنبني الحكاية الفيلمية على سرد بعض هذه المغامرات التي تتنوع في الزمان وفي المكان كما تتنوع في احداثها ولكنها تتجمع في خط سردي واحد هو خط الرواية الذي هو كازانوفا نفسه، بدأ من مشهد الاحتفال في بداية الفيلم وانتهاء بمشهد الاحتفال في نهايته، اذ ان المسافة بين المشهدين تحاول ان تكشف اكثر من جانب في حياة هذا الرجل الذي ضرب به المثل في غزواته العاطفية ومغامراته الجنسية.

غير ان الحكاية الفيلمية وان افسحت مجالاً واسعاً لهذا الجانب منحياته، لم تخل من جوانب اخرى فيها الوجه الاخر غير المألوف لكازانوفا وهو وجه العاشق المصدود المحروم، ووجه المحب الحقيقي الذي يواجه موت حبيبته، فضلاً عن وجه الذكر الذي لم تعد ثمة حاجة اليه فيلقى خارجاً كالازبال.

 ولعل نقطة الغرابة في هذه الحكاية الفيلمية انها مشوشة الاتجاه زماناً ومكاناً وحدثاً، فهي لا تتخذ اتجاهاً سردياً بعينه، وانما تعتمد على وحدة البطل للقضاء على تشتت البنية الحكائية وتزامناتها وتداخلها، الامر الذي افرغ الحكاية من طابع السرد الخطي او المتقطع او التراجعي، او أي خط ممتد يمكن ان يؤسس لها منطقاً سردياً بعينه، وكان اعتماد الحكاية على السارد/ البطل، هو عنصر الربط الوحيد بين اجزائها بوصفها مغامرات منفصلة بعضها عن بعض، وهذا التشتت يناسب الطبيعة الحلمية التي يحكي بها (فيلليني) قصصه في افلامه.

        لقد بنيت حكاية الفيلم على اساس كتاب شهير لكازانوفا نفسه يحكي به قصة حياته ومغامراته، وهو يعد من اصول الايروتيكية الغربية، ولكن هذا الاساس لم يكن غير خطي كالفلم، اذ هو يسعى إلى سرد مغامراته من بداية شبابه وتجاربه الاولى صعوداً في الزمان إلى وقت كتابته لمذكراته ومغامراته، الأمر الذي يكشف عن عنصر النمو الايروتيكي المتصاعد وفقاً لتصاعد الخبرة ونمو التجربة، غير ان اعتماد حكاية الفيلم على الاختيار والتوليف لبعض هذه المغامرات، افقده ما تتسم به بنية الكتاب من تماسك ومنطقية سردية، فضلاً عن ما افضت اليه الاضافات غير الكازانوفية التي ابتكرها فيلليني وزجها في سياق الحكاية الفيلمية.

 ومعنى هذا اننا في فيلم كازانوفا امام اختيار واضافة لا يحكمها الا منطق الوعي الفيلليني نفسه الامر الذي يجعل من الصلة بين الحكاية الفيلمية والحكاية الاصلية صلة ظاهرية، تخدم اغراضاً اخرى غير كونها تأسيساً للفلم.

لقد اختار فيلليني ما يقرب من عشر مغامرات كازانوفية واضاف اليها حكاية فيللينية خاصة، فضلاً عن مظاهر الاختصار والحذف التي اضافها على اختياراته ولم يكن لهذا الاختيار من منطق سببي، الافي طيات البنية العميقة لرؤية لفيلليني غير ان ما يمكن قوله هنا هو ان كازانوفا فيلليني قد لا يمت بصلة، اطلاقاً، إلى كازانوفا الحقيقي، وان تشابهت بعض مغامراتهما، او تجاربهما.

