بُعد المسافة في أفلام شانتال أكرمان

شانتال أكرمان شانتال أكرمان
Print Friendly, PDF & Email

جانيت بيرجستورم

ترجمة: رشا كمال

أعلنت جريدة لوموند في عدد شهر يناير لعام 1976 أن فيلم (جين ديلمان، 23 شارع التجارة، 1080 بروكسل Jeanne Dielman, 23 quai du Commerce, 1080 Bruxelles) للمخرجة البلجيكية شانتال أكرمان يعتبر التحفة السينمائية النسوية الأولى في تاريخ السينما العالمية. فاختلافه من حيث الأسلوب (التصوير بتأطير أمامي ثابت، المونتاج المختزل) والموضوع (اغتراب إحدى السيدات عن التفاصيل الروتينية لحياتها اليومية وتورطها في أحد أشكال الدعارة السرية مما دفعها لارتكاب جريمة قتل في آخر الأمر) جعلا من الفيلم علامة تاريخية قوية لبدء انخراط النسوية في حقلي السياسة والسينما. وفيه حاولت أكرمان توصيل وجهة نظر متأصلة ومغايرة عن وجهة نظرها الشخصية إي كونها امرأة شابة متغلغلة في روح جيل والدتها. ولا يزال الفيلم حتى وقتنا هذا يتمتع بلمسة حديثة تصبغ كل دقيقة من مدته البالغة ثلاث ساعات وعشرين دقيقة.

ولا يعد هذا الفيلم العمل التجديدي الوحيد في مسيرة مخرجته، فمجموعة أفلامها دفعت لاكتشاف تطورات إمكانيات الوسيط السينمائي مع كل فيلم جديد تقدمه. تزامن نضوج أكرمان مع بزوغ الموجة النسوية الثانية. واعتبرت أفلام مثل “جين ديلمان” Jeanne Dielman، “أنا وأنتِ وهو وهيJe, tu, il, elle، و”أخبار من الوطن”News from Home نصوص أساسية في حقل دراسات النظرية النسوية للأفلام.

حيث طرحت النسوية تساؤلاً رئيسياً وبسيطاً حول هوية (المتحدث) عندما تتحدث المرأة في الفيلم (كشخصية، كمخرج..).

ومن جانبها أكدت أكرمان أن أفلامها ما هي إلا وسيلة للتخاطب من منظور وواقع نسوي عن كونهم مجرد حكايات.

الجدل حول تحديد ماهية شكل سينما المرأة الجديدة وقع بين التصنيفين التقليديين وهما: ما يسمى بالنزعة الواقعية (سهلة الاستيعاب) والنزعة التجريبية (أي النخبوية). فجاءت أفلام أكرمان لتلغي الحدود الباهتة بين هذين التصنيفين، باعتبار أفلامها نوعا صريحا من السيرة الذاتية بأسلوب منمق وغير مباشر. وأكثر جانب تناولته في أفلامها ولاقى اهتماماً كان عن علاقتها بأمها. وطرح المشهد الجنسي السحاقي الصريح الذي أدته أكرمان في نهاية فيلمها (أنا، أنتِ، هو، هي) وجهة نظر مغايرة عن مفهوم التلصص، والإثارة لصورة المرأة الجديدة على الشاشة.

لقطة من فيلم “موعد مع أنا”

أصبح بحثها المستمر عن هويتها اليهودية دافعا للعديد من أفلامها في السنوات اللاحقة، وموضع دائم للنقاش في حواراتها، وتجلى هذا بوضوح عندما تناولته في فيلمها “مواعيد آنا” Les Rendez-vous d’Anna (1978). كما تقول في إحدى حواراتها ” أنا بلجيكية، يهودية بولندية الأصل، ولدت في بروكسل، في السادس من يونيو عام 1950، وأردت صنع الأفلام وأنا في سن صغير وذلك عندما شاهدت فيلم “بييرو المجنون” لجودار”.

لقد شاهدت فيلم “بييرو المجنون” لأول مرة وهي في الخامسة عشرة من العمر، ولم تكن تعلم شيئاً عن مخرجه، ولم تكترث لأمر السينما كثيراً، فدفعتها تلك التجربة لإدراك هدفها لصنع أفلام كأفلام جودار، مشبعة بشهوانية فورية، كالتحدث وجهاً لوجه مع شخص ما.

