تحليل جوائز مسابقة مهرجان كان الـ69

Print Friendly, PDF & Email

كانت المفاجأة الكبرى التي لم يتوقعها معظم النقاد في مهرجان كان، حصول الفيلم البريطاني “أنا دانييل بليك” على “السعفة الذهبية” وهي الجائزة الأكثر شهرة وأهمية من بين جوائز المهرجان. وهذه هي المرة الثانية التي ينالها المخرج كن لوتش (80 سنة) المعروف بمواقفه السياسية اليسارية التي دفعته إلى تأييد نضال الشعب الفلسطيني والدعوة إلى مقاطعة إسرائيل بل وقد رفض بالفعل عرض أفلامه في المهرجانات الإسرائيلية. وكان فيلمه “الريح التي تهز الشعير” عن نضال الأيرلنديين من أجل الاستقلال، قد نال الجائزة نفسها عام 2006.

معظم التوقعات كانت تشير بشكل شبه مؤكد إلى فوز الفيلم الألماني “توني إيردمان” للمخرجة مارين أدي بالجائزة، وهو فيلم من نوع الكوميديا الإنسانية، ويبلغ توقيت عرضه ما يقرب من ثلاث ساعات، ويعتبر أكثر الأفلام التي نالت إعجاب الجمهور والنقاد في هذه الدورة الـ 69 من المهرجان التي شهدت تنافس 21 فيلما من بينها عدد من أفلام كبار المخرجين في العالم.

وقد ظل الفيلم الألماني يتربع على قمة ترشيحات نقاد مجلة “الفيلم الفرنسي” ومجلة “سكرين انترناشيونال” حتى اليوم الأخير. ولكن توقعات النقاد لا تتفق دائما مع نتائج لجنة التحكيم، التي رأسها هذا العام المخرج الاسترالي جورج ميللر صاحب سلسلة أفلام “ماكس المجنون”. وكما حدث في العام الماضي عندما ذهبت السعفة الذهبية إلى فيلم “ديبان” الفرنسي على عكس التوقعات التي رشحت فيلم “شباب” للإيطالي باولو سورينتينو، ذهبت الجائزة إلى فيلم كن لوتش البديع والمؤثر الذي يصور كفاح نجار متقاعد عاجز عن العمل من أجل الحصول على الاعانة المالية من الضمان الاجتماعي، ومحاولته تجاوز العقبات البيروقراطية التي وضعها المسؤولون في طريقه بدعوى تغير اللوائح.

كان المتحيزون للفيلم الألماني يرون أنه الأقرب للجائزة كونه أولا لمخرجة (امرأة) وهو ما يرجح فوزه لأن السعفة الذهبية لم تذهب سوى مرة واحدة من قبل إلى مخرجة منذ أن بدأ مهرجان كان منحها قبل ستين عاما (كانت تسمى قبل ذلك الجائزة الكبرى) وهي الجائزة التي نالتها المخرجة النيوزيلندية جين كامبيون عن فيلم “البيانو” (1992). كذلك كان فوز “توني إيردمان” متوقعا كون السعفة الذهبية لم تمنح لفيلم ألماني منذ أن حصل عليها فيلم “باريس تكساس” لفيم فيندرز (1982) كما أن السينما الألمانية كانت غائبة لسنوات طويلة عن مسابقة المهرجان. لكن ماحدث أن الفيلم الألماني- ولنا عليه ملاحظات عدة تستحق أن نخصص ولها وله مقالا مستقلا- خرج من المنافسة دون الحصول ولا حتى على جائزة أحسن ممثل التي كان قد رشح لها أيضا بطله الممثل بيتر سيمونشيك، لكن الفيلم حصل على جائزة الاتحاد الدولي للصحافة السينمائية (الفيبريسي).

