أوراق القاهرة السينمائي- 2: “أرض الوهم”

Print Friendly, PDF & Email

أمير العمري– القاهرة

من أفضل الأفلام التي عرضت في مسابقة آفاق السينما العربية بالدورة الـ44 من مهرجان القاهرة السينمائي، الفيلم اللبناني “أرض الوهم” للمخرج كارلوس شاهين. وكان عرضه في المهرجان هو العرض العالمي الأول للفيلم الذي يقول مخرجه أن العمل فيه استغرق خمس سنوات، من كتابة السيناريو، إلى المونتاج.

الواضح من المشاهد الأولى من الفيلم، أنه يروي جانبا من قصة حياة المخرج شاهين نفسه (وهو كاتب سيناريو الفيلم)، ويمكن استنتاج أن الكثير من المواقف والأحداث، مستمدة بقدر من التصرف والتعديل والتطوير بالطبع، من ذكريات طفولته، فليس كل ما نراه في الفيلم لابد أن يكون قد وقع له بالضرورة، فزمن الفيلم يعود إلى الخمسينيات، أي إلى فترة الصراع الذي نشب بين فريقين في لبنان في ذلك الوقت، فريق كان يؤيد الوحدة بين مصر وسورية، من القوميين العرب أساسا، انضم إليه الدروز بقيادة كمال جنبلاط، وفريق آخر يقف إلى جانب حلف بغداد ويؤيد المشروع الأمريكي في الشرق الأوسط بقيادة كميل شمعون، الذي انتهى به الأمر إلى طلب التدخل الأمريكي في المسألة اللبنانية، فجاء الأسطول الأمريكي السادس ونزل مشاة البحرية إلى بيروت للتدخل لحماية رئاسة شمعون من الانهيار لكن الانهيار حدث.

هذا النزاع المسلح، تتردد أنباؤه في الفيلم، تارة من خلال نشرات الأخبار التي تأتي من الراديو، وتارة من خلال مناقشات أفراد العائلة أنفسهم، وكذلك من خلال الجريدة السينمائية التي تعرض على شاشة السينما عندما تذهب العائلة إليها وتدب هناك مشاجرة طريفة تعرض لحالة الاهتياج والتوتر الطائفي المبكر الذي اتصفت به الفترة.

إننا أمام أحد أفلام العائلة” أو “القبيلة” clan، ورغم أن الشخصية الرئيسية في قلب أحداثه هي شخصية “ليلى”، المرأة الشابة المتزوجة التي تعيش في كنف زوج من أثرياء الطائفة المارونية، إلا أننا نكاد نرى ما يقع من أحداث من عيني ابنها، “عمر”، وهو في نحو السابعة من عمره، وكأن الفيلم يروى من وجهة نظر عمر وما شهده من تناقضات وخلافات وصراعات داخل العائلة المسيحية المارونية وكذاك ما يكمن في علاقة تلك العائلة (الإقطاعية) بمحيطها وجيرانها المسلمين، بل ونظرتها إلى “الآخر”، وكلها تناقضات ستكون سببا في انفجار الحرب الأهلية اللبنانية في السبعينيات.

أجواء السياسة إذن، حاضرة وتلقي بظلالها على الفيلم، إلا أن السيناريو المكتوب بدقة شديدة وحساسية وبراعة، يراعي أن يجعلها غير مفروضة على الفيلم، فهي تظهر وتختفي سريعا لتعاود الظهور فقط كلما اقتضت الحاجة إليها داخل السياق. وكما يمكن النظر إلى الفيلم باعتباره نوعا من “السيرة الذاتية” لمخرجه، إلا أنه يعتبر أيضا تشريحا اجتماعيا- سيكولوجيا، لنمط العلاقات داخل عائلة بطريركية تقليدية، يفرض عائلها الأكبر (الأب) نظاما متشددا على زوجته وبناته الثلاث، اثنتان منهما لم تتزوجا، والكبرى، “ليلى”، متزوجة لكن من الواضح أن علاقتها بزوجها لا تشبعها عاطفيا وجسديا.

