سينما نوفو: السينما كأداة للمقاومة والتمرد (2 من 4)

لقطة من فيلم "ساعات الأفران" لقطة من فيلم "ساعات الأفران"

4- أنا أصنع الثورة، إذن أنا موجود

بدأت سينما أميركا اللاتينية بدايات خجولة وجراء مبادرات مختلفة في عدة دول، تراوحت ما بين الفيلم التسجيلي، ممثًلا في مدرسة “سانتا” Santaفي الأرجنتين، وظهور “سينما نوفو” في البرازيل والتيار الجديد للسينما في هافانا. ففي الأرجنتين والبرازيل كان تصاعد وانحسار صناعة السينما يعتمدان على الديمقراطية الهشة في هذين البلدين، أما في كوبا فقد أصبحت السينما جزءًا من الثورة الكوبية، وفي شيلي ارتبطت بالحركة الوطنية التي جاءت بسلفادور الليندي SalvadorAllendeإلى السلطة، وبعد عشر سنوات انضمت نيكاراجوا والسلفادور مع توهج فكرة السينما المقاتلة أو الثورية التي ظهرت في السيتينيات، أي في أوج ذيوع شهرة تشي جيفاراChe Guevara  ([i]).

كان وراء فكرة السينما الثالثة اثنان من السينمائيين من الأرجنتين هما فيرناندو سولاناس Fernando Solanasوأوكتافيو جتينو Octavio Getino. وهما اللذان نشرا ما اعتبر “مانيفستو” أو “بيان السينما الثالثة” في 1969 تحت عنوان “نحو سينما ثالثة” Para Cinema Terzo. وقد صدروه بعبارة مقتبسة من فرانز فانون Frantz Fanonتقول “يجب أن نناقش، يجب أن نبتكر”. وقد رفضا في بيانهما كلًا من السينما الاستهلاكية الأمريكية وسينما الذات الأوروبية التي تقوم على التعبير الذاتي، وطرحا في المقابل سينما جديدة تقوم على تصوير تجارب الوعي الجمعي المشترك، وتعرية الحقائق والتحريض على رفض الواقع والسعي إلى تغييره([ii]). إنها سينما موجهة إلى كافة طوائف الشعب وطبقاته، منهم وإليهم، لها رسالة وهدف اجتماعي تسعى لتحقيقه. وباختصار إنها سينما “تحريضية” في مقابل السينما “الاستهلاكية الأمريكية” و”الذاتية الأوروبية”.

وقد دعا بيان “السينما الثالثة” أيضًا إلى ضرورة خلق نظام جديد لتوزيع الأفلام وعرضها، يتخلص من تعقيد أساليب التوزيع التجارية، ويعتمد على المبادرات الجماعية وعلى البحث عن وسائل جديدة للعرض في الكنائس والمصانع والساحات الشعبية في القرى، وإشراك الجمهور في المخاطرة بحماية الأفلام التي يتم تهريبها خارج نظام الرقابة بإخراجها من دائرة العرض التقليدية([iii]).

 لقد رأى أصحاب السينما الثالثة أن السينما أداة هامة من أدوات الاتصال الجماهيري، وهي منذ نشأتها مرتبطة بالإيديولوجيا، وبالتالي فهي أداة لتمريرها، هذه الإيديولوجيا هي أيديولوجية صاحب رأس المال: “إن السينما صناعة، لكنها تختلف عن الصناعات الأخرى في أنها ابتكرت لتوليد أيديولوجيات بعينها ورؤية خاصة إلى العالم”)[iv](.   

السينما الثالثة أداة من أدوات النضال وآلة حربية موجهة صوب السلطة. وهي، من حيث الوظيفة والهدف، يتشابه دورها مع حرب العصابات. لذا أطلق عليها بالفعل سينما حرب العصابات a guerilla cinema”إننا في هذه الحرب الطويلة، وبآلة التصوير بوصفها بندقيتنا، ننخرط بالفعل في نشاط حرب عصابات”([v])

.ولأن أهدافها كلها عملية، لم يدخل مخرجوا السينما الجديدة في مناقشات وجدال حول المسائل النظرية المتعلقة بالصورة السينمائية كالمزايا النسبية للقطات القريبة مقابل البعيدة، وما إذا كان مفهوم السينما يكمن في الكاميرا أو في المونتاج: “إن زماننا ليس زمان الفروض النظرية، وليس بالأحرى زمن الأطروحات، إنه زمن أعمال قيد الإنجاز..أعمال غير مصقولة، غير منظمة، وعنيفة، مصنوعة بآلة التصوير في يد وبحجر في اليد الأخرى”([vi]). ومن هذا المنطلق، فقد عمد السينمائيون البرازيليون (وبالأخص في ريو دي جانيرو، باهيا، وساو باولو) إلى ترشيد المسائل المتعلقة بالإنفاق، فحملوا كاميراتهم وخرجوا إلى الشوارع والريف والشواطئ بحثا عن الشعب البرازيلي؛ الفلاحين والعمال والصيادين وسكان الأحياء الفقيرة([vii]).