نهاية العالم

الجائزة التالية في أهميتها بعد السعفة الذهبية وهي الجائزة الكبرى للجنة التحكيم ذهبت إلى فيلم “إنها فقط نهاية العالم” للمخرج الكندي زافييه دولان (27 سنة) وهو فيلم سبب انشقاقا كبيرا بين النقاد، فهو معد عن مسرحية للكاتب الفرنسي جون لوك لاغارس، تروي كيف يصل كاتب شهير موشك على الموت من جراء اصابته لمرض الإيدز، إلى منزل عائلته، ليجمع أفرادها ويخبرهم بأنه مشرف على الموت، وعلى العشاء تتفجر كل التناقضات بين أفراد العائلة وتُخرج أسوأ ما فيهم جميعا. لكن عيب هذا الفيلم الذي جعل البعض لا يتحمل إكمال مشاهدته، أنه يدور في معظمه في مشاهد محدودة خانقة من خلال لقطات تركز على الوجوه، بينما لا يكف الجميع عن الصراخ والثرثرة والحوارات المرهقة، مع انتقالات فجائية للكاميرا التي تحصر الشخصيات داخل اطار ضيق يجعل الشاشة شبه مربع، في تكرار لتجربته البصرية السابقة في الفيلم الذي عرض بمسابقة العام الماضي “مومي” (ونال جائزة خاصة مناصفة مع فيلم جون لو غودار “وداعا للغة”) ولكن شتان ما بين هذا الفيلم والفيلم السابق الذي كان أكثر طموحا في الشكل السينمائي.

التمثيل

حصلت الممثلة الفلبينية جاسلين جوزيه على جائزة أحسن ممثلة عن دور البطولة في فيلم “ماما روزا” للمخرج الفليبيني الشهير بريلانتي ميندوزا، وفيه تقوم بدور امرأة فقيرة لديها ثلاثة أطفال، تقطن في منزل متداع في أحد الأحياء الهامشية في مانيلا، تكسب عيشها بصعوبة مع زوجها المريض فتلجأ إلى توزيع المخدرات لحساب موزع آخر، لكنها تسقط مع زوجها في قبضة الشرطة، ويطالبها رجال الشرطة بدفع مبلغ مالي ضخم مقابل الافراج عنها مع زوجها، كما يطلبون منها مساعدتهم في الايقاع بالشخص الذي كان يزودها بالمواد المخدرة ثم يقبضون عليه ويطالبونه بدوره بدفع فدية مالية ضخمة مقابل اطلاق سراحه، وهكذا في دورة تكشف دائرة الفساد في أوساط الشرطة.

لقطة من الفيلم الألماني “توني إردمان” الذي توقع النقاد فوزه بالسعفة الذهبية

كانت الممثلة البرازيلية سونيا براغا بطلة فيلم “أكواريوس” تنافس بشدة على جائزة أحسن ممثلة وهي التي تألقت في دور سيدة متقاعدة (65 سنة) قوية الشخصية، محبة للحياة، تمكنت من قهر مرض سرطان الثدي، تقاوم محاولات شركة مقاولات لإرغامها على ترك شقتها لهدم البناية وإقامة برج إداري جديد مكانها.

البائع الإيراني

وحصل الممثل الإيراني شهاب حسيني على جائزة أحسن ممثل عن دوره في فيلم “البائع” للمخرج أصغر فرهادي، صاحب فيلم “انفصال نادر وسمين” (الحاصل على أوسكار أفضل فيلم أجنبي عام 2012) وفيلم “الماضي” الذي عرض في مسابقة “كان” قبل ثلاث سنوات. يقوم حسيني في الفيلم الجديد بدور زوج يعمل مدرسا كما يقوم بالتمثيل في فرقة مسرحية تتدرب على تقديم مسرحية “موت بائع متجول” لآرثر ميللر، وتشاركه زوجته وهي معلمة مثله وممثلة تشاركه بطولة المسرحية، لكنها تتعرض أثناء غيابه عن المنزل ذات يوم، لحادث اغتصاب ويسعى هو من أجل الإيقاع بالشخص الذي اعتدى عليها والانتقام منه. وكان “البائع” أحد الأفلام التي رشحت لنيل السعفة الذهبية أيضا. وقد فاز بجائزة ثانية هي أحسن سيناريو وهي جائزة مستحقة بلاشك.