بنية الرؤية

        ككل الرؤى العميقة تنبني رؤية فيلليني على تداخل محاور متعددة تحاول في تعالقها وشمولها ان تنسج خيوط هذه الرؤية وتؤسس لها اركانها بوصفها موقفاً من الموضوع المباشر، كما هي صورة متجلية للموقف الاشمل، وغير المباشر الذي هو موقف الذات المبدعة من العالم ووعيها بها ولا يمكن والحال هذه ان ترصد رؤية فيلليني في فيلم ما، بعيداً عن رؤيته الاصلية وموقفه الذاتي الذي يفرض على كل معالجة فيلمية شيئاً من بناه وعناصره، تأكيداً لعلاقة السطح والقاع بين الوعي والاداء،

 وفيلليني الذي اخرج كازانوفا بعد حشد من افلامه، وبعد ان رسخ اسلوبيته الفنية وحدد اتجاهات رؤيته العميقة، لا يمكن ان ينظر اليه الباحث نظرته إلى مخرج مبتدئ اغراه اسم كازانوفا وشهرته في صناعة فيلم عنه. غير ان هذا الملحظ اذا كان ايجابياً في توجيه القراءة ابداعياً، فان له جانبه السلبي في فرض معطيات الخارج على النص وهو فرض يقلل من امكانية استنطاق النص بما يثري دلالته، ويطلقها دون توجيه مسبق أو قواعد ومحددات سلفية اشتراطية، وهو ما وقع فيه فيلليني الذي أهمل خصوصية كازانوفا ومفارقته للعالم الاخلاقي الذي ينتمي اليه فيلليني ويدافع عنه، فاتخذ موقفاً سلبياً من موضوعه، غير ان هذه السلبية لا تقدح في الابداع ولكن ما حصل مع فيلليني ان سلبيته السلفية قد جعلته يسطح رؤيته لموضوع الفيلم، وهو تسطيح حاول ان يتخفى وراء محاور ذهنية ومواقف تأملية، ليس لها قوة الصمود امام ضعف الرؤية، ولذا فانها اضافت تشويشاً او تهميشاً اكثر على ذلك الموضوع، لأن ابسط مقارنة، حتى على المستوى الايروتيكي، بين  كازانوفا وأي فيلم آخر لفيلليني ستكشف تهلهل بنية الرؤية وارتباكها في كازانوفا رغم التباسها ومحاولتها الافادة من مبان ومحاور نقدية في انقاذ صورتها.

ولعل السبب في ذلك عائد اصالة إلى عدم تفهم فيلليني لرؤية كازانوفا للعالم، وعدم التفهم هذا قاد إلى الالغاء، رافضاً الايمان بحق الاخر بالاختلاف وفارضاً رؤيته الشخصية بوصفها معياراً اوحد، لابد من الالتزام به. ان ما يؤخذ على فيلليني في كازانوفا، ليس موقفه العدائي من كازانوفا، فهذا من حقه وهو حر في اتخاذ ما يشاء من مواقف، ولكن في سعيه إلى تفسير حالة كازانوفا وفقاً لهذه الرؤية العدائية المسبقة، الامر الذي جعله يحكم على كازانوفا قبل أن يحاوره او يحلل معطيات موقفه، والادهى من هذا انه سعى إلى تلفيق معطيات هذا التفسير العدائي من خلال منح الموضوع ابعاداً اجتماعية واخلاقية، غير موجودة فيه اصلاً، او هي هامشية في تفسير ما هو جوهري في هذه البنية، وهو البعد الايروتيكي الذي يميز موقف كازانوفا من العالم.

الرفض الاخلاقي

  ان اخلاقية فيلليني الكاثوليكية، رغم عدم صرامة التزامه الحياتي بها، تبدو صارمة في رؤيته وتوجهها ولعل أخطر نقاط هذه الاخلاقية موقفها الرافض للجنس، وهو موقف مؤسس على تراث توراتي – انجيلي، يرى في الجنس الخطيئة الكبرى التي اخرجت آدم من الفردوس والتي يدفع ابناؤه ثمنها، والتي جاء المسيح بحسب الرؤية الانجيلية لينوب عنهم في هذا. فضلاً عما يبدو في حياة المسيح من عزوف فسره اتباعه بانه موقف رافض للجنس بوصفه شراً وخطيئة، ولم يستثن هؤلاء حتى الزواج، فقد اوصوا بان تكون ممارسة الجنس فيه بلا شهوة وانما تحقيقاً لهدف التناسل وحفظ النوع.

