“سرقات صيفية”.. التمرد على التقليد
“يكمن الفرق بين الفنان المبدع، والحرفي الماهر في حقيقة أن الأول لديه الشجاعة لكي يبتكر ويجرب ويخترع. أنه لا يخشى الخطأ لذلك فهو يتقدم دائمًا”.
دانييل أريخون
كان فيلم “سرقات صيفية” 1988 للمخرج الشاب حينها يسري نصر الله تجربة جريئة ومختلفة تنتمي لسينما التجريب حاول من خلالها تقديم حالة خاصة متأثرة نوعًا ما بسينما يوسف شاهين لكنها جديدة على السوق السينمائي ومتميزة عما ينتظره المشاهد من بناء تقليدي للقصة، وحاول التغلب على تعقيدات الإنتاج وتكلفته بالاعتماد على وجوه في أغلبها شابة لا تتقاضى أجورًا مرتفعة. ونال وقت عرضه إعجاب كثير من النقاد وصناع السينما وكان ضمن الأفلام المميزة في مهرجان إسكندرية السينمائي.
الفيلم تجربة شخصية ليسري نصر الله يبرز من خلالها العلاقة بين طبقة الإقطاعيين والفلاحين عقب ثورة يوليو، ومدى مشروعية الثورة نفسها من خلال رؤية موضوعية لفترة عبد الناصر بعيدة تمامًا عن دعاية النظام. يركز الفيلم على الفوارق الإجتماعية التي بدأت في التلاشي تدريجيا مع إعادة توزيع الأراضي الزراعية، وتمرد طبقة الفلاحين على الأعيان، فوارق كانت تشكل بنية المجتمع المصري لعقود طويلة.
يبدأ الفيلم بمشهد للطفل ياسر مع إحدى الفلاحات على مجرى ترعة في بداية الستينات، وينقل بعدها صورة للعالم كما يراه الطفل الأرستقراطي مع عائلته حتى صداقته مع أحد أبناء الفلاحين. تعكس الصداقة بين الطفلين ياسر وليل الفلاح الفقير التقارب بين الطبقات، مع تشكل طبقة جديدة يمثلها مجدي كامل – ضابط الجيش صاحب الأصل الفلاحي – وعلاقته بأحدى بنات الإقطاعيين (أميرة العايدي).
علاقة لا تخلو من رمزية ينجح المخرج في تمريرها عن حتمية الارتباط بين الصاعدين الجدد، والإقطاعين علاقة سبق وأكد عليها أسامة أنور عكاشة في عمله الأشهر “ليالي الحلمية”. ويبرزها مشهد المواجهة وهي تضعه أمام مسئولية شعوره بالنقص، وخوفه من التهديد بالإبتعاد عنها مما عمق الفجوة بينهم. ثنائيات حاول من خلالها تمرير رؤيته عن مجتمع عبد الناصر، حتى انتهى الحلم بهزيمة 1967.
يُعتبر الفيلم تجربة نقدية للمرحلة أعاد تقديمها في فيلمه الثاني “مرسيدس” مع الإختلاف في التناول. فلو اعتبرنا “سرقات صيفية” هو الواقع كان مرسيدس أشبه بالحلم لجيل لازال يعيش في أوهام الإشتراكية. كان يمثله نوبي (زكي فطين عبد الوهاب).
من خلال سيناريو غير تقليدي، لا يتجه نحو نقطة ذروة واضحة، لكنه يحاول تصوير واقع جديد فرضته معطيات الثورة وقرارات التأميم. ويهتم بالتركيز على الحياة اليومية للأسرة الأرستقراطية بإيقاع يبدو للمشاهد العادي بطيء نوعا ما لكنه ضروري في فيلم يخدم الفكرة المُسيطرة على صانعه ويهرب بها من الأنماط التقليدية لصناعة فيلم سينمائي.
يتوقف الفيلم ويبدأ مع بداية الثمانينات، فالاطفال الذين كانوا يرون العالم في الستينات بنظرة طفولية وبريئة محاولين استكشاف هذا المجتمع الجديد، شاخوا اليوم من آثار الهزيمة والحرب والانتصار وخيبة الإنفتاح.