أما فيما يتعلق بالمسائل الإنتاجية، فقد رفض مخرجو السينما الثورية التعامل مع شركات الإنتاج المعروفة آنذاك، وحاولوا تطوير صيغة للإنتاج أكثر ملائمة لطبيعة الأهداف التي يتبنوها، فلجأوا لبعض الحيل، ومنها إلغاء الحدود الفاصلة بين الروائي والتسجيلي “إن السينما المعروفة باسم السينما التسجيلية ربما تكون الأساس البارز لصنع الفيلم الثوري”([viii]). كما بحثوا عن قنوات جديدة للتوزيع مثل إجراء العروض داخل المنازل والجامعات والمراكز الثقافية، وتهريب نسخ سرية لبلدان أخرى من العالم الثالث.

أوكتافيو جتينو

كما ناقش أصحاب السينما الثورية بعض العقبات السيكولوجية التي من المحتمل أن يتعرض لها صانع الفيلم الثوري، منها تجاهل وسائل الإعلام له. أو كما يقول جودار “إنه، أي مخرج الأفلام الثوري، سوف يكف عن أن يكون بطل دراجات، ويصبح راكب دراجة مجهولًا، وخائضًا لحرب قاسية وممتدة على الطريقة الفيتنامية. ولكنه سوف يكتشف وجود مشاهدين واعين، ينظرون لعمله كشيء يتعلق بوجودهم الخاص، وأنهم مستعدون للدفاع عنه بطريقة لم تحدث من قبل مع أي بطل دراجات عالمي من قبل”([ix]).

كان فيلم ساعة الجحيم ([x])La hora de los hornos (1969)لأوكتافيو جيتينو وفرناندو سولاناس مثالًا يسبق زمنيًا البيان النظري، ويجسد عمليًا مبادئ السينما الثورية. ويبدو أن تجربة إنتاج فيلم ذو مضمون ثوري بالجهود الذاتية، كانت دافعًا لهما للتنظير لها، بغية تعميمها ومنحها عمقًا نظريًا. ينتمي الفيلم إلى السينما الوثائقية، ويبدأ بعبارة تنويهيه، مكتوبة على الشاشة، تقول “إن هذا الفيلم يتحدث عن الاستعمار الجديد، والقهر في الأرجنتين، وباقي بلدان أمريكا اللاتينية التي لم تتحرر حتى الآن”، ثم يهدي المخرجان الفيلم “لتشي جيفارا وكل من كافحوا من أجل حرية أمريكا الجنوبية”. ويبدأ الفيلم، مصحوبا بالموسيقى والتعليق الصوتي والكتابي، في سرد مظاهر الاستعمار الجديد المتمثل في “الرأسمالية”، والتناقض الصارخ بين الغنى والفقر في الأرجنتين، محرضًا بصورة مباشرة الشعب على التمرد والثورة. أما مشهد النهاية فهو مشهد طويل لجيفارا وهو يرقد في تابوته بعد أن اغتالته القوات البوليفية بدعم من المخابرات الأمريكية.

ومع ذلك فليست السينما الثالثة تعبيرًا “جغرافيًا” أي أنها ليست مرادفا لسينما العالم الثالث، فقد توجد أفلام السينما الأولى في دول تنتمي إلى العالم الثالث، وقد توجد أفلام تنتمي للسينما الثالثة في العالم الأول.([xi])وقد جاء البيان النظري للسينما الثالثة معبرًا عن هذا المعنى “هل يمكن أن توجد سينما تقوم بدور أشبه بدور حرب العصابات على نطاق عالمي؟- لم لا، أليس حقيقيًا أن نوعًا سينمائيًا عالميًا جديدًا ينشأ من خلال نضالات العالم الثالث؛ ومن خلال منظمة تضامن شعوب إفريقيا وآسيا وأمريكا الللاتينية، والطلائع الثورية في المجتمعات الاستهلاكية”([xii]).

