شبح البراءة العالق في “بحيرة فالكون”

في فيلمها الروائي الأول “بحيرة فالكون” Falcon Lake أرادت الممثلة والمخرجة الكندية شارلوت لوبون أن تحكي قصة رومانسية عن الأشباح، مهما بدا ذلك غريبًا للوهلة الأولى. ففي حوارٍ قصير أجرته في بمهرجان كان 2022، بعد عرض الفيلم في تظاهرة “نصف شهر المخرجين، تحدثت عن فقدها لوالدها في سنٍ مبكرة، وكيف وجدت راحة شاعرية في فكرة “الشبح”، ما يجعل الموت غير نهائي وأقل قسوة. هل هذا حقيقي؟ هل يخفف الوجود الافتراضي الميتافيزيقي من لوعة الفقد؟

تدور أحداث الفيلم حول زيارة باستيان الفرنسي ذي الثلاثة عشر عامًا وأسرته لكوخ يطل على بحيرة فالكون الكندية، حيث سيقضون إجازة الصيف. تستضيفهم صاحبة المنزل وصديقة الأسرة، وابنتها كلوي التي تبلغ السادسة عشرة من عمرها. باستيان لم يعد طفلًا بالتأكيد، لكنه يبدو كذلك مقارنةً بكلوي التي تتصرف كشابة ناضجة ذات تجارب. وجود باستيان اللطيف، الدمث يمنحها حرية العودة إلى منطقة الطفولة للمرح البريء بين الحين والآخر، وفي الوقت نفسه يغريها بتجربة سلطتها الأنثوية عليه ما أن تلاحظ انجذابه الفوري إليها. كرنفال مناظر البحيرة المتراوحة بين الذهبي والفضي، حسب موقع الشمس في السماء، والغابات المحيطة بها يشكل بيئة مثالية لاحتضان كل ما هو فطري وغريزي؛ كالحب والتفكير في الموت على حدٍ سواء.

في اللقطة الأولى من الفيلم نرى مشهدًا ساحرًا ـ مرهبًا بعض الشيء ـ للبحيرة وقت غروب الشمس. في مرمى البصر شجرة وحيدة جافة كسارية مرتفعة تشير إلى السماء، ثم تتحرك الكاميرا لأسفل قليلًا لنكتشف شيئًا طافيًا على وجه المياه. هل هي جثة؟ قبل أن نجد إجابة يتحرك ذلك الشيء لنكتشف أنه رأس فتاة ـ كلوي تحديدًا ـ كانت تكتم أنفاسها أسفل المياه قبل أن تسبح مبتعدة. هكذا تُقدم إلينا، كهمزة وصل بين الحياة والموت، وربما الجسارة والتهور.

اللقاء الأول بينها وبين باستيان، يحدث ليلًا في غرفة نومٍ مشتركة، حين يشعر بحركة أثناء نومه فيفتح عينيه عرضًا ليراها في صورة سلويت مظلم بشعرٍ هائج، تؤطره نافذة يضيئها البرق والأمطار المنهمرة بالخارج.

تقديم قوطي يليق بإحدى شخصيات إدجار آلان بو التي تدفن حيةً على سبيل الخطأ، ويؤكد على أبعادها المربكة بالنسبة للفتى الغر. على شاطئ البحيرة تحاول جذبه للسباحة معها ويمتنع هو لخوف قديم من تجربة أوشك فيها على الغرق. حينئذٍ تلقي عليه قصة “الشبح”، عن الولد الذي غرق في البحيرة وبقي هناك ليجر أقدام السابحين، وتخبره أن الغرق قد يكون ممتعًا كأنها تتحدث عن خبرة سابقة! هل يرمز الخوض في مياه البحيرة إلى النضج الذي سبقته إليه؟

 تكشف كلوي عن هوسٍ بالموت قد يكون استعراضيًا أو ادعاءً للغرابة؛ تجعله يلتقط لها صورًا وهي تتظاهر بأنها جثة ملقاة على الطريق، ويسوؤها أنها “لا تبدو ميتة بما يكفي”. تنكشف هشاشتها حين يتبادلان ـ في إحدى ألعابهما العديدة ـ سرد أعمق مخاوفهما، فتصارحه أنها تخشى عدم قدرتها على الاندماج في العالم والانتهاء وحيدة، رغم الثقة التي تتصرف بها طوال الوقت وتصل أحيانًا إلى اللا مبالاة. قد يفسر ذلك تلهفها على اصطناع الموت والخروج الآمن من التحدي الذي تمثله الحياة. المسافة بينها وبين سذاجة باستيان تظهر عندما يصرح بأن أعظم مخاوفه هي أن يفاجئه والداه بينما يمارس العادة السرية. ترى هي ذلك طفوليًا ومثيرًا للشفقة بالطبع، وتتبرع بأداء دور المرشد له في عالم الشباب الذي تنتمي إليه. يحدث ذلك بإيقاع هادئ يناسب جو الإجازات الكسول والجولات الطويلة، ويحتفل بالتفاصيل الصغيرة التي نراها بعيني باستيان الخجولتين، لتعبر عن الافتتان الأول بموضوع حب المراهقة.