ترجمت هذه الرغبة في تحفتها الجريئة الأولى “تفجير مدينتي” saute ma ville. كانت في الثامنة عشرة، بدون أموال أو دعم مالي من أي جهة: ” في يوم من الأيام أردت عمل فيلم عن نفسي فكان فيلم “تفجير مدينتي”، كنت بحاجة لآلة تصوير، وفيلم خام، ومعدات إضاءة، وشخص لإدارة آلة التصوير، فسألت أحد معارفي ما إذا كان يرغب في مساعدتي، واقترضت الكاميرا من شخص آخر، واشترينا الفيلم الخام، وانجزنا الفيلم في ليلة واحدة، ثم قمت بالمونتاج بنفسي بعد ذلك.

وتصف أكرمان فيلم “تفجير مدينتي” بالكلمات التالية: “نرى فتاة يافعة تدخل المطبخ، تؤدى أمورا عادية ولكن على نحو غريب وينتهي الأمر بانتحارها، على عكس شخصية جين ديلمان، كان رد فعلها الاستسلام، ولكن فتاة “تفجير مدينتي” كان رد فعلها الغضب والموت”.

أدت أكرمان شخصية الفتاة اليافعة، ويدور الفيلم حول المهام الروتينية العادية اليومية، ولكن المواقف الطريفة والمرعبة فيه، تنبثق من خروج تلك المهام البسيطة والاعتيادية عن السيطرة.

من فيلم “تفجير مدينتي”

إننا نرى الفتاة تغني كطفلة مشوشة ترغب في لفت الانتباه إليها، وعندها تتحول كل إيماءة تقوم بها إلى تجسيد لانهيار نفسي داخلي، كالرقصة المضطربة التي تؤديها أمام المرآة، تصبح حركتها ونشاطها المفرط نذيرا بائسا بانتحارها. والانفجار الذي لم يهز مدينتها فقط، بل وقضى عليها ايضاً، حدث عند إشعالها النار في خطاب (لم نتمكن من رؤيته) وهي مائلة فوق الموقد ونسمع الصوت العالي لتسرب الغاز.

تلك الصورة الصوتية تردد صداها في المشهد الافتتاحي لفيلم “جين ديلمان” قبل ظهور الأسماء. نسمع الصوت العالي للغاز، وهو نفس الصوت الذي يتكرر سماعه في كل مرة تشعل فيها جين الموقد.

أخرجت أكرمان بعده فيلمها القصير الطفل “المحبوب”، واعتبرته فشلاً كبيرا، ولم تسمح بعرضه ابداً. ومنه تعلمت درساً غالياً، هو أن السينما لا تعني نقل الحياة الواقعية، وإنما يجب تحويل الحياة للسينما من خلال الميزانسين (ترتيب عناصر المشهد). فسافرت بعدها فجأة إلى نيويورك.

وقالت عن تلك الفترة “بالإضافة إلى فيلم “بييرو المجنون” وكونه عاملا أساسيا في تكويني ووجودي السينمائي، تعرفت في نيويورك على سينما المخرج براخاج،  وتأثرت كثيراً بسينما المخرج مايكل سنو، فأفلامه تركز على اللغة السينمائية بدون أي قصة أو وجهة نظر، انها اللغة نفسها بدون أي طفيليات عليها، وبدون أي احتمال للتماهي معها.

وفي نيويورك تعرفت ايضاً على المصورة السينمائية بابيت مانجولت، التي أصبحت فيما بعد صديقتها ومعلمتها ومرشدتها إلى العالم التجريبي للسينما والمسرح والمشهد الموسيقي في نيويورك.

وأصبحت بابيت مديرة تصوير أفلامها في تلك الفترة عدا فيلمي ( 15/8، وأنا، أنتِ، هو، هي)، وكانت تمتلك شغفاً بتجربة معدات وتقنيات جديدة تتماشى مع رؤية أكرمان الفنية، بالإضافة إلى معارفها اللازمة لتنفيذ أفلام أكرمان قليلة التكلفة، من خلال اقتراض المعدات ومتطوعين للعمل معها.

أخرجت أكرمان أثناء تواجدها في نيويورك فيلمين رائعين، الأول بعنوان الغرفة، والثاني

بعنوان فندق مونتيري. كلاهما ينتميان لتيار السينما الطليعية في أمريكا.

من فيلم “فندق مونتري”

فيلم “الغرفة” قصير مدته عشر دقائق، يغلب عليه طابع أفلام مخرجها المفضل مايكل سنو، حيث تستعرض الكاميرا شقة صغيرة، في حركة دائرية مستمرة تارة، وحركة في الاتجاه المعاكس تارة أخرى. ولكن اختلاف أسلوب أكرمان عن سنو يكمن في ظهور امرأة شابة هي اكرمان نفسها مستلقية في الفراش تتطلع مباشرة إلينا (في الحيز المرئي الذي تشغله الكاميرا)، وبظهورها على الشاشة لا يتغير أي من المسافة أو سرعة إيقاع المشهد. نراها تقوم بحركات بسيطة (تتحرك للأمام والخلف، او تتناول تفاحة)، ويعوض النور الطبيعي الذي يملأ ارجاء الغرفة التقشف الكامن في المشهد.

