فيلم “شباب”..سيمفونية فلسفية عن معاناة المبدع مع الإبداع!

Print Friendly, PDF & Email

من أهم الأفلام التي عُرضت في مهرجان كان في دورته رقم 68 فيلم المخرج الإيطالي پاولو سورنتينو بعنوان “شباب” Youth، وهو من بطولة الممثل الإنجليزي مايكل كين الحاصل على الأوسكار مرتين كأحسن ممثل مساعد عن فيلمي “هانا وأخواتها” (1987) و”قواعد منزل عصير التفاح” (2000)، ويشاركه الممثل الأمريكي هارڤي كايتل الذي من أهم أدواره فيلم “البيانو” للمخرجة الأسترالية چين كامپيون (1993).

والمعروف أن سورنتينو حصل على أوسكار أفضل فيلم أجنبي في 2014 عن فيلمه الفلسفي الرائع “الجمال العظيم” الذي تناول فيه فكرة البحث الدائم للمثقف عن حقيقة الحياة والسبب وراء وجوده.  فالمثقف يعاني أشد المعاناة؛ إنه يؤلف كتباً أو روايات، يحضر حفلات صاخبة، يجلس مع أصدقائه المثقفين ليجد المهاترات وربما التفاهات، إلى أن تقترب النهاية فيشعر أنه لا يفهم شيئاً لمعنى الحياة وأن حياته مجرد خدعة، وهو ما سبق للممثل الفرنسي چان جابان أن قاله يوماً “علمت كل شيئ خلال مشوار حياتي، لكني في النهاية اكتشفت أني لا أعلم شيئاً”.

رؤية فلسفية

في فيلمه الجديد يستمر سورنتينو في عرض فلسفته حول الثقافة والفنون.  وهو تكملة لما يريد أن يقوله عن رؤيته لقرب المثقف والمبدع والفنان من النهاية.  وتدور الأحداث في منتجع صحّي في جبال الألب بسويسرا، حيث يلتقي الناس الأغنياء لكي يشعروا بالطمأنينة وصفاء النفس.  فالشخصيات عديدة، تشعر كلها بالألم، يقودها المايسترو سورنتينو باقتدار كأنهم أعضاء فرقته.

فهناك شخصية مايكل كين الذي ناهز الثمانين من العمر، وهو مؤلف موسيقي متميز كان يعزف ويقود أوركسترا، متزوج من مغنية أوبرالية كانت هي ملهمته. ثم نجد شخصية هارڤي كايتل الذي أخرج ما يقرب من 20 فيلماً ويحاول أن يسترجع مجده مرة أخرى من خلال سيناريو فيلم جديد.  هناك أيضاً الممثل الشاب الذي يشعر أنه لم يعُد له فائدة لأن جمهور المشاهدين لا يرونه إلا في عمل واحد فقط قام فيه بدور إنسان آلي (روبوت)، بينما لم يروا باقي أعماله الإنسانية الحقيقية. ونجد كذلك لاعب التنس الأشول الذي كان أسطورة تنسية رهيبة، ولكنه أصبح سميناً جداً ويحاول أن يفقد جزءاً من وزنه.

ثم هناك إبنة مايكل كين، التي تؤدي دورها الجميلة ريتشيل وايز، والتي تشعر بالحزن لفراق زوجها الذي فضل امرأة أخرى عليها.

وكما في فيلمه السابق “الجمال العظيم” بدأ سورنتينو فيلم “شباب” بفتاة رقيقة تغني على ألحان مترابطة جميلة. وبحركة دوران كاملة بزاوية 360 درجة لفّت عدسة الكاميرا حول ذلك الملاك الذي يغني ويلهم الأجساد الحزينة حولها. وقد تكرر ذلك المشهد على مدار الفيلم حيث أراد سورنتينو إظهار دور الموسيقى الحالمة في تهدئة النفوس بعد كل صراعات الحياة.

والفيلم يعكس فلسفة عميقة عن معنى الإبداع، وكيف أن قُرب النهاية أحياناً ما تجعل المثقف الذي يبحث عن الحقيقة المطلقة يهاب الموت.  كما يتناول الفيلم كيف أن المبدع قد يُنتج أحياناً أعمالاُ لا يرضى عنها من أجل المال فقط، وأنه أحياناً أخرى، قد يصل المبدع إلى حالة سكون بعد أن يكون قد قال كل ما لديه ليبحث عن معنى لوجوده.

معنى الجمال

أراد سورنتينو أيضاً إظهار معنى الجمال الخارجي والجمال الباطني الداخلي. ففي مشاهد ساكنة نجده يتناول لوحات لأجساد عارية مختلفة ساكنة؛ فيها الأجساد المترهلة البالية والأجساد الشابة الممشوقة. هنا أراد إظهار حقيقة الآلام التي تمر بها كل تلك الأجساد؛ فسواء كنت شاباً ذا حيوية أو شيخاً فقدت قدرة السيطرة على جسدك، فأنت ما زلت جميلاً من الداخل، ولكنك تشعر بالتعاسة لأنك تحاول فهم الحياة، لكنك لا تستطيع.