4- فكرة في العقل وكاميرا في اليد

    على الرغم من أن بيان السينما الثالثة قد ظهر في الأرجنتين عام 1969، إلا أن هذا البيان كان لاحقًا على الإنتاج الفعلي للتيار الذي بدأ تقريبا مع نهايات الخمسينيات من القرن العشرين. هذا بالإضافة إلى أن روح التيار نفسه كانت منتشرة في كافة بلدان أمريكا اللاتينية، لأن الظروف التاريخية والاجتماعية- الاستعمار والتسلط والفقر والتخلف- لتلك البلدان كانت متشابهة على نحو كبير. لذا لم يكن تيار السينما الثالثة تيارًا مدرسيًا منظمًا له رواده ورموزه، بقدر ما كان اتجاهًا عامًا تسري روحه في السينما الحرة لأمريكا اللاتينية، وكما يقول جلاوبر روشا “فالسينما الجديدة ظاهرة لشعوب جديدة في كل مكان وليست مقتصرة على دولة بعينها”([xiii]).

كانت سينما نوفو من أشهر تيارات السينما الثالثة. ويعد مقال كارلوس دوجوس CarlosDiegues“سينما نوفو” Cinema Novo– الذي نشر لأول مرة في دورية “ميمنتو” Moumento(مايو 1962)، وهي دورية اتحاد الطلبة الوطنيين– واحد من أولى صياغات المشروع الأساسي للسينما الثالثة. ويعكس المقال حماس الشباب لهذا التيار، ووعيهم بالتاريخ الطويل للسينما البرازيلية، وصعوبة الارتكان إلى سوق تحكمها المصالح الأجنبية. كما عبر دوجوس، بصورة غير مباشرة، عن تبني الحركة لفكرة سياسات المؤلف وتأثير الواقعية الايطالية الجديدة، حينما أشار إلى أن صناع السينما الجديدة، قد تحولوا بكاميراتهم إلى الشارع، لتصوير الأغلبية المهمشة من الشعب البرازيلي في المحيط الذي يعيشون فيه([xiv]).

لم تكن سينما نوفو ذات طابع مدرسي، كما هو الحال في الواقعية الجديدة، بل هي في الواقع سينما حرة قاعدتها الأساسية هي التوجه النقدي والتعبير عن الواقع الإنساني بكل مفرداته. إنها أشبه بالسينما التجريبية التي لا تقيدها قواعد أو تقاليد مدرسية صارمة. ومن هذا المنطلق قامت سينما نوفو بإحداث قطيعة صارمة مع الأنماط السينمائية السائدة، التي كانت في الغالب متأثرة بالنمط الهوليوودي، وبدأت توجه عدسة الكاميرا صوب الواقع بآلامه وإحباطاته.

ليس لسينما نوفو تاريخ ولدت فيه أو مانفيستو تاريخي يعلن بدايتها. لم يبدعها أحد على وجه التحديد. بالإضافة إلى أنها لا تعد امتدادًا لتيارات الحداثة، بل هي جزء من عملية تحول كبرى عصفت بالمجتمع البرازيلي، كما بأمريكا اللاتينية، ولم يكن من الغريب أن تطال السينما كذلك([xv]). وقد استطاعت “سينما نوفو” أن تنقل التعبير عن الواقع الفعلي للبرازيل من خلال موضوعات سينمائية تقليدية إلى لغة سينمائية قومية، وقد كان هذا التحول مواكبًا لتحولات أخرى موازية  في العديد من الأنماط التعبيرية الأخرى، كالرواية، المسرح، الشعر، الفنون التشكيلية، والموسيقى: “لقد ولد وضع تاريخي جديد وإنسان جديد، في عملية النضال المعادي للرأسمالية. تطلب موقفا ثوريًا جديدًا من جانب صانعي الأفلام في العالم. والسؤال المطروح الآن يتعلق بإمكانية قيام سينما نضالية سابقة زمنيًا على قيام الثورة، وعما إذا كانت هذه السينما ضرورية أم لا كي تساهم في إمكانية الثورة”([xvi]).