يبقى الحال كما تركه عبد الناصر برحيله بعد النكسة، الأعيان أعيان، والفلاحين تظل حياتهم كما هي. ويظهر ذلك حتى في تصميم ناهد نصر الله للأزياء التي لم تتغير رغم مرور عقدين من الزمن.
بواقع جديد يحل فيه التليفزيون مكان الراديو ويبقى آثر فيلم ” رد قلبي ” باهت يُلاقى بالسخرية والملل أحيانا بدل الإعجاب. واقع يتطلع فيه ” ليل” الشاب إلى الهجرة لدول الخليج للهروب من الفقر وبحثا عن فرص جديدة بعيدًا عن دولة أنهكتها الحروب والسياسات الإقتصادية للسادات. وينتهي الفيلم ببيع أخر جزء متبقى من الأرض لشخص من بورسعيد يُمثل الملاك الجدد من تجار الإنفتاح.
القيمة في أفلام يسري نصر الله عموما أنها تُفهم على عدة مستويات، فيمكن تفسير الفيلم في إطاره السياسي والإجتماعي كما ذكرنا، أو أعتباره تجربة شخصية لجيل شاب حالم يمثله الطفل ياسر تنفتح عينه على عالم جديد ويحاول إدراكه بفهمه الطفولي، ويظهر ذلك في محاولته سرقة بعض مقتنيات الأغنياء لمساعدة أمه التي تعاني من ضائقة مادية كما فعل عبد الناصر على حد فهمه، ومن هنا جاء اسم الفيلم.
الشيء الغني جدا والملفت كعادة أفلامه هي التجربة البصرية التي تُثري المشاهدة وتجعل من اللغة السينمائية وظيفية ومعبرة عن الفيلم وأحداثه أكثر منها جمالية. فمثلا تعتبر الكاميرا هي عين المخرج، النافذة التي يطل منها ليرى العالم، فيراه المشاهدين بعيونه، ولأننا هنا أمام تجربة شخصية للمخرج مر بها في طفولته، تُوظف حركة الكاميرا وزوايا التصوير في مشاهد عديدة لتتحول إلى عين الطفل ياسر وهو يتلصص ويراقب أهله ويكتشف العالم من حوله.
إلى جانب شريط الصوت، والذي يطاردك فيه مجموعة أصوات خلفية لخطابات عبد الناصر، وأغاني وطنية تبدو في ظاهرها عشوائية لكنها تجعل المشاهد يغوص بحواسه كلها في حقبة الستينات ويخرج بتجربة سينمائية ممتعة وإن كانت مختلفة عن المألوف. وموسيقى عمر خيرت الهادئة كانت تُضفي حالة من الشجن والهدوء على جو الفيلم العام، خصوصا تداخلها في بعض المشاهد مع صوت عبد الناصر
الديكور ايضا كان أحد أهم عناصر جماليات الصورة في الفيلم، وجزء من واقعيته، التي بروزها “أنسي أبو سيف” من خلال تصميم البيت الكبير وأختيار ديكوره البعيد عن البهرجة المعتادة، البيت في بساطته يعكس طبقة ناجية أصابتها قرارت الثورة، أكثر ما يعكس جماعة من الناس يعيشون في ثراء مُلفت.
ويبقى الفيلم إجمالًا وبعد مرور أكثر من ثلاثين عام على إنتاجه تجربة مميزه تستحق الإشادة منذ عرضه الأول ضمن فعاليات مهرجان كان، لأنه نجح في الانتقال من الخاص إلى العام، من تجربة تبدو شديدة الخصوصية، لتلخيص مرحلة هامة مر بها المجتمع المصري بين الستينات والثمانينات، وهذا ما يتوقعه المشاهد الغربي عند مشاهدة فيلم ينتمي لثقافة أخرى، أن يكون مُعبر عن بيئته ومجتمعه ويبتعد عن التقليد الأعمى لسينما هوليوود.