كما أظهر المخرج معنى الأسرة المفككة غير المترابطة التي نجد فيها الأب والأم والأولاد يفعلون ما يشاءون بدون مشاركة، وذلك من خلال شخصية الإبنة ريتشيل وايز. ففي مشهد رائع بدون قطع مع تثبيت الكاميرا من أعلى على وجه الإبنة، ألقت البطلة مونولوجاً مطولاً عن هذا المعنى، وكيف أن مايكل كين حين اختار الموسيقى وأعطي كل وقته لإبداعه في هذا الفن، فقد معنى الجلوس مع أولاده ومناقشة مشاكلهم، حتى أنه في يوم من الأيام تقبل فكرة تجربة حب رجل آخر على حب زوجته مغنية الأوبرا. وقد أظهرت ريتشيل وايز في هذا المشهد كل الأحاسيس الجياشة باقتدار، حيث كان صعباً عليها إظهار كل تلك المشاعر في لقطة واحدة متصلة. ورغم ذلك فالإبنة ترعى والدها العجوز، وهي تعتبر مديرة أعماله، حتى أنها تنام بجانبه في غرفته بالمنتجع.

ونرجع إلى شخصية الممثل الشاب الذي يريد أن يكون مجدّداً في فنه، والذي لا يراه الناس إلا كمؤدي لدور فكاهي واحد. هو يريد التمرد. يريد أن يكون مبدعاً في أعماله الجديدة. وهكذا فهو يرى الجانب السلبي فقط في أدائه. ولكنه في يوم من الأيام تستوقفه بنت صغيرة لتقول له أنها شاهدت فيلمه الإنساني الذي يحكي قصة جميلة ألهمتها. وهنا تظهر رؤية سورنتينو الفلسفية حول صراع الممثل الذي يرغب في أداء أدوار ذات قيمة مع ذاته، ولكنه يضطر معظم الوقت لتمثيل أفلام تجارية لا قيمة لها من أجل المال. وهي نفس فكرة فيلم “رجل الطيور” Birdman الحاصل على أوسكار أفضل فيلم هذا العام من بطولة مايكل كيتون. إنها قضية الموازنة بين المال والرسالة السامية لكل مبدع. 

المخرج سورنتينو مع أبطال فيلمه على سلم قصر مهرجان كان

استطاع سورنتينو أن يجمع بين الألم والفكاهة في نفس الوقت. بين النكتة والضحكة والتعاسة والمعاناة. فالصديقان مايكل كين وهارڤي كايتلكانا يتراهنان على ثنائي عجوز في المنتجع؛ كل يوم يأتيان إلى العشاء، يجلسان ولا يتكلمان. وذات يوم يذهب الثنائي معاً إلى الغابة المجاورة للمنتجع، فيراهما كين وكايتل يمارسان الجنس بنشوة رهيبة. هنا أراد المخرج إظهار أنه أحياناً قد تكون لغة الجسد هي لغة التفاهم الوحيدة بين روحين لا يعلمان المعنى الحقيقي للحب. كما جمع الفيلم بين فكرتي اليأس والأمل. فاليأس في أوقات كثيرة قد يؤدي للإنتحار عندما يفقد الإنسان أمله في كل شيء حوله. ولكنه أضاف رسالة الأمل في أنك ما دمت حياً تتنفس فالحياة جميلة مع النشاط والإبداع، مع التأكيد على فلسفة الحب الحقيقية من خلال مفهوم المشاركة، التي هي أروع شيء يجد فيه الإنسان الخلاص في النهاية.

محنة الإبداع

وقد ظهرت الممثلة الأمريكية المتميزة چين فوندا، التي قارب عمرها 76 عاماً، في مشهد واحد، حيث تلعب دور ممثلة صديقة المخرج هارڤي كايتل، وملهمته، فقد مثلت معه 11 فيلماً وكان يريدها أن تظهر في فيلمه الجديد. وفي حوار متميز لكاتب السيناريو، وهو نفسه مخرج الفيلم سورنتينو، استطاعت فوندا أن تلقي محاضرة حول كيف أن معظم المخرجين يفقدون ما يريدون أن يقولوه بعد أفلامهم العديدة، وأنه في النهاية تكون أفلامهم الأخيرة عديمة الرؤية أو غير فلسفية أو تعالج مواضيع تافهة. وتنقسم الردود على هذا الرأي، حيث أن هناك مخرجين عظاما ما زالوا ينتجون أفلاماً ذات قيمة، مثل مارتن سكورسيزي ووودي آلان وغيرهما.

وربما رأى الأخوان كوين، رئيسا لجنة تحكيم المسابقة الرسمية للمهرجان، أن فيلم “شباب” لا يستطيع أن يستوعبه كثير من المشاهدين، ففضّلا تقسيم جوائز اللجنة بين الأفلام الإنسانية الأخرى.  ولذلك منحت اللجنة السعفة الذهبية لفيلم “ديپان” Dheepan للفرنسي چاك أوديار، وهو الفيلم الذي يعطي الأمل في الحياة والإنسانية والبحث عن الحرية عندما تشتد الصعاب ويفقد الإنسان معنى الحياة في موطنه الذي وُلد فيه، وكيف أن صراعات الحياة الدموية قد تفرق بين الأحباء حتى ولو كنت تعيش في جنة ما.  ولكن عندما يحب الإنسان بعاطفة جياشة، يمكنه صنع جنته مع من يحب في أي مكان. 

أخيرا، كانت الأفلام متنوعة في “كان” مع تجربتي الأولي في حضور هذا المهرجان، وتعرفت في الأقسام المختلفة على شباب مثقف يؤمن بفلسفة الإبداع والثقافة والتنوير، حيث حضرت بعض الأفلام في قسم “الأفلام القصيرة”، ووجدت أفلاماً كثيرة تناقش مواضيع إنسانية أجمل.  واستمر الأمل في أن القادم أفضل وأن رسالة السينما في خدمة الإنسانية هي الأسمى في كل شيء.

Visited 87 times, 1 visit(s) today