متحدثًا عن التقنية المختارة للتصوير قال كريستوف باندل مدير التصوير:كانت الفكرة هي صياغة “منظور محايد”، يدعم الشعور بالحميمية والواقعية مع التدخل بأقل قدر ممكن في الواقع الذي يعيشه الممثلون. بالنسبة لنا، كان تصوير فيلم بجوار بحيرة في الصيف الكندي يعني التصوير بعدسة 16 ملم فائقة.. لقد وضعنا ثقتنا في الوسط الغني بألوانه وتراكيبه ما سمح لنا بمقاربة الحد الأدنى واستخدام الإضاءة الطبيعية قدر الإمكان”.

لقد نجح بالتأكيد في إصابة الهدف، فشعرنا بأننا نصاحب البطلين ونتذكر معهما ذلك الشغف الحار الذي يرافق حب الاستكشاف، ورأينا مشاهد خارجية غالبًا، يمكن الإحساس بملمسها وشم روائحها وتذوقها دون تدخل من مؤثراتٍ مصنوعة.اللعب في المنطقة الآمنة.

تمارس كلوي مع باستيان وعليه، الكثير من الألعاب الخطرة التي لا يمكن إدانتها فيها صراحةً بتعمد الإغواء، إلى أن تتحداه للنزول إلى المياه مقابل أن تكشف له عن جسدها وهي واقفة على الشاطئ. المكافأة تستحق مكافحة الخوف في نظره، يهبط تدريجيًا إلى المياه التي تكاد تغطي رأسه حين تتركه فجأةً قبل الوفاء بوعدها وتنصرف لتتحدث إلى صديق أكبر سنًا. حتى المخاطرة لا تضمن الوصول.

لا تملك إلا التعاطف العميق مع الفتى، ذي الوجه البريء والنحافة المفرطة والارتباك، خليط مصمم للمعاناة شأن أغلب المراهقين. والحقيقة أن أداء كل من جوزيف إنجل وسارة مونبيتي كمراهقين كان نموذجًا بديعًا للبساطة والطبيعية والصدق.

لم يجعلنا أيٌ مما سبق مستعدين لنهاية مأساوية. يمكن تصديقها أو تبريرها بعد الكثير من الرسائل التمهيدية، لكنك لا تزال تتساءل بغصة: لماذا؟!  

تتخفى كلوي في زي شبح ـ ملاءة بيضاء ـ وتفاجئ باستيان وهو يجلس على شاطئ البحيرة لتصيبه بالرعب، وفي مرة أخرى تجعله هو يرتدي الزي نفسه لتصوره كشبح إلى جوار الشجرة العارية. ذلك الهاجس يلاحقنا كلما نسيناه، بالصورة وعبر الحوار، ونعرف السبب متأخرًا.

في سهرة تجمع كلوي بأصدقائها حول النار في الخلاء يراقبها باستيان عن بعد والشرر يتطاير حرفيًا، يراها تختفي في الظلام مع شابٍ يعرف أنه معجب بها ثم يراهما معًا في مياه البحيرة. مع اقتراب الفجر يقرر الحاضرون جميعًا السباحة معًا حتى الضفة الأخرى، ويهبط باستيان معهم، متجاهلًا خوفه القهري من المياه والعتمة التي تخيم عليها. رغبته في اتباعها والاندماج في ركب الناضجين، الجديرين بالحب تفوقت على غريزة البقاء لديه، من فرط اليأس أم الأمل؟ بدلًا من النجاح في العبور إلى شاطئ “الكبار” أو الانسحاب بخسارة مؤقتة انقطعت رحلة باستيان في العالم مبكرًا بقسوة يصعب تصديقها، ليصير هو الشبح الذي تنبأت كلوي بحضوره في بداية الفيلم!

يقف شبح باستيان العالق في البرزخ بين الطفولة والشباب خلف كلوي، يناديها باسمها بينما هي تجلس على الرصيف الخشبي، لتنتهي اللقطة قبل أن يستدير رأسها كاملًا وتتصارع الأسئلة مع الإحساس بالفاجعة غير الضرورية؛ هل شعرت بوجوده؟ هل سيلازمها كقرينٍ كما تلازمنا طفولتنا إلى الأبد؟ وهل سيحبها هو إلى الأبد؟                

Visited 6 times, 1 visit(s) today