من داخل هذه “التركيبة” المعقدة لعائلة مسيحية تقيم في ضيعة شديدة الجمال في جبل لبنان، بحيث يتناقض الجمال البصري الخلاب مع ذلك الجفاف الشديد القائم بين الجيل الجديد والجيل القديم، وتحديدا، بين الفتيات والرجال، او بين البنات والآباء، تتفجر أمور كثيرة تتعلق بالحب والرغبة، بالدين والحياة، بالجنس والهوية، بالعلاقة مع الذات ومع الآخر.

زيارة تقوم بها امرأة فرنسية متقدمة في العمر (تقوم بالدور ببراعة الممثلة الفرنسية ناتالي باي)، مع ابنها إلى العائلة بحكم صلة قرابة ما، ستكون سببا في تفجير المكبوت. الهدف من الزيارة، كما نرى، هو زيارة المنطقة والاستمتاع بما فيها من آثار قديمة ومناظر خلابة في الجبل، والمغارات.. إلخ. ولكن ليلى تجد نفسها مشدودة إلى ذلك الشاب الفرنسي الذي يأسرها بمعاملته لها، نقيضا لمعاملة زوجها الخشنة، الذي يبدو كما لو كان يغتصبها وهو يمارس معها الجنس من دون أي مشاعر حقيقية، ومن هنا سيقع المحظور، أي “الخيانة”. ويكون الإبن “عمر” باستمرار شاهدا على ما يراه أو يتسلل ويختبيء لكي يرصده ويسجله في ذهنه، وربما أيضا يعترض عليه ويصل في أحد المشاهد إلى محاولة منع امه من مغادرة المنزل لكي تلتقي بحبيبها الفرنسي، مهددا إياها بإفشاء سرها إلى أبيه!

هناك طبعا شعور بالغيرة الطبيعية عند الابن على أمه، ومن جهة أخرى تبرز النزعة البطريركية المبكرة عند “الذكر” ولو كان طفلا. ولكن أكثر ما يجسد تلك النزعة البطريركية في الفيلم هو الأب الذي يملي شروطه على من يتقدمون لخطبة ابنته الصغيرة، ثم يريد أن يفرض عليها زوجا بعينه من عائلة معينة، بينما الفتاة من النوع المتمرد الرافض لأي نوع من الهيمنة الذكورية، وهي تصل إلى درجة من التحدي العنيف للأب، وعندما تقيم علاقة مع يوسف ابن الجار المسلم، ينكشف الأمر ويكاد يؤدي إلى جريمة قتل، إلا أن الأمر ينتهي بطرد تلك الأسرة المسلمة نهائيا من الضيعة.

الانتقال من مشهد إلى مشهد آخر، منسوج بدقة، والشخصيات رغم تعددها، واضحة المعالم، الأم مثلا من تلك الشخصيات الملتاثة بالدين، ممن يؤمنون بمعجزات السيدة مريم وبأنها تتجلى لها في أحلامها، وتنير لها الطريق، وهي تقضي الكثير من الوقت في عالمها الذي يقع بين الواقع والخيال، أحيانا في الكنيسة وأحيانا في البيت تصرخ وتحاول تهدئة المواقف المشتعلة.

