عن ثلاثية يوسف شاهين “الحساب مع الآخر”

Print Friendly, PDF & Email


(1)

ما يجعل من فيلم ” الإختيار” عملا استثنائياً وعظيماً، هو المسافة الهائلة الأسلوبية التى تفصله عن فيلم يوسف شاهين الكبير السابق عليه وهو فيلم “الأرض”، بينما يبدو الأرض عملا كلاسيكياً رصيناً يبعث على الـتأمل والشجن، رغم مضمونه الثورى، فإن فيلم “الإختيار” يبدو عملاً حداثياً يثير الحيرة والقلق، “الأرض” يرتب أحداثه مونتاجياً ومنطقياً من خلال تفصيلات واقعية خارجية، بينما “الإختيار” يعتمد على بناء معقد أقرب الى التداعى، ورغم وجود خيط رفيع، هو وجود جثة وجريمة قتل مطلوب البحث عن مرتكبها، إلا أن الفيلم فى الحقيقة لا يدور فى الخارج، وإنما داخل شخصيته الرئيسية المأزمومة، الكاتب والمثقف الذى ينتهى فى المشهد الأخير فى عربة مستشفى الأمراض العقلية، وبينما يمكن أن تحدد بوضوح السبب والنتيجة فى بناء سيناريو “الأرض”، فإن السبب والنتيجة غائمان عن قصد فى فيلم “الإختيار”، فى “الأرض” كان أبو سويلم يعرف ماذا يريد بالضبط : “ثلاثة أيام رىّ مش كفاية”، وكان يعرف خصومه بالضبط، من الحكومة الى الهجانة الى  المأمور، وكان يدرك الثمن الذى سيدفعه من أجل أرضه، أما  فى “الإختيار” فإن بطل الفيلم  الحقيقى (الكاتب وليس البحار) غير مستبصر أصلاً بطبيعة مرضه، وهو ينازل أشباحاً لا نراها، وحيرته تنتقل إلينا كاملة، شعوره بالذنب هائل وكأنه ارتكب خطيئة أخرجته من الجنة، وعلاقته بزوجته وشقيقه البحار معقدة للغاية، وعدوه الأول ليس شخصا خارجه، ولكن عدوه الحقيقى هو نفسه :” ما فيش أبشع من إن الواحد يواجه نفسه”، ولكنه لن يصل الى هذا العدو إلا فى المشاهد الأخيرة من الفيلم.

المسافة الشاسعة بين الفيلمين إذن ليست استعراضاً اسلوبيا من شاهين، أحد أساتذة تكوين الصورة السينمائية، والذى يستطيع أن يخلق الحركة فى سنتيمترات قليلة بحركة الكاميرا والممثل معا، ولكنك تتحدث عن موضوعين مختلفين فرضاً اسلوبهما فرضاً على مخرج ليست لديه أى مشكلات تقنية على الإطلاق، وهو قادر على أن يصوّر فقط ما يحتاجه بالضبط دون زيادة أو نقصان، “الأرض” دراما اجتماعية لا تخلو من دلالة سياسية (الدفاع عن الأرض حتى الموت رغم هزيمة 67)، ولكن “الإختيار”دراما نفسية ترتدى شكلا بوليسياً،  فى “الأرض” هناك حبكة واحدة واضحة وبسيطة: الفلاحون فى مقابل النظام، أما فى سيناريو “الإختيار” الملتبس، فنحن فى الحقيقة أمام حبكتين متداخلتين الى درجة التعشيق الكامل على طريقة الأرابيسك: حبكة أساسية  نفسية عن  مثقف مأزوم توفر له كل شئ ، الزوجة والمال والمناصب والشهرة، ولكنه أفتقد أهم شئ وهو الحرية، وحبكة فرعية تخدمها وتصب فيها، وهى العثور على جثة لها علاقة ما بالكاتب، مما يقوم بتعريته الى درجة الإنهيار.

