أوراق برلين السينمائي (2): عن فيلم إسمه “سعاد”

Print Friendly, PDF & Email

لم أصدق عيني أن ما شاهدته يمكن أن يكون فيلما مصريا أنتج أو عرض في 2021 أي أنه نتاج لسينما عظيمة يعود تاريخها إلى أكثر من قرن، أنتجت عشرات التحف الفنية، وعرفت أجيالا بعد أجيال من المخرجين والمصورين وكتاب السيناريو والممثلين. أن ينتهي بها الحال إلى هذا التراجع المخيف على جميع المستويات، بدعوى أن هذه هي “السينما المستقلة” فهو لأمر شديد الإحباط والحسرة حقا.

لم أكن أتمنى أبدا أن أضطر لأن اكتب ما أكتبه عن فيلم “سعاد” للمخرجة المصرية أيتن أمين، لأن أيتن نفسها أثبتت في فيلمها المتوسط الطول “راجلها” (2006) أنها تمتلك حسا سينمائيا متميزا، وقد مدت تجربتها الأولى على استقامتها من خلال شكل أكثر احترافية في فيلمها الروائي الطويل “فيلا 69”. لذلك لم يكن من المتصور أنها ستأتي اليوم وبعد أن حصلت على دعم وتمويل جهات كثيرة، لتخرج لنا هذا العمل الشاحب، البدائي، المترهل الذي لا يضيف شيئا، لا إلى أيتن أمين نفسها، ولا إلى السينما المصرية، بل على العكس، يسحب من رصيد هذه السينما ويجعل المرء يشعر بالخجل وهو يقارن بينه وبين عشرات الأفلام التي تأتينا من الشرق والغرب.

ليس مهما أن فيلم “سعاد” كان ضمن البرنامج الرسمي لمهرجان كان الملغي في العام الماضي ولا يهمنا كثيرا أن يكوم الفيلم قد أدرج ضمن عروض برنامج “بانوراما” بالدورة الحالية من مهرجان برلين السينمائي، فهذا المهرجان الأخير تحديدا يبدو أنه شبه متخصص في رفض جميع الأفلام المصرية (الاحترافية) ذات التقنية العالية، والترحيب بكل الأعمال البدائية التي تفتقر إلى أي قدر من الاحترافية وتعود بفكرة السينما إلى الوراء. وليتها تعود الى ماضي السينما المصرية نفسها، إلى عصر “البوسطجي” و”الحرام” و”شيء من الخوف” و”الاختيار” و”الرجل الذي فقد ظله” .. وغيره، بل إلى سينما الهواة والمبتدئين التي يكفي لصنعها أن يحمل أي شخص في يده كاميرا رقمية صغيرة يتحرك بها كيفما اتفق، ويصور من غير إضاءة، ومن دون أي ترتيب أو حرص على أي تكوين من التكوينات الفنية، يدخل بالكاميرا إلى مكان لا يعرفه ويخرج منه كما دخل، من دون أن نعرف لماذا.. وإن كان ليس هذا هو المهم.

إن أصل وأساس أي فيلم سينمائي جيد يقوم أولا على السيناريو. في فيلم “سعاد” يبدو أن مخرجته دخلت إلى التصوير من غير سيناريو واضح ولا فكرة واضحة عما تريد تصويره، فهو فيلم يمكن أن يقال في أقل الكلمات قسوة، أنه عمل “عشوائي”، أي يسير كيفما اتفق، دون هدف ما سوى تصوير جو عام في سياق شديد الاضطراب والفوضى، بل ويبدو أن المخرجة تبدأ شيئا ثم تنسى أن تتابعه، تهيئنا لاستقبال مفاجأة ما، ثم لا تحدث هذه المفاجا’ة التي كان من المنتظر أن تحدث الساعة السابعة مساء (!!) وعندما تكشف في النهاية عما في جعبتها من مفاجأة يتووقعها المتفرج، لا يسفر الأمر عن شيء. وفيلمها يبدو كفيلم قصير لا يزيد عن 10 دقائق، تم نفخه وتضخيمه في محاولة يائسة لاكسابه ملامح الفيلم الروائي الطويل.