وهذا المفهوم الكاثوليكي وما يلحقه من منظومة اخلاقية ساندة له حضور كبير في النظام الاخلاقي العام في البنية الغربية اجتماعياً ونفسياً وثقافياً، وهو ما يمكن التماس صورة من صوره في وعي فيلليني الذي كان وعيه الفني مفارقاً نوعاً ما لوعيه الاخلاقي في هذه النقطة، ولكنه لم يستطع تأجيج هذه المفارقة ولا تحليلها ورصد تجلياتها لتأسيس موقف أكثر اقناعاً وموضوعية من الايروتيكية. فقد استسهل فيلليني التبعية الاخلاقية، بناء على ايمانه بمقولاتها، وكان هذا الموقف حقاً مشروعاً وله ولغيره، ولكنه يتضمن، بحكم هذا الاستسهال حكماً سلبياً على قضية ليست سلبية تماماً، او هي لم تأخذ حقها من البحث والتدقيق لبيان وجه سلبيتها وهل هي جوهرية في ذاتها، ام هي معطى سياقي او خارجي لايد لها فيه.

 اذ بناءً على المفهوم الكاثوليكي عن علاقة الجنس بالشر، اسس فيلليني رفضه الاخلاقي للايروتيكا في ذاتها وكأن شرها هو جوهرها وليس عرضاً لاحقاً بها، وكانت قوة هذا الرفض وعمقه سبباً في فشل فيلليني في تحليل المبنى الايروتيكي وتفهمه، على الرغم من تحطم قلاع الاخلاقية الكاثوليكية في الواقع، وسقوط فكرة الشر الجنسي دينياً، وهنا تكمن محنة التردد التي تلحظ في كازانوفا فيلليني، اذ يحاول فيلليني ان يسوغ الرفض للجوهر تسويغاً عرضياً لا علاقة اصيلة له به، وكأنه يسعى إلى تقسيم الايروتيكي إلى مقبول وغير مقبول، وفقاً للتقسيم المسيحي ذاته، ولكن بطريقة توزيعية مختلفة، فهو يضع الجنس العاطفي، المبني على الحب في جهة، مقبولة إلى حد ما، فيما يضع الجنس الشهوي، الحسي المعبر الصريح عن الايروتيكية في جهة مناقضة مرفوضة تماماً ومسخور منها ومشوهة، غير ان هذا التقسيم لا حقيقة له، لان البعد الايروتيكي هو السائد في الفعل الجنسي ان كان عاطفياً او غير عاطفي، فالتباس هذا البعد يجعل الحكم بعاطفيته من عدمها حكماً ظاهرياً غير مقنع، اذ لا مبنىً جنسي الا وهو يتلحف بالعاطفية، ولو وقتياً، وبمقدار يكفي لتسويغ الفعل الايروتيكي، وهذا التلحف مهما كان زائفاً ومهما عرف الطرفان بزيفه، يظل ملازماً للايروتيكية، ومقدمة مشروطة لها، كيفما كان التعبير عنه لغوياً او بصرياً او حركياً.

 وبناءً على هذه الحقيقة يبدو تقسيم فيلليني زائفاً وغير عقلاني وهو يعلم يقيناً بهذا الزيف. واللاعقلانية، ولكنه لا يرغب في تجاوزها، لانها الحل الامثل لتناقض وعيه الفني مع وعيه الاخلاقي، اذ انها تتيح له فرصة في تأسيس اختلافه العرضي الواهم عن منظومته الاخلاقية من خلال تقوية رؤيته الفني.

 وهذه الفرصة هي التي انقذت فيلليني في افلامه السابقة، كما حصل في تناوله للايروتيكا في  فلمي (1\2 8) و (وجوليت والارواح) ولكنها تفشل في انقاذه في كازانوفا لان الايروتيكيا هنا هي جوهر المبنى الفلمي والوعي المحايث له والاداء المترتب عليه، وليست خيطاً في النسيج او عنصراً من عناصر التكوين، بل هي التكوين ذاته، والنسيج نفسه، وما الخيوط والعناصر الفيلمية الا خدم لها واعراض لجوهرها المتحرك والمكون وفقاً لسياقاته.

        ان رفض فيلليني الاخلاقي للايروتيكية هو الذي افضى به إلى السخرية من الجنس، وتهميش طاقته وتحويله إلى ممارسة اقرب إلى الحيوانية في معظم مشاهد فيلمه، دون ان يخلي الساحة من مشاهد تناقض هذه السخرية ظاهرياً، ولكنها في السياق العام تحقق السخرية المرة التي تكاد تكون هجائية للجنس وافتقاره إلى الدوام واليقين، ولحسيته اللحظية التي لا جوهر لها.