جائزة أحسن إخراج مُنحت مناصفة إلى اثنين من المخرجين: أولهما المخرج الروماني كريستيان كونجيو (حائز السعفة الذهبية عن “أربعة أشهر وثلاثة أسابيع ويومان- 2005) وقد حصل عليها عن فيلمه البديع “بكالوريا” الذي كان ينافس بقوة على السعفة الذهبية وهو في رأي كاتب هذا المقال، أفضل فيلم عرض في المسابقة من جميع الجوانب، ويستحق دون شك مقالا خاصا. أما المخرج الثاني الذي تقاسم جائزة الاخراج فهو المخرج الفرنسي أوليفييه أسايس عن فيلم “المتسوقة الخاصة” الذي قامت ببطولته كريستين ستيوارت، وهو فيلم لقي الكثير من الهجوم من جانب النقاد، واعتبر من أسوأ أفلام مخرجه، وقد قوبل تقسيم الجائزة ومنحها لأسايس أيضا بصفير الاستهجان، لكن الفيلم وجد أيضا من يدافع عنه ويبرر فوزه. ستيورات التي سبق أن قامت بدور رئيسي في فيلم “سحب سيلس ماريا” للمخرج أسايس وقد عرض في مسابقة المهرجان العام الماضي، تقوم في هذا الفيلم بدور فتاة أمريكية في باريس تتجسد لها روح شقيقها التوأم المتوفي وتسيطر عليها.

لاشك أن تقسيم الجائزة، وهو أمر غير شائع في مهرجان كان، ليس له ما يبرره خاصة وأن فيلم “بكالوريا” يتميز بمستوى فني رفيع كان يؤهله للحصول على السعفة الذهبية كما ذكرت، وهو يناقش الموقف الأخلاقي لأب، يتمتع بمهنة مرموقة، وسمعة جيدة في مجال عمله كطبيب ناجح، يبدو على استعداد لأن يدعم تفوق ابنته بأي ثمن، حتى لو كان معنى ذلك تجاوز ما يحظره القانون، من أعمال تبدو كأنها مجرد “تبادل خدمات” لكين يضمن تفوقها في امتحان البكالوريا ومن ثم قبولها في احدى الجامعات البريطانية.

عسل أميركي

ولم يكن مفاجئا أن يفوز الفيلم الأمريكي “عسل أمريكي” للمخرج البريطانية أندريا أرنولد بجائزة لجنة التحكيم الخاصة، ففيه تجرب من خلال فيلم يقترب من الثلاث ساعات، كيف تصنع فيلما بدون دراما حقيقية بل يعتمد فقط على رصد حيرة فتاة أمريكية مراهقة تتخلى عن أسرتها وتهجر عملها ودراستها، وتلتحق بمجموعة من المغامرين الباحثين عن المال عن طريق بيع شيء أقرب إلى الوهم في ربوع الريف الأمريكي، من الجنوب إلى الشمال.. وما تتعرض له من صدمات تساهم في نقلها من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الاكتمال. والطريف أن هذه المرة الثالثة لحصول المخرجة أندريا أرنولد على الجائزة نفسها في مهرحان كان، فقد حصلت عليها مرتين من قبل عن فيلمها الأول “الطريق الأحمر” (2006) والثاني “حوض الأسماك” (2009).

كان من المفاجئ بالطبع أن يحصل الفيلم الفرنسي التجاري الهزلي العنصري “إللهيات” (وهي تسمية لا معنى لها في سياق الفيلم) على جائزة الكاميرا الذهبية التي تمنح للفيلم الأول. وقد عرض الفيلم في البرنامج الموازي “نصف شهر المخرجين” الذي تنظمه الجمعية الفرنسية للمخرجين، ومن إخراج هدى بنيامينا وهي فرنسية من أصول مغربية، وفيه تقدم نموذجين لفتاة عربية وأخرى افريقية من بنات المهاجرين، ولكن في صورة تجعل منهن نمطين كاريكاتوريين يضحك عليهما الجمهور الفرنسي ويسخر من تخلفهما، خاصة وأنهما تلجآن للعنف وترفضان الأسرة، وتتمردان على المدرسة، بحثا عن المال ولو عن طريق الجريمة.

ولكن هذا هو حال المهرجانات وجوائزها، التي يتم عادة تقسيمها لإرضاء أكبر عدد ممكن من المشاركين. والدورة الـ 69 لم تكن من الدورات التي سيتم تذكرها كثيرا على أي حال، فقد خذلنا كثير من الأسماء الكبيرة في عالم الإخراج بأفلام لا ترقى إلى مستوى أفلامهم السابقة.

Visited 19 times, 1 visit(s) today