ينقسم الفيلم حسب اختيار مخرجته، وكاتب السيناريو طبعا، محمود عزت، إلى ثلاثة أقسام، يحمل كل قسم اسم شخصية من الشخصيات. والقسم الأول مخصص لفتاة تدعى “سعاد” هي التي يحمل الفيلم اسمها، بينما كان الأصح أن يحمل الفيلم عنوان “سعاد ورباب وأحمد”، فسعاد تحديدا سرعان ما تختفي من الفيلم بموت غامض، لا نعرف ما إذا كان حادثا قدريا أم انتحارا. وهي تنتمي مع شقيقتها وصديقاتها اللاتي يظهرن في الفيلم في مشاهد عشوائية تتصف بالطول المفرط، يرددن حوارات فارغة لا معنى لها، إلى الشريحة السفلى من الطبقة الوسطى. سعاد مثل أبناء طبقتها محجبة. وهي طالبة في كلية الطب. تنتظر نتيجة الامتحانات قبل أن تبدأ إجازة الصيف. وهي تقيم مع شقيقتها “رباب” (16 سنة) ووالدها الذي لا يتكلم كثيرا، وأمها المشغولة بتدبير أمورالحياة اليومية مثل أي ربة بيت من تلك الطبقة التي تعاني وتعيش بالكاد (مستورة).

الوصف الخارجي هو أساس الفيلم، فالمقصود أن نرى كيف أصبح الهاتف المحمول ووسائل التواصل الاجتماعي مثل الفيسبوك وانستجرام وغيرها، هي محور حياة الفتيات المراهقات، اللاتي يحلمن بالحب وبالحبيب الذي تترك نفسها معه لكي تفرغ طاقتها العاطفية والجنسية، وهو ما لا يتحقق بالطبع، بل يظل الأمر محصورا في نطاق التشات وتبادل الصور ومكالمات التليفون، واللهو مع الصديقات، ومع ذلك تشعر سعاد بالغيرة بسبب اتجاه حبيبها “أحمد” لمعرفة فتاة أخرى ينشر صورتها وتراها هي عبر “الفيسبوك” وإن لم يكن هذا سببا كافيا بالطبع لأن تنهي حياتها بالانتحار!

في البداية نشاهد “سعاد” وهي تقص على رفيقاتها في وسائل المواصلات الرخيصة، قصصا وحكايات مختلقة كاذبة عن علاقته بخطيبها، وتخترع لنفسها ولهذا الخطيب المجهول، شخصية وملامح لا وجود لها. فهي إذن تعيش في الوهم المختلق لذلك فعندما تصنع علاقة حب مع شاب على وسائل التواصل تعيش هي وحدها في الدور بينما الطرف الآخر لا يشعر بها أو لا يكترث. والفكرة هي كيف أن قيود الطبقة والعادات والتقاليد المتزمتة بل والأسرة، تضغط على “سعاد” وتحرمها من حريتها كامرأة تتطلع إلى ممارسة الحب.

من وصف تفاصيل الحياة الفارغة للفتيات المراهقات في الأحياء الشعبية، إلى وصف بعض العادات والتقاليد مثل ما يحدث بعد الموت، من تقاليد العزاء، الصلاة، وكيف تبدو خالة سعاد ورباب متشددة، وهو ما يصبح هدفا لسخرية سعاد قبل وفاتها، ثم “رباب” شقيقة سعاد التي تصغرها ، فهي في السادسة عشرة من عمرها، التي تقطع رحلة من الزقازيق الى الإسكندرية بعد ذلك، من أجل أن تقابل “أحمد” صديق شقيقتها الراحلة سعاد، من دون أن نعرف الهدف من هذه الرحلة التي تستغرق المساحة الأكبر من الفيلم، إلى أن ينتهي الفيلم نهاية مفاجئة مقطوعة، شأن الكثير من المشاهد التي تبترها المخرجة فجأة قبل أن يفهم المشاهد علاقتها بالسياق العام مثل ذلك المشهد الهزيل لمجموعة من الأشخاصي البالغين في شقة أهل الفتاة التي يحبها “أحمد” ورجل (يقوم بدوره المخرج المنتج شريف مندور) يتحدث في عصبية وتوتر ويعيد ويكرر ويزيد “أنهم” (لا نعرف من هم!) يريدونه أن يبيع بيته ويشتري “شاليه” في قرية من القرى السياحية تقع قرب الحدود الليبية، وهو يصر ويؤكد أنه لن يفعل مهما حدث. فما علاقة هذا المشهد الطويل المليء بالثرثرة بموضوع الفيلم، وما شأننا نحن به.