هدف الحكاية بأكملها ليس الوصول الى المجرم، الهدف هو إيجاد معادل درامى وبصرى ينقل إليك حالة التمزق والإنشطار والحيرة والإلتباس التى يعيشها البطل ( مرة أخرى البطل هو الكاتب وليس البحّار) لأنه تنازل يوماً عن مبادئه، ولأنه قنع بأن يكون جزءاً من السلطة  وليس واقفا على يسارها، ولأنه هرب من نفسه لسنوات حتى حاصرته فى النهاية، ولذلك كله يتلاعب السيناريو بثلاثة إحتمالات طوال الوقت: فإما أننا أمام توأم أحدهما بحار حر ومنطلق يستمتع بحياته، والثانى مثقف مأزوم ومقيّد رغم أنه يبدو أفضل حالاً، ووفقاً لهذا الإحتمال، فإن المثقف حقد على البحار وقتله، خاصة أن يتمتع بالحرية، كما أنه يستحوذ على قلب زوجته الجميلة، وإمّا (الإحتمال الثانى) أننا أمام حالة تعدد فى الشخصية، مثقف مأزوم يمارس فى الصباح دوره المرسوم له من المجتمع، ويقوم ليلا بممارسة ما يرضيه هو من حيث الحرية وتحقيق الذات، أى اننا أمام شخص انقسم الى اثنين، ولسنا أمام توأم ، وإما (الإحتمال الثالث) أننا أمام مزج بين الإحتمالين، المثقف قتل توأمه البحار، فتزايد اضطراب المثقف وانشطاره، الموجود اصلا، فقرر أن يحل محل أخيه البحار التوأم الذى قتله، يعيش حياته فى الليل، ثم يعود الى حياته الأصلية الرتيبة فى الصباح.

مرة أخرى، هذا التلاعب ليس مجانياً، ولكنه يحاول أن ينقل إليك مأساة هى فى الواقع داخلية، بينما الدراما فعل ومواقف، أى انك يستحيل أن تعرف أن هناك بركانا وفوضى داخل عقل إنسان، إلا إذا تحولت هذه الفوضى، وهذا الإلتباس الداخلى الى فعل حركى وبصرى ودرامى، وهذا ما فعله الفيلم بامتياز، ولذلك فإن التعامل مع “الإختيار” على أنه فيلم مريح ينتهى بايداع البطل فى  مستشفى الأمراض العقلية، أو أنه فيلم عن جريمة وقاتل  ومحقق هو أيضاً  أمر خاطئ تماما، لأن الفيلم ببساطة عن الفوضى التى تحدث فى المجتمع وفى داخل المثقف نفسه، إذا سقط هذا المثقف، فى هذه الحالة يفقد الاثنان البوصلة: المثقف والمجتمع، يقول “الإختيار” إنه عندما يختار المثقف بشكل خاطئ، فإنه ومجتمعه يتحولان الى ما يقترب من المتاهة التى شاهدناها، هذا هو معنى مأساة البطل سواء كان مريضا أو قاتلا أو حتى حالما بالقتل فى عقله الباطن، وهذا هو مغزى لقطة النهاية  (إشارة الإسعاف الحمراء التحذيرية).

“الأرض” يمجّد رسوخ عبد الهادى وابو سويلم، بينما “الإختيار” ينقل ارتباك وحيرة الكاتب (عزت العلايلى) والمحقق (محمود المليجى)، وقد فهم الممثلان العظيمان المسافة بين أدوارهم فى الفيلمين، فبدا كما لو أن هناك أشخاصا آخرين مثلوا وأخرجوا “الإختيار”، لا علاقة لهم بصنّاع فيلم “الأرض”، السر فى ذلك هو أن موهوبا عبقريا اسمه يوسف شاهين، نجح فى أن يجعل من ” الأرض” عملا كلاسيكيا، ثم جعل من “الإختيار” أحد أهم الأفلام الحداثية المصرية، وقال ما يريد فى كل مرة، رغم اختلاف الشكل والأسلوب ، وهو أمر لا يتأتى إلا لعدد قليل من كبار المبدعين.

(2)

يمثل فيلم “العصفور” النموذج الأجرأ والأكثر نضجاً فى تحليل أسباب هزيمة 1967، وهو الفيلم الثانى فى ثلاثية أطلقت عليها ” تصفية حساب شاهين مع الآخر”، والتى أتبعها المخرج الكبير برباعية “تصفية الحساب مع الذات” من خلال أفلام (اسكندرية ليه وحدوتة مصرية واسكندرية كمان وكمان ثم اسكندرية_ نيو يورك)، بصمة لطفى الخولى واضحة جدا فى الفيلم من حيث مغزاه السياسى، الفيلم يقول بوضوح غير مسبوق أن النظام هزم من داخله قبل هزيمته العسكرية، وأنه من المستحيل أن تنتصر فى الخارج دون أن تقضى على السوس والفساد الداخلى الذى أدى الى الكارثة، الخارج ببساطة ليس فى الواقع إلا حصاد الداخل، ولأن الخولى من رموز اليسار المصرى، فإن الحل الذى يقترحه لا يتأتى إلا بأن يمسك الشعب بزمام الأمور من جديد، أن يسترد الشارع والتأثير (كما حدث فى أحداث 9 و10 يونيو)، أن يتحرر مثل العصفور الذى يطلقه محمود المليجى من قفصه فى لقطة شهيرة وبليغة، بل يكاد الفيلم يعتبر أن الهزيمة فرصة عظيمة للحرية ولتصحيح المسار، لا يمكن أن تسترد الأرض إلا إذا قمت باسترداد شعبك، لن تهزم إسرائيل إلا بالقضاء على المجرم أبو خطوة، وعلى كل فاسد يسرق وينهب، خطر هؤلاء أكبر من إسرائيل، إنه الطابور الخامس الذى يقتح الباب للهزيمة.

