تحليل فلسفي لفيلم “النشال” لروبير بريسون: شوبنهاور ونيتشه وفرويد

في فيلم “النشال” للمخرج الفرنسي لروبير بريسون هناك لوحات فسيفسائية من الفلسفة وعلم النفس والافكار ومفاهيم التحليل النفسي الكلاسيكية، والأمر يحتاج وقتا كبيرا، لفك شفرات هذه اللوحات المعقدة، فهناك لمحات شوبنهاورية هائلة في المشهدية البريسونية، فالبطل يعيش داخل نفسه، هو شوبنهاوري ذاتي يرفض الناس والاشياء، ونيتشوي بمعنى القوة والجرأة والتعالي وتغليب مبدأ الانسان الاعلي.

هذان الشقان يكملان بعضهما البعض، فالبطل لا يذهب إلى أمه رغم أنه يحبها، وبذلك يكبت هذه المشاعر الخاصة الانسانية الراقية، وهذا منحي فرويدي اصيل في شخصيته، وهو ايضا لا يتحدث، ولا يظهر حبه لفتاة يتضح انها تريده وهو يريدها ايضا، ولا يتحدث معها بنعومة، ويسير خطوات سوداء قاحلة علي الأرض بشكل عام.

مما سبق يتضح ان هناك ثلاثة معارج لتفسير شخصية البطل، وذلك ترتيبا لظهور الفلسفات الثلاثة التي تطبق علي الفيلم اولا المعرج الشابنهوري، ثانيا المعرج النيتشوي، ثالثا المعرج الفرويدي، وهو ما يناقشه المقال في السياق التالي.

أولا الاكتئابية الشابنهورية

عادة ما ينحاز روبير بريسون في أفلامه الي منظومة القيم الشوبنهاورية التشاؤمية، التي تري ان العالم مليئ بالشر والقسوة دائما، هذا الانحياز تكتيك بريسوني دائم، احد مفرداته في الصورة السينمائية هذه النظرة البائسة، ينتقل بنا بريسون الي التلاعب بعلاقة الخير بالشر، فهناك حيرة في تحديد مصائر الشخصيات في الفيلم، وهل هي شريرة أم خيرة، هل يجب التعاطف معها أم لا؟ هناك أسرار كثيرة في هذه العلاقة نظر إليها بريسون سينمائيا، فالتحليل الدقيق للصورة لديه يستدعي التأني لفهم هذه العلاقة، فمن السهل معرفة انه يتخذ منحني النظرة التشاؤمية والانحياز للشر، ولكن من الصعب جدا فهم ابعاد منظومة قيم الشر والخير وعلاقتهم ببعض.

البطل في الفيلم يعيش في ذاته، فهو يسرق من أجل ذاته، وليس لديه اصحاب عديدون يتحدث معهم ويشعر معهم بالسعادة، فلديه صديق واحد فقط، لا يتحدث معه كثيرا، وعندما يقابله، يكون حزينا صامتا ينظر له نظرات كلها بؤس ووحدة، فحتي لقاؤه به يكون عدميا، يعيش في ذاته مع لحظة لقاء صديقه، ولديه ايضا صاحب في العمل، فهو يسرق معه، وليس بينهما علاقة ود وصداقة، مجرد تبادل مهارات السرقة، هنا يؤكد البطل مقولات شوبنهاور حول سعادة الانسان لذته، حيث يري شابنهور ان متع الانسان الكلية ولذته تتوقف علي الانسان نفسه أكثر من توقفها علي الظروف الخارجية، والاخر باشكاله المتعددة، فالذات قادرة علي خلق عالم خاص بها يمنحها السعادة والحب والمتع.

ايضا يوضح شوبنهاور علاقة الذات بالعالم الخارجي، حيث يصبح هذا العالم خارجيا دائما، يتلاعب به الانسان من اجل ذاته الداخلية، فيري شوبنهاور ان هذا العالم الخارجي حلماً، ابدعته الذات في امتثالها، ولا وجود له خارج هذا الامتثال، فكما كانت السعادة داخل الذات، في هذا العالم الخارجي تمثله داخل الذات، ولا يعتبر عالمه خارجيا له ارادة خارج الذات.