في احد المشاهد يعجز المرء عن فهم ما يقال من خارج الصورة بسبب رداءة الصوت، بل ولا تقتصر الرداءة على شريط الصوت الذي يعلو ويهبط ويكاد ينعدم، بل في الصورة أيضا، التي كثيرا ما تبدو غائمة، قاتمة، مزعجة للعين، فاقدة الإضاءة المناسبة، مع كاميرا مهتزةتتأرجح يمينا ويسارا ثم تجري وترتجف بحيث يصبح من المستحيل رؤية صورة واضحة أو معرفة لماذا يتحرك المصور هكذا تلك الحركات العصبية طوال الوقت. ولكن سيقال لنا بالطبع: هذه هي السينما المستقلة، السينما الواقعية التي تعتمد على الكاميرا الحرة والتصوير في الأماكن الحقيقة، داخل الشقق الشعبية والحواري والأزقة، وأن القبح الموجود في الصورة هو قبح الواقع.. وهي أقوال محفوظة لم تعد ذات مصداقية حاليا فالسينما قطعت مسيرة طويلة سواء في التقدم التكنولوجي والتقنيات السينمائية أو في طريقة الحي وأسلوب التصوير، وأصبح صنع الأفلام على طريقة “روما مدينة مفتوحة” غير ذي ميزة.

لا أعرف لماذا نريد ان نثبت للعالم طوال الوقت، أن القبح ميزة، وغياب  الاتقان الاحترافي في التصوير والتمثيل والإخراج، من ضمن خصائص السينما المستقلة، وأننا هكذا نكون متميزين” ومختلفين عن السينما الأوروبية التي يجب أن نتعلم منها ومن أفلامها. فإذا غاب السيناريو المتماسك المتين، والإخراج الذي يعرف كيف ينتقل بين المشاهد والمواقف المختلفة ويجعل كل مشهد يضيف إلى ما قبله، وانعدم وجود ممثلين يتمتون بأي قدر من الجاذبية أو الموهبة والكفاءة. ومع كل هذا “الفقر” اين هذبت أموال التمويل التي جاءت من جهات إنتاجية متعددة، ولماذا لن تظهر على الشاشة!

صحيح أن هناك جرأة في اقتحام الأماكن والتصوير في الشوارع ولكن ما الجديد، وخصوصا أن السياق نفسه فارغ تماما، وأن الممثلين الذين تسير معهم الكاميرا مسافات طويلة، لا يعرفون كيف ينطقون الكلمات، مع غلبة طابع الارتجال في الحوار بحيث يصبح في معظم الأحوال، متناقضا مع بعضه أو بلا أي معنى على الإطلاق، بل إن رحلة “رباب” للتعرف على أحمد التي بدت أولا كما لو أنها ترغب في الاحلال محل شقيقتها في إقامة علاقة معه، أو حتى رغبة في الانتقام منه، انتهت الى لا شيء على الإطلاق. هل جاءت وقضت الليلة في شقته، لكي ترسل اليه في نهاية المطاف، أغنية مسجلة على تليفون شقيقتها الراحلة؟!

إن مقارنة فيلم “سعاد” مع أي فيلم احترافي أوروبي، أو حتى مع فيلم مصري آخر بديع وبسيط مثل “خارج الخدمة” أو “أخضر يابس”، ستجعلنا نضع “سعاد” على الفور، في خانة سينما الهواة المبتدئين الذين يتعلمون إمساك الكاميرا ويرتجلون أشياء لا تحمل من المعنى الكثير، ينفخون فيها لتعبئة فيلم طويل عل الشاشة لا تتولد عن مشاهدته متعة، ولا تنتج عنه فلسفة أو إثارة أو جماليات خاصة جديدة. لكن سيوجد بطبيعة الحال، من جماعة “الفيمينزم” المصري الذين سيجدون في هذا الفيلم ما لا يجده غيرهم، ويستخرجون منه كل ما هو غير موجود فيه. وهي كارثة أخرى لا تؤدي سوى إلى إعادة إنتاج هذا النوع من السينما المصرية لنفسه طول الوقت!

Visited 66 times, 1 visit(s) today