أنتج الفيلم قبل حرب أكتوبر، وتم منع عرضه فى مصر، رغم عرضه فى مهرجان كان،  حتى لا يؤثر على روح الشعب المعنوية كما زعموا، ثم عرض  تجاريا بعد انتهاء الحرب ليكتشف الجمهور أن رؤية الفنان سبقت الواقع، وأن الفيلم لم يكن محبطا، ولكنه كان يقدم روشتة لتجاوز المحنة، اكتشف الجمهور أن الفيلم (رغم براعة تشريحه الموجع) مفعم بالأمل، بل إنه محرّض على الحرب بمعناها المزدوج ( فى الداخل ضدالفساد وفى الخارج ضد إسرائيل)، الفيلم ايضا يتحدث عن جيل شاب لم يترك السلاح بكل أنواعه (سيف عبد الرجمن  ومحمود قاببل وصلاح قابيل)، وهناك بالطبع بهية البهية (محسنة توفيق)، التى أصبحت الرمز المفضل لشاهين تعبيرا عن مصر ، أرجو أن تلاحظ أن نهاية الفيلم، واكتساح الجماهير للشارع، لم يكن للهتاف لعبد الناصر، ولكن لرفع شعار ” ح نحارب .. ح نحارب)،  ولا تنس أغنية مصر يامة يابهية، ولا موسيقى الفيلم التصويرية البديعة على إيقاع المارش (قام على إسماعيل بعد حرب اكتوبر بتحويلها الى أغنية رايحين .. ماشيين فى إيدنا سلاح بعد أن كتبت نبية قنديل كلمات تناسب الموسيقى)، وهناك أخيرا ذلك الطفل الريفى الذى يهبط القاهرة لزيارة الحسين والسيدة دون أن يعرف أحداً، والغريب أنه سيصل فى النهاية، هل كانوا يريدون أملا أكثر من ذلك ؟!

وصفتُ مونتاج هذا الفيلم بأنه شديد الخشونة، اللقطات تقفز قفزاً بل إننى كتبت أن رشيدة عبد السلام استخدمت الساطور، لا المقص، فى التقطيع، وما كان يمكن أن يكون الأمر أكثر مناسبة من ذلك، الحكاية أساسها فكرة الصراع، حرب حقيقية وكابوس الهزيمة يظلل كل شئ، تشعر أن شاهين كان يرتعش من الضعط النفسى والعصبى، هناك شحنة إنفعالية زائدة  يريد إخراجها، هو أصلا شخصية متوترة، ولكنه قصد هنا أن ينقل الى المشاهد أزمته (وأزمة الوطن)، فكانت هذه اللقطات السريعة المتتابعة وغير المشبعة (باستثناء مشهد النهاية)، ستجد هذه القطعات الخشنة ايضا فى فيلم “الإختيار” الذى يكشف عن أزمة نفسية وفكرية عميقة، شئ أقرب الى الشرخ المؤلم، يعرف شاهين ورشيدة، المونتيرة العظيمة، كيف يكون القطع خشنا، وكيف يكون سلسا وناعما، ويعرف ذلك طلاب معهد السينما، ولكن شكل الفيلم لابد أن يعبر عن مضمونه، والجمال الفنى ليس فى الإلتزام  بقواعد جامدة غير مناسبة، وإنما فى كسرها أحيانا للتعبير عن الأفكار والمعانى.

لقطة من فيلم “عودة الإبن الضال”

(3)

