“سكوت حنصوّر” .. تحية للسينما وتحية للحب

لقطة من فيلم "سكوت حنصور" لقطة من فيلم "سكوت حنصور"
Print Friendly, PDF & Email

لا يحظى هذا الفيلم فى مسيرة يوسف شاهين السينمائية الطويلة بكثير من الإلتفات، بل لعل الفتور هو الوصف الأدق لردود الفعل النقدية على فيلم “سكوت هنصوّر” الذى أنتج فى العام 2001، وقامت ببطولته المطربة التونسية لطيفة.

ربما يفسر هذا الموقف أن الفيلم جاء بعد ثلاثة أفلام متتالية أخرجها شاهين، وأثارت جدلا كبيرا، وهى من الأقدم الى الأحدث :”المهاجر” الذى منع بدعوى استلهامه لقصة يوسف، والذى شغلت جلسات محاكمته الصحف ووسائل الإعلام لفترة معتبرة، ثم فيلم “المصير” الذى يمكن اعتباره تحذيرا مما سيحدث لو تركت الساحة لمنتقدى فيلم “المهاجر”، وقد عرض “المصير” فى مسابقة مهرجان كان، فى نفس الدورة التى حصل فيها شاهين على جائزة تذكارية كبرى من المهرجان.

أما الفيلم الأسبق مباشرة لفيلم “سكوت حنصوّر” فهو فيلم ” الآخر”، وهو أيضا استطراد لفكرة العلاقة مع الآخر، ولكن من خلال قصة حب، وقد ظهر فى الفيلم فى دوره الحقيقى المفكر الفلسطينى الأمريكى المعروف إدوارد سعيد.

نحن إذن أمام ثلاثة أفلام تناقش أفكارا هامة وخطيرة، ولكن أحدا لم يتوقف كثيرا عن شكل السرد التقليدى الذى يقدم الحدوتة فى الأفلام الثلاثة، وكان شاهين قد تمرد الى حد ما على هذا الشكل، سواء وهو يقدم ما أسميته بثلاثية الحساب مع الآخر فى أفلام “الإختيار” و”العصفور” و” عودة الابن الضال”، أو فى ثلاثية الحساب مع الذات فى أفلام “اسكندرية ليه” و”حدوتة مصرية” و”اسكندرية كمان وكمان”، وكلها أعمال من أفضل أفلامه، وتسبق فيلم “سكوت حنصور”.

يمكن القول إن هذه الأفلام الستة تصف “حالات” أكثر مما تحكى “حواديت” تقليدية لها بداية ووسط ونهاية، وبعضها يتعمد الإلتباس السردى مثل فيلم “الإختيار”،  هناك فى هذه الأفلام حرية كبيرة فى الأسلوب، وجرأة أكبر فى التناول، مع انتقالات مونتاجية مفاجئة، جعلت الكثيرين يصفون هذه الأفلام بأنها غير مفهومة، وقد سمعت بنفسى فى سينما مترو فى قلب القاهرة متفرجا غاضبا يقول محتجا بعد نصف ساعة من عرض فيلم “اسكندرية كمان وكمان” : ” يعنى كلّكم ساكتين وعاملين فاهمين ؟!.. طيب ما اللى فاهم حاجة يفهمنا يا جدعان !” .

ماجدة الخطيب في لقطة من فيلم “سكوت حنصور”

شاهين لم يكن يكره الحواديت، وإن كان تمرده الأسلوبى واضح حتى فى أفلام الحواديت الكثييرة التى أخرجها، ولكن منطقه فى هذا التغير الواضح بعد فيلم “الأرض”، تلخص فى أن الفنان وحده هو الذى يحدد الطريقة التى يعبر بها، والحدوتة لم تعد تستوعب رغبته فى المكاشفة، وفى إعادة تأمل ما مر به، أو ما مرت به بلده، وخصوصا بعد هزيمة 67، ثم انهيار فكرة الحلم التى عاشها جيل شاهين، وخصوصا أيضا بعد عملية قلب مفتوح أجراها شاهين، وجعلته على حافة الموت، فقرر إذا عاد منها سالما أن يحكى بكل حرية وجسارة، وقد كان.

فى رأيى أن هذا التغير لم يكن مفاجئا، لأن بذوره موجود فى بصمة شاهين الإخراجية فى أفلام الحواديت، سواء فى طريقة تحريك الممثلين، أو فى ابتكار تصوير بعض المشاهدمثل مشهد محاكمة لويزا، ومشهد قتل الحجاج فى ” الناصر صلاح الدين”، ، أو ايقاع أعماله اللاهث والسريع دائما، نتيجة الحركة داخل الصورة، أو بسبب اللقطات القصيرة السريعة، والقطعات المونتاجية الحادة.

