“أحلام السلة”..كرة السلة تذكرة للخروج من الجحيم

Print Friendly, PDF & Email

في أحد مشاهد فيلم (أحلام السلة – Hoop Dreams) للمخرج ستيف جيمس، وبينما ينتقل المراهق ويليام جيتس – ابن أحياء شيكاغو الفقيرة الذي طالما حلم باللعب في دوري المحترفين لكرة السلة – إلى أحد المعسكرات الرياضية الكبرى، حيث يسعى مدربو الكليات وراء مواهب المدارس الثانوية؛ يأتي المخرج سبايك لي لزيارة هؤلاء الطلاب الذين ينتمي أغلبهم إلي أصحاب البشرة السمراء – كحال بطلنا – ويخبرهم بالحقيقة القاسية، وهي أن لا أحد يهتم لأمركم على الإطلاق “أنتم سود، وكل ما يفترض بكم القيام به هو تعاطي المخدرات وسرقة النساء”.

وبينما تتنقل الكاميرا عبر هذه الوجوه المتجهمة المصدومة، يخبرهم “لي” بالسبب الحقيقي وراء وجودهم هنا، لا لتحقيق الأحلام التي تداعب خيالهم الفطري كما يعتقدون، ولكن لكي “تجعل الفريق يفوز، وإذا فاز الفريق، ستحصل المدرسة على مال كثير”. ثم يختتم حديثه بجملة نادرًا ما تقع على آذان ويليام ورفاقه في أحيائهم المعدمة، وهى أن “كل شيء يتمحور حول المال”.

إن واقع الحياة الأمريكية المتعلق بالعرق والوضع الاجتماعي والتعليم والقيم الإنسانية هو الموضوع الحقيقي الذي يتتبعه وثائقي “أحلام السلة”، خاصة تلك الشريحة الفقيرة التي تُمني النفس بأحلام مستحيلة للهروب من جحيم العيش داخل تلك الأحياء الفقيرة. فمن النادر أن نجد عملاً يقدم مثل هذا السرد الحيوي لثقافة مدينة تنهش نفسها من الداخل. لذلك، يثير ستيف جيمس العديد من الأسئلة القوية، وليس هناك ما هو أكثر صعوبة من سؤال: كيف يمكنك تشجيع أنواع الأحلام التي تغير وجه الحياة لهؤلاء المراهقين مع إبقاء الواقع القاسي يلوح في الأفق؟

يركز ستيف جيمس قصته حول خمس سنوات من حياة المراهقين ذوي الأصول الإفريقية ويليام جيتس وآرثر أجي، بدءًا من المرحلة الثانوية، وحتى عامهم الأول في الكلية. يظهر من اللقطة الأولى للفيلم مدى تعلق هذين المراهقين بلعبة كرة السلة وكيف يرون أنها الوسيلة الوحيدة للخروج من ظروفهم البائسة. خطط جيمس في البداية ليكون هذا الفيلم هو مشروعه الوثائقي القصير الثالث، ولكن عندما تابع تطور موضوعه أدرك أن هذه القصة أكبر وأعمق بكثير مما كان يخطط. لذلك شرع في استكمال تصويره ليصبح فيلمه الوثائقي الطويل الأول. وهذا التوجه سمح لنا – كمشاهدين – بتتبع البطلين وهم ينضجون جسديا وعقليا على الشاشة، وبالتالي ينشأ نوع من التعلق والارتباط العاطفي بما عاناه المراهقين وأسرتيهما خلال هذه السنوات.

عن طريق أحد الكشافة المحليين، يلتحق ويليام وآرثر بمدرسة “سانت جوزيف” في ضواحي شيكاغو الثرية من خلال منحة دراسية جزئية. ولوهلة يشعر المراهقين وأسرهم أن القدر كافئ صبرهم أخيرًا. ولما لا، فهذه الثانوية تعتبر الملاذ لكثير من الحالمين بلعب كرة السلة، خاصة وأنها المكان الذي بدأ منه مراهق فقير آخر – أيزيا توماس – رحلة نجوميته إلى دور المحترفين. ولكن كما سبق وأشار سبايك لي “أن كل شيء يأتي بمقابل”، فإن هذه الرحلة الشاقة ستكلف ويليام وآرثر الكثير.