“عودة الابن الضال” هو ذروة ثلاثة أعمال متتالية أطلقت عليها (ثلاثية شاهين لتصفية الحساب مع الآخر)، والتى بدأت بفيلم “الإختيار” ( إدانة حداثية مريرة لازدواجية المثقفين)، وبعده فيلم العصفور(  يقول الفيلم إن مصر هزمت فى الداخل قبل أن تهزم من إسرائيل)، ثم جاء الابن الضال الذى يقدم تشريحا مذهلا لصعود اليمين  الجشع وتراجع اليسار فى وقت مبكر للغاية (عرض الفيلم عام 1976 أى بعد عام واحد من سياسة الإنفتاح)، كما يقدم  الفيلم مرثية لا نظير لها لجيل الأحلام الضائعة (الذى يمثله فى الفيلم على الذى قام بدوره الممثل المصرى الرائع أحمد محرز، كما يمثله واقعيا الجيل الذى صدمته هزيمة 67 وعلى رأسه صلاح جاهين مؤلف القصة، وشاهين المخرج)، وينتهى الفيلم الى ما يقترب من النهاية الثورية الراديكالية غير المسبوقة،  مجزرة دامية تكاد تعلن فشل جيل الأجداد ( محمود المليجى وهدى سلطان)، وتخبّط جيل الوسط الذى يقتل بعضه بعضا (محرز وشكرى سرحان وسهير المرشدى/ الجميلة المنتهكة)، ويبقى الأمل الوحيد فى الجيل الجديد (إبراهيم / هشام سليم، وتفيدة/ ماجدة الرومى)، حيث يهربان فى سيارة الى الإسكندرية (رمز كل شئ حر وجميل ومبدع عند يوسف شاهين)، يتجهان نحو قرص الشمس، بينما كان “على” يهرب من الشمس فى لقطة بطيئة متكررة، صحيح أنها شمس مريضة برتقالية فى الحالتين، ولكنها شمس على أية حال.

أطلق شاهين على فيلمه توصيف “مأساة موسيقية”، حتى لا يدخل تحت التصنيف الشهير وهو “الكوميديا الموسيقية”، ولكن هذا المصطلح الأخير أصبح يستوعب من وقت طويل الأفلام الموسيقية التى تتعرض لموضوعات تراجيدية أو عميقة كما فى أفلام “كباريه” او “كل هذا الجاز” لبوب فوس مثلا، الأهم من التصنيف فى رأيى هو الإستخدام الفذ للأغنيات التى يستحيل أن تحذفها دون أن يؤثر ذلك على معنى الفيلم، وبالذات استعراض “الشارع لنا”، الذى أصبح مانيفستو الثورات المصرية، وهو استعراض تحريضى نجا بأعجوبة من الرقابة (الشارع لنا/ الشارع لنا/ والناس التانيين/ دول مش مننا/ قولوا له ياولاد الشارع لمين/ قولوا له ليكون/ البعيد غفلان)، وينتهى الإستعراض بظهور حصان الكاوبوى أمام المتظاهرين إرهاصا بتحالف اليمين مع أمريكا، والإستعراض كله محاولة لبعث على/ المهزوم والعائد من السجن، والذى فرمه الزمن فى عز شبابه (أغنية الساعة من نفس الفيلم).

أما الأغنية الثانية المذهلة فهى بالطبع “مفترق الطريق” لماجدة الرومى التى تلخّص معنى الفيلم  كله (رثاء جيل مهزوم وصعود جيل جديد: آدى القدر وآدى اللى كان وآدى المصير  .. نودع الأحزان/ نودع الأشباح .. راح اللى راح ما عدش فاضل كتير.. إيه العمل بعد ده يا صديق؟ غير إننا عند افتراق الطريق/ نبص قدامنا/ على شمس أحلامنا/ نلاقيها بتشق الظلام الغميق)، هذه الأغنية فى تكاملها صوتيا وبصريا ومن حيث دورها وأهميتها فى التعبير عن معنى الفيلم هى  فى رأيى أفضل أغنية سينمائية فى تاريخ الفيلم المصرى.

ذكرى شخصية أخيرة: شاهدتُ هذا الفيلم/ التُحفة لأول مرة وأنا طالب فى الجامعة فى منتصف الثمانينات تقريبا، أحضر شاهين نسخته الخاصة فى سيارته ( الفيلم إنتاج مشترك بين  شركة مصر العالمية والجزائر)، وساعدناه  نحن الطلاب فى نقل البويبنات وتركيبها فى ألة العرض الخاصة بشاهين، وكان قد أحضرها معه أيضا، مكان العرض فى مدرج رقم 1 بالدور الأرضى بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية .. جامعة القاهرة،  بعد المشاهدة، وقفنا نصفق فى ذهول بعد لمدة لا تقل عن 10 دقائق فى منظر يشبه تكريم شاهين فيما بعد فى مهرجان كان، ووسط تأثر شاهين الكبير وكذلك بطلة الفيلم سهير المرشدى، ظللنا نناقشه فى الندوة، وبعد العرض (أمام الجامعة)  لوقت طويل جدا، كان سعيدا للغاية بأسئلتنا، كما طلب أن نستكمل معه الحوار فى مكتبه المعروف فى شارع شامبليون، لاأحد  مثل شاهين فى بساطته وخفة ظله وحضوره وسط الناس.

Visited 67 times, 1 visit(s) today