ولكنه أصر على أن يقدم أعماله كما يحب، متحررا الى حد ما من شروط السوق المحلى، ومعتمدا على الإنتاج المشترك. فى ثلاثية “المهاجر” و”المصير” و”الآخر”، كانت هناك حدوتة تقليدية، وأسلوب أكثر بساطة، ولكن ظلت الأفلام مثيرة للجدل بسبب أفكارها، وبسبب صعود تيارات التعصب والتطرف ونفى الآخر.

اتهام بالبساطة

مع تجربة فيلم “سكوت حنصّور” كان هناك ما يشبه الإتهام المعاكس ليوسف شاهين، فبعد أن كان يتهم بالتعقيد والتشوش، أصبح الإتهام الموجه لفيلم “سكوت حنصوّر” أنه فيلم بسيط وواضح، يشبه أفلام الأبيض والأسود القديمة، وبينما تميزت أعمال مثل “عودة الابن الضال”، وهو ماساة موسيقية على حد وصف شاهين نفسه للفيلم، بأنها متعددة المستويات، فإن “سكوت حنصوّر” يبدو للوهلة الأولى حكاية حب مباشرة ، ولا تحتمل أى أفكار أخرى، أو أى مستويات للقراءة.

ساهمت التوقعات المنتظرة بالتأكيد  فى استقبال النقاد وربما الجمهور الفاتر للفيلم، فقد توقعوا على الأقل جدلا يعادل ما حدث مع الأفلام الثلاثة السابقة، بينما كان شاهين يستهدف العكس تماما، لقد أخذ الجدل زمنه ووقته، ولكنه يريد الآن سكوتا عن الثرثرة والمشاكسة والجدل لكى يصور شيئا مختلفا، فيلما يحبه بالطريقة التى يحبها، وقد كان شاهين دوما مولعا بالسينما الموسيقية والغنائية، وتوظيفه للموسيقى والغناء فى أفلامه بارع ولافت، كما كانت أفلامه دوما تحكى ضمن أحداثها قصصا للحب، وكان دوما يعتبر الحب هو مفتاح كل شئ، وهو أيضا أصل الأزمة الإنسانية.

“سكوت حنصور” الذى كتبه شاهين أيضا يحقق كل ذلك، والحب فيه ليس شيئا هامشيا، بل هو القضية الكبرى، التى لا تقل أهمية عن القضايا التى ناقشها فى “المهاجر” و” المصير” و” الآخر”، بل إن شاهين قدّم فيلم “المهاجر” باعتباره أجمل قصة حب فى تاريخ الإنسانية، يصح أيضا أن نقول إن الحب هو القضية الأهم فى أفلام شاهين، سواء حب الحياة، أوحب السينما، أو حب الأرض، أو حب الآخر، أو حب الإسكندرية، ومنه تخرج  كل الأفكار، وفى فيلم مثل “حدوتة مصرية” لا ينسى الطفل شاهين أبدا أن شخصا تمنى أن يكون يوسف  هو الذى يجب أن يموت بدلا من أخيه الأكبر، كان نفى الحب هو الجحيم بالنسبة له، وظلت رغبته فى أن يكون محبوبا أحد مفاتيح شخصيته حتى النهاية.

فيلم داخل فيلم

“سكوت حنصور” لا يشبع فكرة الحب الرومانسية عند شاهين فحسب، ولا يترجم ولعه المعروف بالغناء والموسيقى فقط، ولكنه أيضا يقدم تحية جديدة لحبه الأكبر، للسينما التى تخلّد المشاعر والأحاسيس، ويتضح ذلك منذ العنوان “سكوت حنصوّر”، وهى العبارة التى يقولها المخرج أثناء التصوير، فكأننا منذ العنوان أمام حكاية يحكيها فيلم، ثم نكتشف فعلا فى النهاية، أن قصة ملك (لطيفة)، ولمعى ( أحمد وفيق)، قد تحولت الى فيلم ، وأن “ألفى ” ( كاتب السيناريو الذى لعب دوره أحمد بدير)، وعز الدين ( المخرج الذى لعب دوره زكى فطين عبد الوهاب)، قاما بتحويل الحكاية الى فيلم سينمائى تقوم ببطولته ملك، بل إننا نشاهد فى آخر لقطات الفيلم لمعى وهو متأثر بالفيلم الذى يشاهده فى قاعة للسينما، ثم يبقى وحيدا بعد أن يغادر الجمهور.

