“شحاذون ونبلاء”: دعوة صريحة الي فلسفة التمرد والكسل

Print Friendly, PDF & Email

اتحدت رؤية المخرجة المثقفة الراحلة اسماء البكري، مع رؤية البير قصيري في روايته شحاذون ونبلاء، التي حولتها اسماء إلى فيلم رائع وتحفة فنية وفكرية، هذه الرؤية التي تدعو الي الثورة علي السلطة والقوانين، وعلي سنن الكون، وتتضمن الرؤية ايضا دعوة صريحة للذة الكسل والتشرد، فنري منازلة بين الصعاليك والكسالي، وبين عنفوان القانون.

مواجهة السلطة بالتشرد

يحاول ثلاثة مشردين فرض حياتهم علي المجتمع والقانون، وهذه الحياة رافضة لأي قيود، أو مبادئ رسمية او حتي اجتماعية، هؤلاء الثلاثة ينطلقون في الحياة إلي أقصي ذورتها الوجودية، حيث اللامبالاة والحرية المطلقة، والسخرية من اجل اللاشئ، والرغبة الكبيرة في تدمير الذات، وهو ما ظهر في قيام أحدهم بالاعتراف علي نفسه في جريمة قتل لم يقترفها.

تبدو الروح الثقافية، وعشق التفلسف والافكار علي افعالهم ومواقفهم تجاه الحارة التي يعيشون فيها، وتجاه المجتمع والعالم واخلاقيات الانسانية المعاصرة، وايضا روح الزاهدين لكل شئ، كل لقطة مشهدية تعبر عن فكرة الرواية، وايضا هناك لقطات عبرت عن خصوصية كل شخصية لوحدها، ثم تندمج روح الكسل والتفلسف في كيان روحي واحد تعبر عنه الكلمات القليلة، او بصريات اسماء البكري، او حالة الصمت.

الصراع بين الضابط، وهو الممثل الوحيد للقانون، وأخلاقيات المجتمع، وقيود الدولة، وبين هؤلاء الثلاثة المشردين، جاءت بشكل سيريالي مذهل يجسد ضعف الشرطة في كبح جموح هؤلاء المشردين، فالجاني يتحدث مع الضابط دون خوف، والضابط حائر في أمره، ولكنه لا يقبض عليه، رغم انه يعترف له، هذه الشخصية الشرطية تتسم بالضعف التي يتميز بها المجتمع المصري، وانهياره المتدرج في كل شئ، من اجهزة الدولة، والطبقة الوسطي، ومكونات المجتمع كلها. ينتصر الأديب البير قصيري والمخرجة اسماء البكري، لقدرة التشرد والكسل علي مواجهة استبداد الدولة، وعدم تحقيق العدالة بين البشر، هذا الفيلم تصريح مباشر وقوي للدعوة الي التشرد والتصعلك إذا اصبح المجتمع ملوثا وفاسدا ومتخلفاً.

الإيروتيك الذكوري

يحتوي الفيلم علي رموز عدة للتفسيرات الايروتيكية للاشياء والافعال، ويغلب علي هذه الرموز الايروتيكية الذكورية، بخلاف ما يحدث في بيت الدعارة، التي يعمل فيها جوهر الشخصية المحورية للفيلم مراجعا للحسابات، فهناك رمز الشرطة الشاذة الخارجة عن المنطق، حيث يتسم ضابط الشرطة الذي يقوم بدوره عبد العزيز مخيون بالشذوذ الواضح وما هو تشير اليه مديرة منزل الدعارة، يهزم الفيلم الشخصية الشرطية بهذه الرمزية الايروتيكية ويفرغها من مضمونها وجبروتها، واختلف مع البيري قصيري ورؤية الفيلم في أن الشذوذ الجنسي فعل غير منطقي، ولكن المقصد هنا سطحي لتوضيح شذوذ الشرطة، ولا يعني قصيري المضمون الكامن لفعل الشذوذ.