فيلمها الثاني كان أكثر طموحا من الأول، أخرجته في العام التالي تبلغ مدته ساعة، تصف خلالها فندقا متواضعا والمقيمين فيه، بأسلوب تعطي فيه  للحيز المكاني خارج الشاشة والذي تشغله الكاميرا احساسا بوجود وكيان لا ينتمي لأي شخص أو شخصية معينة في الفيلم.

ووصفت أكرمان التدرج السردي في الفيلم بأنه تصاعد في المكان والزمان. بداية من الطابق الأرضي في المساء، وانتهاء فوق سطح المبنى بحلول الفجر.

تتحرك الكاميرا بلا هوادة في ردهة الفندق، تدخل المصعد حيث نرى أبوابه تفتح وتغلق على طوابق الفندق المختلفة، وأروقة خالية في بعض الأحيان، تستكشف إحدى الغرف في أحيان أخرى، ونرى بها بعض الأشخاص الجالسين. يطغى الاحساس بالانتظار دون هدف محدد على المشاهد مثل لوحات الرسام إدوارد هوبر، والتي يمكن مقارنتها بفيلمها “جين ديلمان”.

وعن الفيلم قالت أكرمان: “لقد صدمت عندما رأيت الفندق لأول مرة، وإذا كنت قد صورت شيئاً عنه في تلك اللحظة كان سيكون أشبه بالتقرير الإخباري، ولكني تأنيت في التفكير عنه طيلة ستة أشهر، ومن خلال عملي على الميزانسين واللغة السينمائية، قدمت صورة أبلغ من الحقيقة بعشر مرات”.

شانتال أكرمان

وكان هذا الفيلم السبب في تعارف أكرمان بنجمة الموجة الفرنسية الجديدة ديلفين سيرج، عندما كانت عضوة في مهرجان دي نانسي ومنحت جائزة المهرجان لفيلم أكرمان فندق مونتيري في صيف عام 1973. وأصبح بعدها فيلم “جين ديلمان” على بعد خطوات ليرى النور.

وحسب ما قالته مديرة التصوير مانجولت فقد كانت اكرمان تسعى للحصول على منحة مالية لإنتاج فيلمها “جين ديلمان” من بلجيكا، ولكنها شعرت بأنها لن تحصل عليه برصيدها الفني حينذاك. لذا قررت إخراج فيلم أخر على وجه السرعة، فكان فيلم “أنا، أنتِ، هو، هي”، وهو أول فيلم روائي أوروبي طويل للمخرجة، ويتجلى فيه الأسلوب والخلفيات التجريبية من إقامتها بنيويورك.

ويعتبر هذا الفيلم دراسة جريئة عن التقاليد المشكوك فيها لمواضيع الهوية الجنسية والرغبة. والفيلم عن قصة كتبتها أكرمان في باريس عام 1968، وتم تصويره خلال أسبوع واحد، بميزانية ضئيلة. واتبعت أكرمان نفس منهج التعامل مع فيلمها فندق مونتيري حيث انتظرت لفترة حتى تبلورت أفكارها بشأن الشكل النهائي للفيلم.

وينقسم الفيلم إلى ثلاثة أقسام يربطها موضوع مشترك وهو سعي إمرأة شابة نحو المعرفة الجنسية، ولعبت أكرمان الدور الرئيسي في الفيلم.

لقطة من فيلم “جين ديلمان”

نجدها في القسم الأول تعزل نفسها في إحدى الغرف ولكن نرى ارتباطها بشخص ما، من خلال الخطاب الطويل الذي تكتبه طوال هذا القسم، ويتجسد اضطرابها الداخلي في تجريدها للغرفة من الأثاث، وتجردها من ملابسها، كما لو أنها أمور غير جوهرية يجب الاستغناء عنها. نسمع في هذا القسم فقط من الفيلم التعليق الصوتي لأكرمان، تصف فيه أفعالها الغير متزامنة أحياناً مع ما نراه أمامنا على الشاشة.

