أوراق القاهرة السينمائي- 1: أرواح جزيرة إينيشيرن الشريرة

Print Friendly, PDF & Email

أمير العمريالقاهرة

فيلم جيد جدا من إنتاج أيرلندا- بريطانيا، هو فيلم “أرواح جزيرة إينيشيرن الشريرة” The Banshees of Inisherin من إخراج الأيرلندي مارتن ماكدوناه، وهو فيلمه الروائي الطويل الخامس، والثاني الذي يجمع بين بطليه  كولن فاريل، وبريندان جليسون، ويشترك معهما فيه كيري كوندون وباري كيوجان، ولا شك أن أهم عنصر من عناصر هذا الفيلم هو عنصر التمثيل وإدارة الممثلين طبعا. بل هو في الحقيقة مباراة في التمثيل.

يبرز في الفيلم بوجه خاص، أداء كولن فاريل في دور شاب يدعى “بادرياك سوليبان”، يرعى الماشية ويعيش على حليبها، في قرية قاحلة بجزيرة أيرلندية فقيرة وقت الحرب الأهلية في العشرينيات من القرن الماضي.

يعاني بادرياك من الوحدة والقلق والفراغ الناتج عن جفاف الحياة في القرية بشكل عام، وهو على علاقة قديمة، مع “كولم” (بريندان جليسون) الذي يقرر فجأة قطع علاقته به وينذره بعدم التحدث إليه مستقبلا، بل ويهدد بقطع إصبع من أصابع يده إن عاد إليه الشاب ثم قطع باقي أصابع يده اليمنى لو تكرر الأمر. ولكن بادرياك لا يمكنه أن يفهم أبدا رغبة صديقه في قطع علاقته به. لذلك هو لا يكف عن ملاحقته، يريد أن يفهم السبب. ما الذي يجعل صديقه الذي يكبره عمرا ويعتبره بمثابة مرشده الروحي أيضا، يقطع علاقته به فجأة بعد كل تلك السنوات.

بادرياك يعيش في بيت فقير مع شقيقته التي لم تتزوج رغم تقدمها نسبيا في العمر، وهي على العكس منه، تقضي وقت فراغها الكبير في مطالعة الكتب. إنها تعطف عليه وتعامله كما لو كان هو ابنها وهي أمه، فهي أكثر منه نضجا في المشاعر كما أنها أكثر ذكاء ومعرفة وإدراكا لما يحدث في العالم بسبب اطلاعها. ولكنه مصر على فهم سبب قطع كولم علاقته به، لذا يحاول بشتى الطرق استفزازه واستعادة العلاقة التي لا يجد بديلا عنها لكليهما، خصوصا في هذه البيئة العقيمة الفارغة المعزولة.

كولم يخبره أنه قطع علاقته به لأنه يجده تافها وهو لا يريد إضاعة وقته بعد اليوم مع أمثاله، بل يريد أن ينهي مقطوعة موسيقية بدأ في تأليفها، أي أنه يريد وهو على أعتاب الموت، أن يصنع شيئا يجعل لحياته معنى. أما صاحبنا فيطارده بل يقتحم عليه منزله أيضا ولا يريد أن يتركه لحال سبيله أبدا.

 ينفذ كولم تهديده ببتر إصبع يده ثم بتر باقي الأصابع وكأنه يعاقب نفسه، ومع ذلك يستمر في تأليف القطعة الموسيقية التي تشغل باله. فهو مغرم بآلة الكمان، يريد أن يختلي بنفسه شاعرا بانه تأخر كثيرا في تحقيق حلمه.

إنها كوميديا سوداء، تثير الضحك بقدر ما تثير الألم. والفيلم في الحقيقة، يبدأ بداية كوميدية لكنه ينتهي نهاية تراجيدية. فيه من الألم بقدر ما فيه من الضحك، والفكرة هي ما يمكن أن تولده العزلة التامة في جزيرة شبه مهورة يهاجر منها أبناؤها بحثا عن الرزق بعيدا عن تلك البيئة القاحلة. لا شيء يحدث هنا سوى الملل الدوران في حلقة مفرغة، يريد الرجل الناضح كولم، أن يجعل لحياته معنى قبل أن يودع الحياة، بينما يرفض الشاب بكل إصرار فكرة الفقد أو التخلي أو حتى الخروج من الجزيرة مع شقيقته التي تريد أن تجد لحياتها معنى في مكان آخر عامر بالحياة.