صارت البرازيل وشعبها الشغل الشاغل للمجموعة الجديدة من صناع السينما البرازيلية. كان هدفهم هو القيام بدراسة عميقة للعلاقات الاجتماعية في كل مدينة، كوسيلة لتحليل البنية الاجتماعية والثقافية للدولة. فإذا كان الشعب هو محور العمل السينمائي ومادته، فإن الخطوة الأولى التي لا يمكن تجاوزها هي معرفة كيف يفكر هذا الشعب، وما هي معتقداته والأشياء التي تؤثر فيه، وبالتالي يمكن السيطرة عليه من خلالها. وإذا كانت هذه الخطوة ضرورية للمستعمر أو المستبد كي يتمكن من إحكام قبضته على الشعب، فإنها ضرورية أيضًا لأي عمل مضاد يجعل من تحرير الشعب هدفا له. وقد قال أحد نقاد ساو باولو “نحن لا نريد أن نصنع أفلاما، نحن نريد أن نسمع صوت الإنسان”. ويتعين أن يكون الصوت البشري مسموعًا في شمال شرقي البلاد وفي جنوبها، وفي الأحياء الفقيرة في ريو دي جانيرو، وفي مصانع ساو باولو، وعلى شواطئ الصيادين في ولاية باهيا، والخلاصة في كل ما هو أصيل وواقعي الطابع”)[xvii](.

فرناندو سولاناس

كان فيلم حياة قاحلة([xviii])Vidas Secas (1963) ،الفيلم الذي أخرجه بيريرا دوسانتوس Pereira dos Santos عن رواية لجراسيليانو راموس G. Ramos،من أبرز الأعمال التي أنتجت في تلك الفترة. يحكي الفيلم عن الأوضاع المتردية في المناطق الريفية شمال شرقي البرازيل. وهي عبارة عن حزام للفقر- سيتردد أجواؤه في العديد من أعمال روشا. إن البطل- وهو مهاجر من مناطق الشمال الشرقي التي تعرف بالجفاف- هو إنسان ضعيف، خجول، قبيح الشكل، فقير وجائع. إنه ليس جبانا، لكن خوفه من السلطة السياسية المجهولة والغامضة، جعله يعتبر حالة الاستكانة وعدم القدرة على المواجهة فضيلة أخلاقية أو نوع من الشرف. لقد ركز دوسانتوس في هذا الفيلم على الجوانب الإنسانية الرقيقة التي يمكن للإنسان أن يحس بها في كل المجتمعات. ورغم غنى القضايا الاجتماعية التي يطرحها، لم يعرف هذا العمل النجاح أمام الجمهور([xix]).

وكإجراء طبيعي للسلطة الديكتاتورية، التي لا تتهاون مع كل ما من شأنه أن يهدد كيانها، حتى لو كان عملًا فنيًا، قامت بنفي العديد من مخرجي سينما نوفو، ومعهم بعض الفنانين من ميادين فنية أخرى، خارج البرازيل. ومع ذلك ظلت سينما نوفو هي التيار الأكثر تأثيرًا في الوسط السينمائي البرازيلي، حتى انتهت بوفاة آخر روادها، جلاوبر روشا.


هوامش

([i])عبيدو، محمد: السينما في أمريكا اللاتينية، دمشق: منشورات وزارة الثقافة، 2009، 5.

)حياة في السينما، 79 (بتصرف).[ii](

[iii])حياة في السينما، 79.

[iv])“نحو سينما ثالثة”، 101.

([v]“نحو سينما ثالثة”، 112.

([vi])“نحو سينما ثالثة”، 111. 

([vii])Carlos Diegues. “Cinema Novo.” Trans. Randal Johnson and Robert Stam. Brazilian Cinema. Eds. Johnson, Randal and  Stam, Robert. New York: Columbia University Press, 1995. 65.

 ([viii])“نحو سينما ثالثة”، 108.

([ix])“نحو سينما ثالثة”، 111.

([x])  Octavio Getino and Fernando Solanas, Directors,  La hora de los hornosGrupo Cine Liberacion, 1968.

– ويمكن مشاهدة الفيلم، مصحوبا بالترجمة الإنجليزية، من خلال هذا الرابط:   http://video.google.com/videoplay?docid=2325072027369242738#    

([xi])حياة في السينما، 80 (بتصرف).

[xii])“نحو سينما ثالثة”، 117.

([xiii])Glauber Rocha.”An esthetic of Hunger.” Trans. Randal Johnson and Robert Stam. Brazilian Cinema. 68.

([xiv])Carlos Diegues. “Cinema Novo.”, 64.

([xv])Carlos Diegues. “Cinema Novo.”, 64.

[xvi])(“نحو سينما ثالثة”، 91.

([xvii])Carlos Diegues. “Cinema Novo.”, 66.

([xviii]) Nelson Pereira dos Santos, Director, Vidas SecasLuiz Carlos Barreto Produções nematográficas, 1963.

ويمكن مشاهدة الفيلم أو تحميله (وهو في عشرة مقاطع)، مصحوبا بالترجمة الإنجليزية، من خلال هذا الرابط:

[xix])  السينما في أمريكا اللاتينية،11(بتصرف).


Visited 42 times, 1 visit(s) today