ورغم مسعي البطل الشوبنهاوري الي العيش داخل ذاته وبحثه عن السعادة، الا انه يفشل في ذلك، ويشعر بالالم  والحرمان واللاهدف، ويصبح الوجود مصدرا للالم بجانب الذات التي يعيش فيها، وكل شئ بالنسبة له مروع ومرعب، تعلوه الظلمة، ويقصد بريسون في الفيلم ان العيش داخل الذات كثيرا والتعالي علي الاشياء والعالم والاشخاص يؤدي الي شخصية قوية عنيدة في مظهرها الخارجي، ولكنها حزينة متألمة ضعيفة في داخلها، فالبطل لا يحاول الخروج من ذاته، فهو مستسلم لمذهبه الذاتي طوال الفيلم.

وتتحول ذات البطل الي ذات شوبنهاورية مادية خالصة، فيصبح فعل النشال في السرقات والحياة ذو ابعاد مادية شوبنهاورية، فالنشال يستند للعقل باستمرار، فالعاطفة محذوفة من شخصيته، والعقل مادة، فالنشال وفي باستمرار لفلسفة شوبنهاور الفكرية والنفسية، وفي فكر شوبنهاور قانون علية الاشياء الذي يسود الوجود بمنتهي والدقة والاحكام في نسيجه المادي، لأن المادة جوهر الفعل، ويعدد شوبنهاور خواص المادة علي أساس قبلي خالص، في مقابل  خواص الزمان والمكان، وهي تتشابه تمام التشابه، وأهم هذه الخواص أنها أولا واحدة، فليس ثمة غير مادة واحدة، وما المواد الجزئية غير حالات مختلفة،ولهذا فلا شئ يمنع من تحول المواد أيا ما كان تباعدها، بعضها عن بعض، فشوبنهاور جعل المادة من صنع العقل بوصفها صورة قبلية من صوره، بل وصورته الوحيدة بوصفها العلية.

ثانيا التعالي النيتشوي

يشعر البطل أنه متعالي علي الاخرين، ويهزمهم بسرقتهم وخداعهم، ثم الهروب، يحتقرهم، ويري أنهم لاشئ بالنسبة له، هذا نشال غير عادي، شخصية السوبرمان، الانسان المتعالي، الانسان الفوقي، ليس لديه قيم عامة تردعه، او يؤمن بها، انما لديه منظومة القيم الخاصة به، التي يكونها من منطلق مبدأ القوة، وسحق الآخرين، والتعالي عليهم، وعدم ارهاق نفسه بالعاطفة مع باقية البشر، فقد كبت حبه للفتاة ولأمه، وللعالم والاصدقاء وكل شئ، واتخذ من مهنة السرقة معنا رمزيا لاحتقار العالم والتعالي علي الاخرين، فهو ينتزع ما يملكون ويهرب، فهو بذلك ينتصر عليهم، ويتفنن في حيل السرقة،  فهو دائما يريد الوصول الي الانسان الاعلي، والوصول الي اعلي وارقي تجليات ارادة القوة، ويطبق ما قاله الفيلسوف الالماني فريدريك نيتشة”: الانسان ليس سوي مرحلة وسيطة، لا هدف لها سوي الوصول إلي الانسان الاعلي”.

الإنسان الأعلى

يرتبط مفهوم “الإنسان الأعلى” عند فريدريك نيتشه، بالتحرر الكامل للإنسان من الأخلاق والأديان، الأمر الذي يؤدي، بحسب نيتشه، إلى تحرير القوى اللاعقلانية في الإنسان؛ لذا دعا نيتشه إلى القيام بأفعال خارجة عن نطاق الأخلاق للحصول على” التحرر الكامل”. وهذا ما يفسر قيام أتباعه من بعده باقتراف ما سُمِّيَ بـ”الجريمة الكاملة”. وهنا نشاهد البطل النشال في الفيلم يسعي للجريمة الكاملة عن طريق حيل جديدة ومبتكرة للسرقة.  