وفي القسم الثاني من الفيلم نراها تسافر متطفلة في احدى الشاحنات ويراودها فضول قوي تجاه سائق الشاحنة، وتذعن لطلبه لمساعدته على الاستمناء ووصوله إلى ذروة النشوة الجنسية. ونراها مستغرقة في الاستماع إليه وهو يحكي عن التغيرات التي طرأت على حياته وتجربته الجنسية مع زوجته وبعد ولادة ابنته.

وفي المقطع الأخير من الفيلم، تصل أكرمان إلى احدى الشقق التي تقطنها احدى الشابات، تصد الفتاة أكرمان عنها في بادئ الأمر، ثم تقدم لها الطعام وتمارس معها الجنس، في لقطة أمامية طويلة. نرى بعدها أكرمان تغادر الإطار ونستمع لغنائها أثناء الاستحمام.

عرض هذا الفيلم في عدة مهرجانات قبل صدور فيلم “جين ديلمان”، ولكنه لم يعرض للجمهور في دور العرض إلا بعد فيلم ديلمان.

بفريق عمل مؤلف بالكامل من النساء، تحت قيادة مخرجة شابة في الرابعة والعشرين من عمرها، تعمل خارج النظام السائد للسينما، كاسرة كل القواعد التقليدية الخاصة بالمدة الزمنية والحبكة والتصوير المرئي والخطاب السردي للفيلم، اعتبر فيلم “جين ديلمان” نموذجا لسينما المستقبل، وقد يقتدى به المخرجون الآخرون فيما بعد لعمل افلام تتمركز حول النساء كوسيلة للتعبير والمحتوى ايضاً.

يكمن أحد الأساليب الفنية التي ميزت الفيلم في التفرقة بين الحيز المرئي الذي تشغله الكاميرا ويمثل وجهة نظر المخرجة، والمكان الذي تصوره الكاميرا. وكذلك غياب تقليد اللقطة/ واللقطة المعاكسة المتعارف عليه. واستخدامها للمونتاج البليغ وأسلوب القطع المفاجئ، كل هذه الخيارات الإبداعية للمخرجة أكدت على انفصال هذين الحقلين المرئيين، وذلك لعدم انغماس وتماهي المشاهد مع العمق النفسي للشخصية والواقع الدرامي للفيلم.

اعتبرت أكرمان هذا الفيلم بانه فيلم نسوي ولكن غير متشدد للقضية. لان شخصية جين لا تعتبر نموذج يحتذى به، أو نموذج لضحية ما.

لقطة أخرى من فيلم “جين ديلمان”

الفيلم يصور ثلاثة أيام من حياة أرملة من الطبقة المتوسطة، تعيل ابنها المراهق. قامت بتنظيم دورها كربة منزل، والاهتمام بتفاصيل روتينها اليومي في البيت حيث تقوم بأداء مهمة ما في كل لحظة. هذا إلى جانب ممارستها البغاء في السر واستضافتها لأحد الرجال في ظهيرة كل يوم.

وفي اليوم الثاني، اختل نظامها اليومي، ربما بسبب شعورها بهزة جماع غير مرغوبة، ولم تستطع بعدها استعادة نظامها المعتاد. بعدما حاولت الدفاع وفصل نفسها بين عالمها الخاص وتفاصيلها اليومية العادية.

في اليوم الثالث تقتل الزبون الثالث بعد مجامعته. وعن هذا الأمر قالت أكرمان ” لقد انهارت دفاعات جين ديلمان، وأردت التعبير عن هذا بقوة من خلال أقوى علامة على احساسها بالظلم- ممارسة البغاء…جين ديلمان لجئت للقتل لاستعادة توازنها المعتاد.”

وتم تصوير الروتين اليومي للبطلة بكل تفاصيله، عدا مشاهد غرفة النوم مع زبائنها، فهناك لا ندخل إلا في اليوم الأخير، ونبقى على مسافة من الحدث.

وفي حديثها مع جريدة كاميرا أوبسكيورا صرحت أكرمان: اعتقد ان هذا فيلم نسوي، لأني قدمت مساحة لعرض أشياء لم يسبق أن صورت أبدا بهذه الطريقة من قبل، الحالات اليومية للمرأة تحتل المرتبة الأخيرة في هرم الصور الفيلمية، فالقبلة وحادث السيارة تحتلان مكانة أهم منها ولا أعتقد أن هذا من باب الصدفة. لأن هذه إيماءات امرأة فهي إذن لا تؤخذ في الحسبان.

كما أعربت اكرمان عن تقديرها للدور الذي تقوم به الأم قائلاً: كنت أراقب بعناية وعن قرب كل التفاصيل، سمحت لها أن تعيش حياتها في منتصف الإطار، وأن تشغل حيزها الخاص، بدون أي قيود. والكاميرا لم تتلصص عليها كما تعودنا بل كنتم واعين بمكاني دائماً طوال الفيلم، وتعلمون بأنني لم أصور من ثقب المفتاح.