أما “التيمة” الأكثر اشتعالا في الفيلم فهي تيمة التمرد: التمرد على الواقع القمعي الموروث، والتمرد على الوضع السياسي العبثي الذي لا يؤدي سوى إلى التقاتل والاشتباك، وهو ما يصوره كارلوس شاهين ببراعة في أحد أقوى مشاهد الفيلم. يبدو هذا المشهد في البداية كأحد المشاهد التقليدية المعتادة، مشهد تناول الطعام والاحتفال بعيد ميلاد إحدى البنات، على طاولة كبيرة ممدودة وسط الطبيعة الرائعة، أي يبدأ بالضحك أي بالجو الاحتفالي الحميمي، إلا أنه يتحول من خلال الإيقاع السريع، والانتقالات التي تبدو تلقائية تماما، والحوار المتدفق على ألسنة الممثلين، إلى اشتباك حاد، بين طرف (هو رب العائلة) الذي يتشبث بهويته المسيحية ويعبر صراحة عن رفض الآخر (الدروز أو المسلمين)، وجهة أخرى، هناك الضيف، القومي العروبي الذي يقول إنه يحلم بلبنان دولة ديمقراطية يتعايش فيها الجميع في ود وسلام.

 وليس المهم كثيرا المغزى السياسي للمشهد رغم أهميته، لكن اكثر ما يشد المتفرج فيه هو بناؤه وتصاعد ايقاعه حتى بلوغ الذروة التي تنتهي برحيل الطرف الرافض للفكر الطائفي من المشهد!

من أكثر ما يميز الفيلم الصورة المدهشة بتلك الألوان الصريحة (الأحمر الأصفر والأبيض)، والتناسق البديع بين تفاصيل المكان: الديكورات واختيار الأماكن، وزوايا التصوير المتنوعة، والانتقال من اللقطات العامة التي تحدد المكان، إلى اللقطات القريبة التي تكشف المشاعر والانفعالات في سلاسة تدفق طبيعي، والتكوينات التشكيلية باللون والضوء والظل داخل اللقطة الواحدة. ولا شك أن الفضل يرجع في تحقيق كل هذا التناغم والجمال، إلى مدير التصوير الفرنسي ميشيل باتاي، في اهتمامه بكل تفاصيل الصورة، مع حركة الكاميرا البطيئة التي لا تشغل العين أو تربكها خلال متابعة محتويات اللقطة أو المشهد، فنحن أمام عمل شديد الجاذبية من الناحية البصرية.

فقدان القدرة على التكيف مع واقع العيش في كنف ذلك الزوج الذي لا يشعر بزوجته، والأب الذي يمارس هيمنته فارضا دائما رأيه بشراسة على الجميع، يدفع “ليلى” إلى إعلان راية التمرد، وسينتهي الأمر بأن تتخلى عن الزوج والبيت والإبن والعائلة كلها، وترحل بعد أن تكون قد فرضت رحيل شقيقتها الصغرى إلى بيروت، إيذانا بتداعي تلك “القبيلة” وانهيار الكثير من القناعات العتيقة.

كارلوس شاهين مخرج الفيلم

إلى جانب الصورة البديعة بتكويناتها المدهشة، وتصميم الملابس المستمدة من ما كان سائدا في الفترة (هنا أيضا يجب الإشادة بمصممة الملابس علا أشقر)، والحرص على الأناقة الشديدة في تنسيق المناظر (العلاقة بين الديكور والاكسسوارات والملابس) مع شريط موسيقي شديد القوة من الناحية التعبيرية، هناك أيضا عنصر الأداء التمثيلي من جانب مجموعة من أفضل من الممثلين. ولا غراب في ذلك، لكون المخرج كارلوس شاهين نفسه، هو أساسا ممثل مخضرم تمرس في فرقة المسرح الوطني اللبناني كما عمل طويلا في المسرح والسينما.

في هذا المجال يجب أن أشيد بأداء مارلين نعمان في دور ليلى، الذي أدته بمشاعرها وعينيها ودون إفراط في تحريك جسدها كثير، كما أنها لم تتردد أو تهاب المشاهد التي ظهرت فيها عارية. وكانت بتعبيراتها الواثقة المحكومة قادرة على تجسيد معاناة شخصية ليلى التي ظلت لسنوات طويلة تخفي عذابها ورفضها لنمط الحياة في تلك الضيعة، إلى أن حسمت أمرها في النهاية.

Visited 2 times, 1 visit(s) today