في منظور نيتشة للانسان الاعلي، دائما يحاكم نفسه محاكمة عقلانية عادلة يدين نفسه ويستنكر ذاته، فيتوصل إلى حقيقة عدم كماله، فيتألم بشدة ويري العالم معقدا للغاية بل ينشد غايات غير محددة، ومتشابكة، ويري أن عدم الكمال لديه ليس ضرورة خارجية، بل هو يتعلق بالإنسان نفسه: فهو قادر على تغيير واقعه. وهو ما نراه في بطل الفيلم، حيث الصراع النفسي داخلي مكثف للغاية، ويتضح هذا في نظراته وحركات الجسد، وطريقة حديثه، فتدل علي هذا الصراع للانسان العالي، يحاول الوصول الي الكمال وعدم التصالح مع واقعه بسهولة، حالة الصمت الداخلي والخارجي التي يعيش فيها النشال، حتي طرق السرقة وحركة الاقدام، وحركة الايدي، تدل علي رغبة شديدة في التفوق والوصول الي حالة أعلي من الترقي والتميز. فلديه دافع طبيعي داخلي لدى الإنسان يجعله يرغب في الكمال اللامتناهي؛ إذ إن عنده رغبة طبيعية في أن يصير أفضل وأكبر مما هو عليه في الواقع.

ثالثا هواجس فرويد

البعد النفسي في الفيلم وشخصية النشال هائلة، مما يستدعي حضور التحليل النفسي للفيلم، ومنها الكبت الفرويدي: حيث اعتاد بطل الفيلم علي الكبت، فقد كبت عاطفته تجاه كل شئ، تجاه حبيبته فليس هناك تصريح بشئ من الحب او تصرفات تدل علي ذلك غير اخر مشهد عندما مسك يديها خلف قضبان السجن، ونظر اليها بشغف وحزن، وكذلك تجاه والدته، وهو ما ظهر علي ملامحه وجسده، فالانسان جسد وشخصية، وكلاهما يتأثران ببعضهم البعض، ومما يعني ان أي كبتٍ للرغبات الجسدية سيُعطي تأثيرًا سلبيًا على الشخصية.وعندما تكبت مشاعرك الشخصية كالقلق والغضب فإنها ستؤثر تأثيرًا سلبيًا على الجسد.وليس هناك ممارسة جنسية للبطل، ومشاهد ترمز لذلك فهو شخصية مكبوتة علي المستوي النفسي، ومكبوتا جسديا علي مستوي أخر، مما يعني انه مكبوتا بشكل كامل، مما يعني وصوله الي درجة عالية من الالم النفسي، والتعقيد الفكري والنفسي، وهذا ظهر في نظراته وحركة جسده، وصمته الشديد.

وهناك ايضا الطفولة الغائبة: فلم يتعرض الفيلم لتطورات شخصية البطل، من حيث طفولته، والاسباب التي دفعته الى السرقة، ولكن ملامح وصفات حضور الشخصية في الفيلم يعني وجود طفولة صعبة مؤلمة للغاية، اثرت علي بطل الفيلم وجعلته علي هذه الحالة، فالبطل يعاني من خيالات وعقد نفسية، وهواجس مرتبطة بطفولته، فالطفولة رغم عدم سردها من قبل بيرسون في الفيلم، فهي حاضرة في شخصية البطل، وهي حاضرة من الناحية النفسية، وليس الجنسية، فالحياة الجنسية لشخصية البطل الطفل رغم ما حدث فيها لم تنعكس علي شخصية البطل في الفيلم، الا لو كانت هذه الحياة الجنسية تؤدي الي اضطرابات نفسية معنوية وليست جنسية جعلت منه نشالا، ولكن بيرسون يظل يحجب هذه الطفولة.