هناك أيضا شاب صغير شبه مختل، هو “دمينيك”، هو الإبن الوحيد لشرطي القرية القاسي القلب الذي يسيء معاملته، فيلتصق بصاحبنا بادرياك، يسرق الشراب من غرفة أبيه لكي يتشارك في احتسائه مع بادرياك الذي لا يجد فيه- رغم ذلك- تعويضا عن صديقه القديم كولم.

أما كولم فهو يريد أن ينأى بنفسه عن بادرياك تماما، ويتخذ موقفا صامتا سلبيا حتى بعد أن يحرق بادرياك بيته البسيط انتقاما من موت حماره الوحيد بسبب خطأ ارتكبه كولم عندما ألقى بأصابعه المبتورة أمام دار بادرياك فتعفنت وأكل منها الحمار فتسمم!

دومنيك، ابن شرطي البلدة، رغم حساسيته ورغبته في التواصل، عاجز عن التعبير عن نفسه، فهو خجول مضطرب، ورغم ذلك مغرم بشقيقة صديقه، وعندما يعرب لها عن هيامه بها تعتذر له، فهي تكبره كثيرا في العمر، كما أنه أقرب ما يكون إلى البلاهة أي نقيض الفتاة التي تتمتع بالذكاء والثقافة والفطنة.. وهي ستترك شقيقها وترحل رغم شعورها بالحزن لمفارقته. فقد أصابتها الحياة الرتيبة في الجزيرة المعزولة بنوع من الجنون.

نحن أساسا، أمام شخصيتين لرجلين مختلفين، وإن كان كل منهما يحاول أن يعثر على وسيلة للهرب من حياة الفراغ القاتل في تلك الجزيرة المنعزلة، التي لا يسمع الناس فيها سوى أقل القليل، تصلهم من بعيد أصوات قذائف المدافع على الجانب الآخر من البحر، يشاهدون الدخان الناتج عن معارك الحرب الأهلية، دون أن يكونوا طرفا فيها.  

بادرياك ظل لسنوات، على موعد يومي في الثانية بعد ظهر كل يوم، مع صديقه كولم، وكانا يلتقيان في الحانة لاحتساء البيرة والثرثرة في لا شيء. ولكن كولم أدرك بعد أكثر من عشرين عاما أنه سئم إضاعة الوقت والثرثرة فيما لا ينفع مع هذا الشخص الذي اكتشف أنه غبي بليد، وأدرك أن من حقه أن يحلم بعيدا عن أسوار هذا “السجن”، وأن يلحق قبل أن يأتي الموت الوشيك، يحقق بعضا من متعة الإبداع، لربما تعوضه شيئا عن سنوات ضائعة.

أما بادرياك فهو يرى ان الصداقة بين الرجال الناضجين ليست مثل الزواج، أي لا ينفع معها الطلاق، بل يجب أن تمتد إلى الأبد. لذلك فهو يرفض ويظل يرفض بإصرار نهاية الصداقة، ويلح على استعادتها بينما صديقه القديم مصر على القطيعة النهائية، ولا يجد مناصا من تنفيذ تعهداته ببتر أصابع يده ربما أيضل كعقاب للذات!

يريد كولم أن يتجاوز العزلة داخل هذه الجزيرة التي لا يحدث فيها شيء سوى الموت، عن طريق تأليف المقطوعة الموسيقية التي يطلق عليها “أرواح جزيرة إينيشيرن الشريرة” وهو عنوان دال للمقطوعة وللفيلم نفسه. أما بادرياك فلا يرى بديلا عن العيش في الجزيرة، ويرفض رفضا قاطعا أن يرحل نحو عالم جديد بحثا عن فرصة جديدة خارجها.

