“ريحانا” فيلم من بنغلاديش

Print Friendly, PDF & Email

كان فيلم “ريحانا” Rehana أول فيلم من بنغلاديش يدخل البرنامج الرسمي ويتسابق في قسم “نظرة ما” في مهرجان كان السينمائي (يوليو الماضي)، وهو الفيلم الثاني للمخرج البنغلاديشي عبد الله محمد سعد. وقد شاهدت الفيلم في مهرجان لندن السينمائي (6- 17 أكتوبر).

للوهلة الأولى بعد أن ينتهي المرء من مشاهدة الفيلم، يطرأ على ذهنه السؤال التالي: هل كان من الممكن أن يصنع هذا الفيلم لو لم يكن التليفون المحمول قد اخترع بعد؟ فمن دون التليفون المحول يصعب جدا تصور سياق للأحداث، فبطلته “ريحانا” تضع التليفون على أذنها وتتحرك طول الوقت، جيئة وذهابا داخل المستشفى الجامعي الذي يفترض أنها تعمل فيه مدرسية في مدرسة الطب، رغم أننا لا نراها سوى لماما، تمارس وظيفتها. أما باقي الوقت فهي مشغولة في معاركها للدفاع عن حقوق المرأة.

الصورة طوال الفيلم تكتسي باللون الأزرق الباهت وكأننا نشاهد الشخصيات والأماكن من خلال قماشة شفافة تعكس الضوء الأزرق.. لون الأسى والحزن وغياب الحياة، في لقطات قريبة لوجه السيدة ريحانا الحزين القلق، كما لا تكاد الكاميرا تتوقف وهي تتابع الشخصيات في الممرات الشيقة الطويلة، لتعكس مزاجا يشي بالتوتر والقلق. لقد شهدت ريحانا أمرا ما، رسخ في ذهنها وأصبح هاجسا يسيطر عليها، تريد بكل قوة أن تكشفه. لقد رأت طالبة من طالباتها هي “آني” تغادر باكية منكسرة مكتب البروفيسور عرفان، زميلها في العمل، فتستنتج أنه اعتدى عليها ونالها رغما عنها، ولكن الفتاة ترفض أن تتكلم تجنبا للفضيحة. تحثها ريحانا على التقدم بشكوى لمديرة المدرسة إلا أنها ترفض بإصرار، فتقرر ريحانا أن تتقدم بالشكوى بنفسها.

من هنا تبدأ محنتها الكبيرة في مجتمع ذكوري، يخضع خضوعا تاما لهيمنة الرجل، لفكرة العيب والحرام والممنوع ولكن بطريقة عكسية، أي أنه ليس من المقبول اتهام رجل بممارسة العيب.. وكشف ما يحدث في المدرسة، وهو ما يمكن أن يسيء الى سمعة المدرسة وسمعة الفتاة وسمعة الجميع، لينهار الهرم الذي تأسس على الباطل.

الفيلم كله عبارة عن وصف لما تتعرض له بطلته من ضغوط لسحب شكواها لدرجة أنهم يؤلبون عليها حتى طلابها وطالباتها، خصوصا بعد أن نفذت ما تراه صوابا عندما طردت احدى الفتيات من الامتحان بعد أن ضبطت معها ما يفيد بتحايلها وغشها.

ربما يكون الموضوع جديدا على السينما في بنغلاديش، وهو الموضوع الذي يشغل العالم منذ الكشف عن فضائح المنتج الهوليوودي هارفي وينستين ثم انطلاق حملة “أنا أيضا” النسائية. ولاشك أن مخرج الفيلم يستغل هذه الموجة ليطرح موضوع التستر على الجرائم الجنسية في مجتمع إسلامي، ويستعرض كيف يسيطر الرجل على الموقف وينتصر في النهاية بعد أن يساهم في تحطيم حياة المرأة التي تتصدى له، وكيف تصبح المرأة ضحية مرتين، مرة عندما تصمت وترضخ، ومرة ثانية، عندما تتمرد.

تنتقل ريحانا من غرفة الى أخرى، ومن موقف إلى آخر، في المدرسة والمستشفى، نراها في علاقتها مع ابنتها التي تكفلها وحدها بعد انفصالها عن زوجها (لأسباب لا تتضح لنا)، تقيم مع أمها وشقيقها العاطل عن العمل، تختلف وتتشاجر معهما، ويصبحان أيضا مبررا لابتزازها من قبل عميدة الكلية التي تذكرها بمسؤوليتها عن اعالة أسرتها.. تتحدث إلى هذه وتلك، وتجري اتصالات عديدة طوال الوقت من خلال التليفون المحمول الذي يصبح هو البطل الحقيقي للفيلم، أي أن الحوار هو أساس التعبير عن موضوع الفيلم. إن ريحانا المهووسة بفكرة الإصرار على المضي قدما في تحدي الجميع: المديرة والبروفيسور المسؤول الذي تتهمه، تصبح في النصف الثاني من الفيلم مثار تشكك في حالتها العقلية. فالبروفيسور يواجهها بقوة ويذكرها بأنها لم تساعد فعليا ما حدث، ولا تعلم أن تلك الفتاة هي التي كانت تطارده وأن لديه رسائلها المتكررة إليه، على هاتفه، وأن ما يبدو لها فعلا فاضحا، ليس في الحقيقة كذلك، وأنها تبالغ كثيرا في استقبال الأمر.

في النصف الثاني من الفيلم يركز السيناريو البارع على التشكيك في موقف ريحانا من دون أن يفقدها أرضيتها التي تستند عليها. إنه فقط يسمح بفرجة تتيح للآخرين التملص من الاتهام، بل وإعادة توجيهه الى ريحانا نفسها.

هي تقول إنها تفعل كل ما تفعل من أجل ألا تتعرض ابنتها في المستقبل لمثل هذه الاعتداءات. لكن شقيقها يواجهها بعد أن يرى كيف أهملت ابنتها وهي في خضم حمى البحث عن طريقة لإدانة الرجل، ويذكرها بأنها قد نسيت واجباتها، كما أصبحت مهددة بفقدان عملها.. بل ويتم بالفعل ايقافها عن العمل مؤقتا، وتتعرض لمواجهة قاسية مع طلابها.

مخرج الفيلم مع بطلته الممثلة أزميري حق بادون

يعتمد الفيلم أساسا على الأداء التمثيلي الممتاز والمؤثر من جانب الممثلة “أزميري حق بادون” التي أدت دور ريحانا، وعكست قلقها، وتوترها الدائم المستمر، ورغبتها التي تتصاعد أكثر فأكثر عبر الفيلم، في تحقيق ما تراه صوابا مهما كلفها الأمر. ويحصرها المخرج معظم الوقت في لقطات قريبة لرصد أدق خلجاتها وانفعالاتها، وتتحرك معها الكاميرا في سلاسة وبراعة داخل الأروقة والممرات الضيقة، تصعد السلالم معها، وتتوقف تقترب منها ومن عينيها المليئتين بكل حزن الدنيا وصمت العالم. وينسج الفيلم ملامح بديعة تلقائية في العلاقة بين الأم وابنتها الطفلة الصغيرة لينتهي نهاية صادمة حيث تصبح ريحانا سجينة هواجسها، وتصبح الأم سجينة أمها.

Visited 23 times, 1 visit(s) today