يعطينا ستيف جيمس لمحة سريعة عن واقع الحياة داخل الجانب الفقير من مدينة شيكاغو، حيث تنتشر تجارة المخدرات وجرائم القتل وحروب العصابات؛ لذلك نفهم رغبة ويليام وآرثر العميقة في الارتقاء الطبقي للخروج من هذا الجحيم. فنراهما يستيقظان فجرًا في أيام الشتاء القارص لبدء رحلة يومية إلى المدرسة تبلغ ثلاث ساعات، حيث تتعثر قدماهما الصغيرتين في الثلوج على طول الطريق. لكن لا شيء يقف أمامهما في سبيل الوصول لقمة الهرم الرياضي، رغم أن من حولهما يرون أن فرص نجاحهما لا تتعدى واحدًا في المئة.

خلال عامهم الدراسي الأول في “سانت جوزيف”، ينسجم ويليام بشكل ملحوظ مع الفريق الأساسي وينجح في إظهار قدرات رياضية جيدة لدرجة أن البعض أطلق عليه لقب “أيزيا توماس التالي”. لذلك ليس من الغريب حين تتعثر أسرة جيتس في تدبير أقساط المنحة الدراسية أن يتكفل أحد الأعضاء الأسخياء بمصاريفه كاملة لا لشيء آخر سوى أن ويليام جيتس يمثل “الحلم الأمريكي”.

أما آرثر أجي، فلم يستطيع أن يتكيف على المستويين الأكاديمي والرياضي، فنراه في أحد المشاهد يقول: “لم أتواجد قط حول الكثير من الأشخاص البيض، لكن يمكنني التكيف”. ومن ثم يبدأ تدريجيًا يكتشف الوجه الآخر لهذه القلعة التعليمية التي تعتبر امتدادًا لماهية القيم الأمريكية، حين يخبرنا مدرب الفريق القاسي “بينجاتور” أن سلوك آرثر يعود إلى تأثير بيئته السيء عليه. وبالتالي عندما يفقد والدا آرثر وظائفهما ويخفقان في سداد الأقساط، يجد هذا المراهق نفسه مُلقى في الشارع، لأنه لا يوجد راعِ يتكفل بمصاريف دراسته، كما هو الحال مع ويليام.

وهنا، تتجلي المعضلة الأخلاقية الكبرى في الفيلم، والتي تتلخص في سؤال: هل كانت المدرسة ستوفر المال اللازم لمنحة آرثر التعليمية في حال وصوله إلى مستوي التوقعات؟ .. من الواضح أن ويليام جيتس وآرثر أجي، حصلا على منحتهما الدراسية في “سانت جوزيف” كونهما لاعبي كرة سلة موهوبين في المقام الأول وليس لأي سبب آخر. وهذا ما يبرزه جيمس في فيلمه، بأن هذه المدارس لا ترسل مكتشفيها إلى قاع المدينة للبحث عن علماء أو مخترعين، وإنما لإيجاد سلع تباع لأعلى سعر دون الالتفات إلى أي اعتبارات إنسانية أخرى. لتترسخ مقولة “لي” أكثر في الأذهان بأن “كل شيء يتمحور حول المال”.

في أحد المشاهد تخبر إيما جيتس، ابنها ويليام، بأن “الجميع يضعون أحلامهم فيك، ولكن عليك وضع أحلامك أنت في نفسك”. بالإشارة إلى هذا المشهد نجد أن هناك خط درامي آخر يتشكل في الفيلم وثيق الصلة أيضًا بالأحلام، ولكن ليست أحلام ويليام وآرثر فقط، وإنما أحلام عوائلهم المبتورة.