ورغم ذلك فإن وجهة نظر اكرمان وتأطيرها في الفيلم يوضحان تحكمها في كل تفاصيل حياة تلك الأم، ربما مدفوعة برغبة التحكم الكلي الموجودة بداخل كل طفل.

من فيلم “تفجير مدينتي”

أثمرت رحلتها الثانية لنيويورك في عام 1976 عن فيلم “أخبار من الوطن”، عن خطابات مرسلة من أمها أثناء زياراتها الأولى للمدينة.

الفيلم صورته بابيت مانجولت وينتمي إلى النزعة التجريبية الأمريكية. وشريط الصوت في الفيلم يحتوي على خطابات تقرأها أكرمان على خلفية أصوات ضوضاء مدينة نيويورك، وتلك الخطابات منحت ما نراه أمامنا من صور متحركة معنى ودلالة، لولاها لغاب عنا المعنى، فلا يوجد على الاطلاق أي ترابط اعتباطي بين ما نراه وما نسمعه، فالمشاهد تبدو كصور فوتوغرافية للشوارع وعربات الانفاق المزدحمة لأفراد عشوائيين وغائبين، ولا تمثل القارئة (أي الأبنة) الموجه إليها الخطابات أيا منهم ولم تظهر على الشاشة ابداً.

بعد انتهائها من هذا الفيلم عادت أكرمان إلى أوروبا للعمل على أول فيلم ذو ميزانية كبيرة لها وهو فيلم “مواعيد آنا”. الموجه إلي قطاع جماهيري أوسع. يتابع الفيلم رحلة مخرجة شابة تسافر بفيلمها الجديد عبر أوروبا من ألمانيا إلى بلجيكا إلى فرنسا.

والفيلم من وجهة نظر أكرمان عن أوروبا وعن عودة آنا إلى أمها، مركز حياتها والمحور الأساسي للفيلم. وترحال آنا في الفيلم يشبه الشتات اليهودي ويمثل احساس أكرمان بالاغتراب واقتلاعها من جذورها.

فتصف ذلك قائلةً: عندما أتطلع إلى والدي، أرى اندماجهما الكلي هنا، ليس لديهما أي احساس بالنفي، كما لو أنهم أخذوا هدنة بشكل ما من ماضيهم. بينما أعتقد اننا نمثل الجيل الجديد الذي اعاد فكرة القمع والاضطهاد، لأنهم منعوا عنا الماضي ولم ينقلوه إلينا، وبدلا منه نقلوا إلينا الإحساس بالاغتراب والاجتثاث من الجذور.

وكالعديد من أفلام المخرجة، يقدم فيلم مواعيد آنا نوع من السيرة الذاتية بأسلوب خفي يقع بين التجربة الحياتية المعاشة والجمهور، حيث نرى أمامنا عالم منمق بعناية لا يمت بصلة بعوالم السير الذاتية.

الحفاظ على بعد المسافة يعد سمة أساسية في أفلام شانتال أكرمان، وهو سلاح ذو حدين فهو يمثل مصدر قوة افلامها، وعائقا أمام شعبيتها الجماهيرية في نفس الوقت.

ورغم اشتغالها في عدة تجارب وثائقية تلفزيونية، إلا أن محاولتها للتقرب من السينما التجارية لم تحقق أي نجاح يذكر، وعلى الجانب الآخر أصبح لها أتباع مخلصون لأعمالها حول العالم، يقدرون محاولاتها التجديدية والتحديات التي واجهتها في صناعة أفلامها خلال حقبة السبعينات.

تقدم أفلام أكرمان الدافع لمعرفة ودراسة طريقة تقديم وتصوير المرأة ورغباتها وصورتها الشخصية والصور التي يقدمها الاخرين عنها حيث قدمت افلامها أجوبة أخرى محتملة لسؤال “من المتحدث؟”، فأي محاولة أو اجابة اخرى عن هذا السؤال ستظل غير كافية.

ولكن هل وجدت من قبل إجابة عن الطريقة التي تصور بها المرأة؟ السؤال الذي ردد عاليا في سبعينات القرن الماضي؟

لا أعتقد ذلك، لأني مازلت أسمع نفس السؤال من مختلف الأجيال المتعاقبة من الطلاب.

من فيلم “موعد مع أنا”

عن مجلة “سايت آند ساوند” بتاريخ 15 أكتوبر 2015

Visited 83 times, 1 visit(s) today