هناك استخدام جيد للمكان، للطبيعة، للبحر في علاقته بالشخصيات، ولتضاريس العزلة كما تتجسد في الحكة الرتيبة (بادرياك مع قطيعه الصغير من الماشية)، ودومنيك الذي يعاني من استبداد الرغبة الجنسية دون أن يقدر على أن يرتوي جنسيا. والموت الكامن الذي يختتم الحياة، كتيمة كامنة أيضا تحت جلد الصور واللقطات.

لا أعتبر أننا امام تحفة سينمائية، بل عمل جيدا يقوم أساسا كما أشرت، على التمثيل والحوار الطريف الذي يفجر الضحكات، والسيناريو المكتوب جيدا والذي يقدم لنا شخصيات واضحة مجسدا تناقضاتها بشكل بسيط دون تعقيدات، وإخراج سلس، مع بناء تقليدي يسير إلى الأمام دون أي تلاعب في الشكل أو في لغة التعبير البصري، فالمونتاج هنا يضبط الإيقاع دخل كل مشهد على حدة كما يضبط الإيقاع العام للفيلم، وهو إيقاع بطيء يتناسب مع طبيعة الفيلم نفسه كعمل يدور في بيئة تتكرر فيها الأشياء، والأماكن، والأحداث، مع شخصيات محدودة تعيش في فراغ.. تطغى فوقها الطبيعة كأنها القدر نفسه.

هناك نفس عبثي في الفيلم خصوصا في حواراته التي تذكرنا أيضا بمسرح العبث، مسرح بيكيت (وهو أيرلندي أيضا بالمناسبة)، فهو ليس حوارا وظيفيا، بل يغلب عليه عدم التجانس بمعنى أن لا أحد يبدو انه يفهم ما يقوله الآخر، وشخصيات الفيلم، كلها شخصيات ناقمة بشكل أو آخر، من عسكري القرية إلى كولم.

لا أرى أن الصراع بين بادرياك وكولم يرمز للصراع المسلح الدائر على الجهة الأخرى من الجزيرة، في الأراضي الايرلندية نفسها خلال الحرب الأهلية الأيرلندية عام 1923، بل أميل إلى أننا أمام قصة خيالية ربما تدور أكثر داخل حلم أو مستدعاة من عالم الأحلام والكوابيس، ذات صلة أيضا بالفلكلور الأيرلندي فعنوان الفيلم نفسه يشير إلى “الروح الأنثوية الشريرة التي تنوح في المنزل لكي تنذر أعل البيت بموت وشيك. وفي الفيلم أيضا امرأة عجوز تصلح لتجسيد مثل هذه الروح المنذرة بالموت.

مستوى التمثيل يرتفع بالفيلم كثيرا ويعلو به فوق سائر الأفلام التي عرضت بدورة مهرجان القاهرة، ودون شك يستحق أداء كولن فاريل هنا بلوغ ترشيحات الأوسكار كما هو متوقع، وكذلك أداء الممثل الأيرلندي الكبير بريندان جليسون الذي لا يقل عن أداء فاريل في تلقائيته وقدرته على التقمص والإضافة أيضا من عمده على الشخصية، بحيث تصبح شخصية من لحم ودم، رغم غرابتها وقسوتها.

فيلم بديع في مغزاه وسياقه، يمكن متابعته باستمتاع رغم سوداوية أفكاره التي يخفف من قسوتها الطابع الفكاهي الذي يصبغ الكثير من عبارات الحوار. وهذه الروح هي ما تصبغ المسرحيات التي برع في كتابتها مارتن ماكدوناه نفسه. لسنا كما قلت، أمام عمل سينمائي مركب، أو تحفة فنية كبرى، لكن هناك مذاق جديد، وبعض الاسقاطات الفلسفية عن معنى الحياة والموت، مع التأملات التي يحيلنا إليها الحوار، تدفعنا إلى التأمل في مسار الحياة، ومغزى ما يمكن أن تحمله لنا الأقدار.

Visited 2 times, 1 visit(s) today