شخصية البطل متألمة، ويؤكد فرويد علي أن الإنسان يتجه بطبيعته نحو مبدأ اللذة السريعة لاشباع الرغبة لكنه يواجه بحقائق الطبيعة المحيطة به فيتجنب هذه اللذة التي تجلب له آلاماً أكبر منها أو يؤجل تحقيقها.وذلك يعني وجود تعارض بين الواقع واللذة، وشخصية البطل في الفيلم متألمة دائما، وتذهب الي فعل يأتي لها بألم ، ولكنه لا يفعل غيره، مما يزيد من تراكم الالم لديه، وهي شخصية المجرم، التي تعتبر شخصية غير سوية، ومتعارضة مع المجتمع، 

غريزة الحياة

يشير سيجموند فرويد عن وجود غريزتين ينطوي فيهما كل ما يصدر عن الإنسان من سلوك وهما غريزة الحياة وغريزة الموت. غريزة الحياة تتضمن مفهوم اللبيدو وجزءً من غريزة حفظ الذات، أما غريزة الموت فتمثل نظرية العدوان والهدم موجهة أساساً إلى الذات ثم تنتقل إلى الآخرين.وهذين الغريزتين لدي بطل الفيلم، مشوشين، فالألم الزائد عن الحد لديه، لا يفسر بأنه  يريد الموت أو لا يري أنه يريد الحياة او لا يريدها ، هو يهرب من كل شئ في المه وصمته، وحركاته الغامضة، فهو لم يحاول الانتحار أو يعبر عن ذلك بالكلمات في الفيلم، أنع يصبح معقد للغاية في هذه الغريزة، تحدث اضطرابات عظيمة ، ولكن البطل يتصف بصفات الانسان السوير مان لنتيشة، فهو يشعر بالتعالي، لذا فهو اقرب للحفاظ علي غريزة الحياةى، ولكن بشكل معقد واكثرت شابكا من الناحية النفسية، فهي غريزة الحياة لديه غير طبيعية.

اللاشعور متوقف عند البطل فهو يحتفظ بذاته لا يخطأ فيزداد الالم نتيجة عدم التفريغ، وحسب فرويد فأن اللاشعور وهو مقر ومستودع الرغبات والحاجات الانفعالية المكبوتة التي تظهر في عثرات اللسان والأخطاء الصغيرة والهفوات وأثناء بعض المظاهر الغامضة لسلوك الإنسان. وعند بطل الفيلم، لم تكن هناك عثرات لسان وهفوات، فكان اللاشعور أولي بكل شئ من أن يظهر، فزاد الالم لدي البطل، فكل رغباته المكبوته وانفعالاته مستقرة في اللاشعور، فليس هناك اي تعبير يفرزه البطل. فالصورة لدي بريسون في تحليل شخصية النشال هي تحت عباءةى اللاشعور الذي يحرك الشخصية دون ان يظهر منه شئ، فمساحة اللاشعور الميسطرة علي النشال كبيرة للغاية، فهي صورة لاشعورية ضخمة، تشعر المشاهد بالالم الذي يعاني منه بطل الفيلم.   

خلاصة

استطاع بيرسون في هذا الفيلم صنع صورة جمالية فكرية هائلة، بمعني التفلسف بالصورة، بجانب البعد الجمالي للتكوين المشهدي، الذي يشعر به المشاهد في كل لقطة، هناك جماليات فلسفية ونفسية تلمس المشاهد عبر شخصيات الفيلم، فهنا تفوق بريسون علي نفسه في صنع جماليات الفكرة والتحليل النفسي، لذا يحتاج الفيلم الي اكثر من مرة للمشاهدة والتحليل، فقد رمي بريسون بهواجسه النفسية والفلسفية والذاتية في الصورة، دون اي عدم انسجام، وليس هناك تأثير سلبي للفكرة الفلسفية والنفسية علي جماليات الصورة نفسها، فهناك تكامل جمالي بين الصورة والفكرة، فيعبتر بريسون فيلسوف الصورة المؤسس لفلسفة السينما، ومرجع اساسي لتفلسف بالصورة.

Visited 134 times, 1 visit(s) today