الرمزية الثانية هي اختفاء كردي المثقف الثوري مع شخص آخر يمارس الشذوذ مع الضابط خلال جلسة تجمعهم مع ضابط الشرطة، وجوهر ويكن، مما يعني برمزية ممارسة الشذوذ بين المثقفين، وأن الثقافة هشة وليست لها قيمة، الرمزية الثالثة في الفيلم، بانوراما بيت الدعارة وما يدور فيه من رقص، وغناء ومرح، وتبادل الرجال والنساء المتعة بمقابل مادي، بجانب وقوع جريمة غامضة علي يد جوهر، وهي الرمزية الرابعة حيث تدعو ارنبة وهي تعمل في بيت الدعارة جوهر الي حجرة داخلية في البيت لكتابة خطاب الي خالها لتحكي له عن حاله المستقر والسعيد، ثم تقوم باغرائه لكي يمارس معها الحب، وهو في هذه اللحظة يكون في حالة غير مستقرة، فلم يقم بتعاطي الحشيش، بجانب توتره الدائم، ليقوم بقتلها دون مبرر، بعد الانتهاء من ممارسة الحب، ليتداخل فعل القتل، مع فعل الحب، مع هزيمة القانون والسلطة.

شخصيات مشردة   

جوهر استاذ التاريخ الجامعي، الذي ترك هذا المنصب لشعوره بالزيف في منطق التاريخ، خصوصا وفي منطق العلم عموما، ليعيش في حجرة مهدمة فقيرة، لا تصلح للحيوانات، وينام علي جرائد، جوهر يبدأ ظهوره في الفيلم بمشهد يشعر فيه بالخوف من قيام الجيران بتغسيل ميت، ثم يذهب الي البحث عن يكن لتعاطي المخدرات. توقف جوهر عن القراءة والثقافة، ولكنه مازال يراقب ويتابع بعينيه فقط، ويبدي آرائه وفقا لثقافته السابقة.

ابدعت اسماء البكري في إبراز شخصية المثقف المشرد الفقير، جوهر الذي لا يجد قوت يومه ويعمل مراجعا للحسابات في يبت الدعارة، وهنا رمزية رائعة، حيث يعتبر بيت الدعارة  اكثر صدقا من كتب التاريخ والمناصب الجامعية.

جوهر شخصية قليلة الحديث، هادئة الملامح، ولكنها تكبت توترا عاليا من الشعور الدائم بالزيف من الاشياء، ألم نفسي ووجودي رهيب، يفتت الروح والنفس ثم الجسد، حتي اخر الفيلم، لا يستطيع الشعور بالفرح والابتسامة طالما شعور الزيف يسير في دمه، ويري جوهر أن التشرد والصعلكة هما انسب فلسفة للحياة، حيث راحة البال والصدق، والنقاء، وهو ما يظهر في مناقشاته مع ضابط الشرطة، حتي يقتنع هذا الظابطـ، ويترك زي الشرطة ويرجع الي التشرد.

جوهر بمنطقه الصعلوكي هزم القانون والشرطة، ليقول لهم انتم تسيرون في الطريق الخاطئ، الطريق الصحيح لدي جاهز لكم. يرتكب جوهر جريمة غامضة بدون مبرر، يقتل ارنبة عاهرات بيت الدعارة، ويشعر باللاجدوي من هذا الفعل او غيره كعادته في الحياة، في لاوعيه يريد هزيمة القانون بجريمة بدون مبررات او دوافع، يسخر من السلطة، ورجال الشرطة بهذه الجريمة المبهمة.

ويكن، شخصية مشردة حالمة، تعيش في عالم من الخيال والرومانسية، يحب امرأة لا يتحدث معها، وهي ارستقراطية، يسمع موسيقاها خارج الفيلا التي تقطن بها، يشعر نحوها بالحب الجارف، هذا البؤس الرومانسي، يتضامن معه البؤس الفكري، حيث يكن لديه قدر ليس من الثقافة، فهو يمتلك عبقرية شعرية، ويحب الاشعار، ويكتب الكثير، يعتبر جوهر استاذه في الحياة ويسمع آرائه دوما، ويصادقه، ويحبه كثيراً، يعيش علي هامش الحياة، في اطار فلسفة الفيلم فهو شحاذ يقترض المال لكي يعيش بأقل القليل، وهو ايضا نبيل، من خلال احلامه ورمانسيته.

 أما كردي، الصديق الثالث لجوهر ويكن، فهو شخصية حالمة ايضا بالثورة، وفرض العدالة الاجتماعية علي الافراد، يفكر ليلاً نهاراً في احداث ثورة من اجل المهمشين والبؤساء، متأثرا بالادب الغربي كما يقول عنه جوهر، يريد للمرأة ان تحظي بمكانتها، وتنافس الرجل، ولا تستمر في كونها جسدا مهملا يتم استغلاله دوما، هذه الاحلام الرومانسية لا تتحق، ولكن كردي يستمر في التعلق بها، وذلك ما يؤكد نبله ونقائه.

Visited 65 times, 1 visit(s) today