 كما ان فيلليني يسخر من مفهوم الفحولة ايروتيكياً، عندما يجعلها  بحاجة إلى مساعدة لتحقق ذاتها، ويمكن تلمس هذه السخرية في الطريقة التي يمارس بها (كازانوفا) الجنس والتي تكاد تنطق بفراغها وعمقها وافتقارها إلى العمق، وسطحية تعبيرها عما تريد ان تعبر عنه، وكذلك في طقوسه التي تدعم هذا الفراغ وتلك السطحية، وتجعل من الفعل الجنسي اشبه بالعمل الذي يحتاج إلى ادوات ما، وليس فعلاً انسانياً يعبر عن عمق المشاعر واسلوباً في الحوار مع الذات والعالم.

 ويقيناً ان هذا الامر من فعل فيلليني وليس من فعل كازانوفا، لان فيلليني هو الذي عمل على افراغ الايروتيكية من محتواها وتسطيحها وابتذالها وتأسيس النقيض الاخلاقي لها من خلالها هي، لا من الخارج، وهذا العمل القصدي انما هو تعبير عن الموقف السلفي الرافض للايروتيكا اخلاقياً، والذي يفشل، بسبب قوته العارمة، في اقناعنا بتفريقه بين انماط التعبير الجنسي بحسب اقترابها من سلم القيم الاخلاقية.

        غير ان اقوى ملامح الرفض كانت كامنة في مفهوم الشر الاخلاقي الذي اتخذته الكاثوليكية عن الجنس والذي يبدو اقتناع فيلليني فيه قوياً، ولو في شعوره، وهو ما تجلى في القسم الفيلليني الخالص من الحكاية، أي في القسم الذي لا ينتمي إلى مذكرات كازانوفا ولا مغامراته، وهو مشهد السيرك والسينما، فقد عمل فيلليني على جعل العري الانثوي طافحاً بالشر ومن خلال صور سريالية عارية، وكان الفرج فيها، وهو مركز اللذة وهدف الايروتيكا، يتخذ  اشكالاً عدائية وشريرة، فهو بصورة عنكبوت حيناً، وهو بصورة فمٍ قاسٍ يصرخ حيناً آخر، وبصورة شيطان في حين ثالث، وهذا التحوير العدائي للرؤية السيريالية الايروتيكية اصالة، وانطاقها لغير ما تريد قوله، انما هو تعبير فيلليني خفي عن استقرار مفهوم الشر الاخلاقي في الايروتيكيا في نفسه، وارتكازه في وعيه، وتأسيس رؤيته على هذا المفهوم علىالرغم من الغطاء الاحتفالي الفني، الذي يسعى إلى القائه على جوهر هذه الرؤية وتجلياتها، وما هذا الغطاء الا دليل مضاف إلى حيرة فيلليني الاخلاقية والتباسه الفكري تلك الحيرة التي يهرب من جحيمها باتخاذ موقف اتباعي اخلاقياً، ويحاول تسويغه فنياً بما يوهم بالقناعة والرضا.

نقد البنية الاجتماعية ً :

فيلليني مع احدى بطلات الفيلم

  على الرغم من الرؤية الفنية غير الغائية التي تطبع اعمال فيلليني، وتجعله اقرب إلى الشكلانية في أسلوبه، فانه يؤمن بوظيفية التعبير السينمائي اجتماعياً عن طريق النقد والاصلاح، وان كان اختياره الاسلوبي قد جعل توظيفه هذا اقل دعائية واقرب إلى الموقف الشخصي منه إلى الأيديولوجيا.

 ولعل من اكثر الافكار تكراراً في افلام فيلليني نقده لزيف البنية الاجتماعية وتصنعها وفقدانها للتوجه الحقيقي وتخبطها في خضم المظاهر الزائفة، فقد كانت هذه الفكرة حاضرة في جميع افلامه، مهما تفاوت حظها وحجم حضورها، وكانت السخرية من البهرجة ودقة التشكيل البصري وتكوين الشخصيات هي الوسائل التي يؤسس عليها فيلليني فنية نقده الاصلاحي.