يوسف شاهين

معنى ذلك أن الفواصل بين قصة ملك وبين الفيلم المأخوذ عنها قد انمحت تقريبا، أى أننا كنا، بشكل ما، نشاهد فيلما داخل الفيلم، بل إننا نشاهد طريقة الإيقاع بالعاشق المحتال لمعى باعتبارها سيناريو كتب وسيتم تنفيذه أمامنا، ونشاهد حركة ممثلين مبالغ فيها تذكرنا بالأفلام الكوميدية، وافيهات بصرية تذكرنا بأفلام الكارتون، كأن تجحظ عيون ألفى بشكل كارتونى مرسوم ومبالغ فيه، وتستخدم الموسيقى مثلما كانت تستخدم فى الأفلام الكوميدية القديمة.

ما يؤلم فى واقع حكاية ملك، سيحوله المحيطون بها الى فن والى فيلم، ولا ننسى أن شاهين يقدم تحية أعتقد أنها مقصودة فى أسماء أبطاله للفن وللسينما، ملك مثلا اسم مطربة مصرية عظيمة قديمة، والمخرج عز الدين يحمل بالطبع اسم المخرج عز الدين ذو الفقار، وهو أكثر المخرجين الذين يعترف شاهين بفضلهم، حيث رشحه عز الدين لإخراج فيلمين هامين  هما “جميلة” و” الناصر صلاح الدين”، أما بولا ( اسم ابنة ملك التى لعبتها روبى فى أول أدوارها) فهو بالطبع الاسم الحقيقى للفنانة نادية لطفى، إحدى بطلات فيلم “الناصر صلاح الدين” ، ودور لويزا فى الفيلم من أشهر أدوارها السينمائية، وفى الفيلم أغنية قديمة لعبد الوهاب، وظهور لممثلين عملوا مع شاهين مثل حنان ترك وهانى سلامة، وظهور للموسيقار عمر خيرت وهو يعزف على البيانو، وتحية لاسم محمود المليجى الذى تصفه ملك بأنه أعظم ممثل فى تاريخ السينما المصرية.

ثقافة التيك أواى

الكثيرون لاحظوا بسهولة أن اسم ناصر الذى اختاره شاهين للشاب الفقير المتعلم، والذى لعبه مصطفى شعبان، هو تحية مباشرة وواضحة لجمال عبد الناصر، وهذا صحيح بالطبع، ولكن التحية الأهم هى للسينما وللحب وللعواطف الإنسانية النبيلة، والهجوم الصارخ على الإنتهازية والكذب والفهلوة وثقافة التيك أواى التى يمثلها لمعى، الصدق والحب الذى تمثله ملك، يواجه أكاذيب لمعى وأطماعه، والحكاية كلها فيلم يحاكى بساطة الحواديت التى نعرفها فى أفلام زمان، وماكان يمكن أبدا أن تختفى الحكايات بينما  مازالت ثقافة الزيف والكذب حاضرة وقائمة فى كل شىء: فى العاطفة، وفى الفن، وفى تفاصيل الحياة.

نعم يشبه الفيلم ببساطته أفلام الأربعينيات، فيه طرف شرير، وفريق من الأخيار، وفيه أغانى وقصة حب، وفيه انقاذ من المطب، وانتصار للخير،  ولكن “سكوت حنصوّر” لا يقدم مثل أفلام الأبيض نهاية سعيدة، بأن تتزوج ملك مثلا من ألفى كاتب السيناريو الذى يحبها، أو بأن نرى ناصر مع حبيبته بولا وهى فى ثوب الزفاف، والجميع يتبادلون قبلة النهاية.

ما نراه هو أغنية حب أخيرة تقدمها ملك على المسرح، وهى أغنية” قبل ما” التى كتبتها كوثر مصطفى، ولحنها يوسف شاهين بنفسه، وهى بالمناسبة أغنية جميلة ومؤثرة بتوزيع عمر خيرت، ملك ستظل تحب لمعى، أو “أبو لمعة العايق”، وهو نفسه سيبدو متأثرا فى قاعة العرض، وكأنه أساء تقدير كل شئ، أو كأن ملك هى الكنز الحقيقى، الذى كان يجب أن يتمسك به، بدلا من أن يبحث عن الميراث والمال.