يتضح هذا الملمح بصورة أوسع في الخط الخاص بشقيق ويليام الأكبر، كيرتس، الذي فشل في مسيرته الجامعية والرياضية ونراه يتنقل بين عدد من الوظائف المؤقتة حتي أصبح مع الوقت يستثمر أحلامه في أخيه. بدءًا من حرصه على متابعة تدريبات ويليام وحضوره الدائم لمباريات فريقه، وهو ما يدفع ويليام للقول بأن “علي كيرتس ألا يعيش أحلامه عبري”. ولكن تتغير نظرة ويليام تجاه أخيه في المشاهد الأخيرة للفيلم، بعد التحاقه بجامعة “ماركيت”، المكان الذي حلم كيرتس دوما أن يدخله ولكن درجاته لم تكن كافية، فيردد ويليام بسعادة “الآن، نال تلك الدرجات”، وكأنه حقق حلم أخيه الأكبر أخيرًا.

هذا النهج الذي سار عليه شقيق ويليام، نراه يتكرر مع عائلة آرثر. فمن الوهلة الأولى للفيلم نرى هذا الفتى يتابع بشغف مباريات نجمه المفضل أيزيا توماس على التلفاز، ويفكر في حال التحق بدوري المحترفين بأن أول ما سيقوم به هو شراء منزلاً لوالدته وسيارة فخمة لأبيه كي يتمكن من حضور المباريات. كذلك الحال بالنسبة لوالده “بو” المستسلم طوال الوقت لفكرة أن ابنه سيصير نجمًا في يوم ما وينتشل الأسرة من بؤسها، وهو ما يتضح في حديثه عن ابنه خلال أحد المشاهد “أنا لا أفكر حتى في عدم نجاحه”. فليس من المفاجئ أن نجد هذا الأب يعود في مشاهد لاحقة لإدمان المخدرات مجددًا. 

إن كلتا العائلتين مفتونتان بالأحلام لدرجة أنهما لا تستطيعان تقديم النصائح الجيدة لأبنائهما، فيصبحان مع الوقت فريسة سهلة لأوهام المجتمع المغلفة في صورة أحلام. ربما كانت الشخصية الأكثر دفئًا وصمودًا هي شيلا أجي، والدة آرثر، التي تثابر وراء حلم ابنها حتى بعد قطع إعانة الرعاية الاجتماعية عنها، وتتسأل في أحد المشاهد “هل تتساءلون جميعًا في وقت ما كيف أعيش؟ وأحتفظ بهذا المنزل وأطعم هؤلاء الأطفال؟ هل سألتم أنفسكم هذا السؤال من قبل؟”؛ لتتمكن بأعجوبة في نهاية الفيلم من إكمال تعليمها لتصبح مساعدة تمريض.

بحلول الوقت الذي تخرّج فيه كلا من ويليام وآرثر من المدرسة الثانوية، نرى أن عثرات الحياة قد أكسبتهم نوعًا من اللامبالاة تجاه أحلامهم. يتجلى ذلك في مشهد ويليام بعد أن أتخذ قراره بأنه إذا توقف عن لعب كرة السلة الآن سيكون سعيدًا، ويكمل حديثه بحسرة الخاسر “لم أعد أحلم بهذا بعد الآن”.

في النهاية من يستطيع أن يلوم هؤلاء المراهقين على الانغماس في أحلامهم التي لا تتخطى نسبة نجاحها “واحدًا في المئة”؟ .. إن فيلم “أحلام السلة” لا تدور قصته حول انتصار الروح الإنسانية أو أي من الكليشيهات الرياضية الأخرى، إنه يتعلق بواقع الحياة الحقيقية وليس الأحلام.

يختتم ستيف جيمس شريطه الوثائقي بمرثية قد تختزل الكثير من مشاعر الألم الحبيسة داخل قلبيّ المراهقين، يقول ويليام جيتس: “دائمًا ما يخبرني الناس لا تنسنا عند وصولك إلى دوري المحترفين. والآن، وبعد أن عجزت عن الوصول عليّ القول لهم، لا تنسوني”.

Visited 1 times, 1 visit(s) today