  وفي كازانوفا ينحو فيلليني منحى مختلفاً في نقد البنية الاجتماعية، لا في الاسلوب ولا في الوسائل، وانما في موضوع النقد ومضمونه، فبحكم كون كازانوفا فيلماً عن شخصية ايروتيكية، وبحكم سعي فيلليني إلى هدم هذا النموذج  والمعنى الكامن وراءه فقد توجه النقد الاجتماعي في هذا الفيلم صوب الايروتيكا بوصفها حالة اجتماعية، اسهمت بحكم تهافتها وخوار بنيتها، في ظهور النموذج الكازانوفي وسيادته، وهذا الاسهام هو المحور الاجتماعي المكون لأسطورة الايروتيكية، ويرى فيلليني بوعيه الاخلاقي ان هدم البنية وتفكيك معطياتها يؤدي ضمناً إلى قطع الاسطورة عن جذورها، ويسهل اماتتها، كما يسهم ضمناً في منع قيام شبيه لها مستقبلاً، وذلك بالتحصين الاجتماعي. فقد سعى فيلليني جاهداً إلى عزل المجتمع الايروتيكي وتفريقه عن البنية العامة، فبدت الايروتيكية وكأنها لهو برجوازي سخيف، ودليل على الفراغ والخواء الذي تعيشه طبقة بعينها اصابها التفسخ فصار الجنس ديناً لها.

       لقد كانت اول اشارة نقدية للايروتيكية الاجتماعية في المشهد الاول من الفيلم، اذ ان السيد المتلصص على الممارسة الجنسية بين كازانوفا وخادمته، بطلبه، انما يمثل تلك الطبقة السائدة التي تبدو وقورة واخلاقية، ولكنها تنحدر في الخفاء إلى قاع الانحطاط.

 ولعل هذه الازدواجية الاخلاقية هي التي جعلت السيد المتلصص هو نفسه القاضي الذي يحاكم كازانوفا في المشهد التالي ويلقيه في السجن. وهذا التقديم الفيلليني لأخلاقية المجتمع الزائفة كان يمكن ان يقود إلى تفسير آخر يتخذ منحىً دينياً وطبقياً وسياسياً، ولكن فيلليني اغفل هذا متعمداً ليتساوق مع فكرته عن الشر الجنسي وآثاره الاجتماعية، فيلم يكن هذا الخواء، بحسب رؤية فيلليني، الا نتيجة الافراط في طلب اللذات وعبادة الشهوة.

       ان زيف الوجوه واصطناعها وجمودها الدال على الفراغ والبلادة، فضلاً عن ضحالة وعيها الخلاق وتصابيها. كانت سمة لازمة في مشاهد فيلليني العامة التي عرض فيها للبنية الاجتماعية، لطبقة بعينها، ولقد سيطر هذا الاسلوب التعبيري في المشاهد الاخرى من خلال حضور كازانوفا نفسه الذي كان ممثلاً لهذه الطبقة شكلاً ومضموناً. ولكن فيلليني لا يكتفي بالنقد وهدم البنية، لأنه ككل الاصلاحيين يسعى إلى تقديم البديل، وكان بديله لاجتماعي هو مجتمع السيرك بحيويته والطبيعة الحلمية الطفولية التي تسوده وتسير علاقاته، وهذه الرغبة الاثيرة لدى فيلليني في معظم افلامه، تأخذ طابعاً احتفالياً انسانياً، يغلب ان تغيب عنه المضامين الشهوية، او ان يكون حضورها غير مسوغ وهامشياً. ومعنى هذا ان جزءاً من البديل الفيلليني للبنية الاجتماعية المنقودة، انما هو فاقد لايروتيكية، أي انه مازال في مرحلة البراءة الجنسية، وهذه البراءة المثالية التي لا وجود لها اجتماعياً تجعل من اصلاح فيلليني على مستوى الرؤية، به حاجة إلى النقد والاصلاح اذ ما هو الا حلم طوباوي، يحاول النكوص إلى مرحلة الطفولة في اصرار غبي متوهماً ان خوفه الشخصي خوف عام، وان فزعه من الايروتيكا ظاهرة مطلقة الحضور في النفس البشرية.

Visited 90 times, 1 visit(s) today