شاهين ينتصر فى الفيلم أيضا لكل انحيازاته السابقة: الجيل القادم الأكثر جرأة ممثلا فى ناصر وبولا، العلاقة الإنسانية الصافية العابرة للطبقة أو للسن أو المكانة: سواء بين الجدة العجوز (ماجدة الخطيب) وسائق سيارتها، أو فى محبة ألفى الصامتة ل ملك، أو فى علاقة ملك مع أمها، ومشهد وداع الأم قبل وفاتها بأغنية عبد الوهاب “ليلة الوداع”، وبصوت لطيفة، من أفضل وأجمل مشاهد الفيلم، بل إنه من أجمل المشاهد التى أخرجها يوسف شاهين بحساسية مرهفة ومؤثرة.

أغنيات لا تنسى

الأغنيات فى الفيلم عموما ممتازة، ” تعرف تتكلم بلدى” التى كتبها جمال بخيت ولحنها عمر خيرت، والذى يظهر فى الأغنية أيضا، تعبر عن تحية شاهين لوطنه، وتمسكه به، وهو بالمناسبة تعبير متواصل وليس جديدا، ويأخذ أشكالا كثيرة من قبضة محمد أبو سويلم الممسكة بالقطن والتراب فى نهاية فيلم “الأرض”، مرورا بأغنية “مصر يا امة يا بهية ” فى نهاية فيلم “العصفور”، وليس انتهاء  بهتاف مباشر مثل “مصر حتفضل غالية عالية” فى فيلم “الوداع يابونابرت”، الذى يمكن اعتباره رد شاهين نفسه على من اتهمه فى مصريته عندما ترك وطنه الى لبنان.

الأغنية الثانية المهمة هى “بانادى” والتى جمع فيها عمر خيرت بين رومانسية ملك، وأحلامها المثالية، وبين فهلوة لمعى وثقافة الخطف والتيك أواى فى الفن والحياة ، حيث ينتقل من موسيقى الفالس الحالمة، الى ايقاعات سريعة يعزفها الدرامز، فكأننا أمام عالمين منفصلين لا يمكن أن يلتقيا على الإطلاق، حتى لو كانت ملك تحب لمعى، وحتى لو كانت قد انخدعت بوسامته وهيئته، وقد اختار له شاهين هيئة تذكرنا ينجوم الخمسينيات فى السينما، فبدا مثل أحد “جانات” السينما القديمة، بجاذبيتهم وحضورهم، ولا شك أن أحمد وفيق وروبى من أبرز اكتشافات شاهين فى هذا الفيلم، وقد أكدا موهبتهما فى أدوار كثيرة تالية، وما زالا من أبرز الممثلين فى الأعمال الدرامية الراهنة، وكانا يستحقان بالتأكيد حماس شاهين لهما.

لقطة أخرى من “سكوت حنصور”

كل فيلم أخرجه شاهين، منذ “بابا أمين”، وحتى ” هي فوضى”، فيه من عالمه ومن أفكاره، ومن تعبيره عن نفسه، وليس فقط  تلك الأفلام التى  تصنف على أنها جزء من سيرته الذاتية، و”سكوت حنصور”، الفيلم الذى أحببته كثيرا منذ أن شاهدته  فى عرضه الأول فى سينما الهرم، فيه أيضا شاهين الرومانسى الأبدى، الذى يعتقد فى الحرية والحب والتسامح، والذى يرى فى الفن  والغناء والرقص وفى السينما حياة موازية، بل لعلها الحياة الأبقى والأهم.

وعندما احتدم الجدل، وغرقنا فى الأفكار، والأيدلوجيات، عاد شاهين الى حكاية حب مبتورة، لم تكتمل، ولكنها صنعت فنا وفيلما، قال لنا : سكووت ح نصور قصة تذكرنا بمشاعرنا المنسية، بالحب الذى ضاع فى زحام التيك أواى، سينما فى سينما، أما السرد البسيط، والأسلوب الأبسط، فهو يتبع الموضوع، يحتويه، ويقدمه بسلاسة، مثلما كانت حرية السرد، وحرية الأسلوب، مرتبطة بموضوع شائك أو ملتبس أو مزعج فى أفلام سابقة.

وفى كل الأفلام كان الحب هو القضية الكبرى مع كل القضايا، وفى كل الأفلام كانت السينما ولغتها حاضرة ولامعة، فهى الوسيلة، وهى أيضا الغاية والعشق الأبدى، الذى لا يموت. 

https://www.youtube.com/watch?v=0wBbEEZq3H8
Visited 121 times, 1 visit(s) today