“من هيلدا مع حبي” في مهرجان برلين
أمير العمري- برلين
لا شك أن السينما الألمانية في أزمة. تماما مثل ألمانيا نفسها، التي تعاني من مأزق هوية مستمر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أي منذ أن خضعت للاحتلال من طرف دول الحلفاء، ثم أصبحت مجرد قاعدة أمريكية نووية كبيرة منذ انتهاء الاتحاد السوفيتي وسقوط القسم الشرقي منها.
السينما الألمانية التي قدمت لنا الكثير من الروائع بل والمدارس السينمائية العظيمة مثل التعبيرية الألمانية، وأضافت إلى العالم أسماء مرموقة في عالم الإخراج السينمائي، تقف اليوم ممزقة، عاجزة، تائهة، تعاني من عقم في الأفكار بل وفي أساليب المعالجة أيضا.
في مهرجان برلين السينمائي الـ74 المقام حاليا عدد من الأفلام الألمانية، كما هي العادة بالطبع، فهذا هو مهرجانهم، والمناسبة السنوية الطبيعية التي تفرض عرض الجديد المتميز من السينما الألمانية. ولكن هل شاهدنا حتى الآن شيئا متميزا حقا؟
الفيلم الأول الذي يعرض داخل المسابقة الرسمية، هو “من هيلدا مع حبي” In Liebe, Eure Hilde للمخرج أندرياس درسن. وهو الذي سبق أن قدم قبل عامين فيلما متميزا كثيرا عرض في المهرجان نفسه هو فيلم “ربيعة قورماظ ضد جورج دبليو بوش”، وهو من نوع الكوميديا السياسية الساخرة، وكان مخرجه يعالج موضوعه بمنتهى الحرفية والمهارة، من خلال دراسة جيدة للشخصية التي يقدمها وهي شخصية حقيقية، لامرأة تركية اعتقل ابنها بتهمة الإرهاب لكنها وصلت إلى حد الذهاب إلى واشنطن حيث نجحت في تنظيم حملة للدفاع عنه على أن تم إطلاق سراحه.
يعود أندرياس درسن هذا العام من خلال سيناريو كتبته نفس كاتبة سيناريو فيلميه السابقين، “المحارب” و”ربيعة قورماظ”، الكاتبة الألمانية “ليلة شتيللر”، هو فيلم “من هيلدا مع حبي” From Hilde, With Love. ويستند الفيلم إلى شخصيات وأحداث حقيقية، وقعت خلال الحقبة النازية، وتحديدا خلال الحرب العالمية الثانية، لكن هذه الحقيقة لا تعتبر دائماـ ميزة في حد ذاتها، فالعبرة بالمعالجة الدرامية، وبأسلوب المخرج وطريقته في تناول الموضوع.
وكما أنه قصة حب تجمع بين هيلدا وهانز، الأولى فتاة المانية عادية أقرب إلى السذاجة، والثاني شاب ألماني، عضو في خلية من الشباب كانت تتجسس أو تحاول نقل المعلومات إلى الاتحاد السوفيتي، ويفترض أن الدافع أيديولوجي، ومع تطور العلاقة تصر هيلدا على أن تتزوج من هانز رغم تحذير خالتها لها.
هانز مغرم بهيدا لكنه جزء من مجموعة من الشباب الألماني الذين يبدو حماسهم للسوفيت أقرب إلى المراهقة الفكرية، مع غياب أي مقاومة حقيقية للنظام النازي، ومن دون أن تبذل كاتبة السيناريو أي جهد في تعميق هذه الشخصيات أو حتى تصوير مناقشاتهم معا، فنحن نظل حتى النهاية نجهل من هؤلاء، وما الذي يخططون له، وما هي مشكلتهم مع النظام سوى أنهم يميلون للاتحاد السوفيتي ولكن حتى ولائهم المفترض للاشتراكية غير واضح. بل وحتى الرسائل التي يبعثون بها تهدف الى طمأنة الجنود الأسرى على أهاليهم وعائلاتهم.
إننا أمام فيلم لدراسة الشخصية character study لشخصية هيلدا، التي يجد فيها صانعو الفيلم نموذجا لفتاة عادية أو أقل من عادية، لم يكن لها نشاط سياسي، ولا موقف أيديولوجي، ولم تفعل سوى أنها اندفعت تحت سطوة وقوعها في الحب، على نقل جهاز إرسال إلى حبيبها، من دون أن تعرف حتى ما هو، ثم تتحمس أيضا لتعلم لغة الشفرة التي يرسلون بها رسائلهم البدائية على موسكو.
والحقيقة أن غياب أي أبعاد مثيرة للاهتمام في شخصية هيلدا دفع كاتبة السيناريو إلى التركيز على الجانب الذي افترضت أنه سيدفع المشاهدين إلى التعاطف معها، ومن خلاله يمكنها أن تجسد قسوة النازية، هذا الجانب هو حمل هيلدا في جنين من هانز، واعتقالها وهي حامل مع مجموعة أفراد الخلية التي عرفت بـ”الأوركسترا الحمراء”. لكن الفيلم لا يظهر الجانب المعتاد من معتقلات النازية، بل نراها في مستشفى السجن تجد رعاية لا بأس بها بل وقدرا من التعاطف حتى من قبل السجانة النازية التي يذوب بعض جمودها تدريجيا خصوصا بعد أن تنجب هيلدا طفلها داخل السجن، وهو سجن عادي وليس معسكر اعتقال جماعي، وهي في صحبة معتقلات مثلها، سواء من نفس الخلية الشيوعية، أو المثلية الجنسية، وأسباب أخرى لا يكشفها لنا الفيلم.
سياق السرد يقوم على الانتقال المستمر من البداية إلى النهاية، بين الماضي والحاضر، والقصد من العودة إلى الماضي من خلال الفلاش باك، هو قص حكاية هيلدا من بداية علاقتها بهانز ورفاقه، وعلاقتها بأمها، وتصوير تطور العلاقة العاطفية، مع بعض مشاهد الجنس، ولكن المشكلة أن هذه المشاهد لا تخلو من أي عمق أو قدرة على الإحاطة، سواء بالفترة التاريخية، أو بواقع القهر كما ينعكس على المجتمع في الخارج، أي خارج السجن، ولا على الشخصيات المحيطة حتى بعد اعتقالها، بل وحتى القبض على هيلدا يبدو مخالفا تماما لما درأت عليه أفلام النازي، فرجال الجستابو لا يرتدون الملابس النازية، ولا يصرخون أو يقومون بتعذيبها، بل يبدو استجوابها أقل مشقة من أي استجواب يدور اليوم من جانب أجهزة الأمن في بلدان العالم الثالث!!
ولكن أهم ما يركز عليه الفيلم هو تحمل هيلدا التجربة في شجاعة، وصمودها، ورعايتها لطفلها داخل السجن، وعدم إبداء أي مقاومة أو رد فعل، بحيث كثيرا ما بدا أنها لا تفهم العالم الذي تعيش فيه ولا تعرف لماذا وضعوها في السجن، ثم تواجه الإعدام في النهاية مع عدد من النساء، في شجاعة أقرب في الحقيقة إلى بلاهة وعدم إبداء أي مشاعر باستثناء أنها تكتب رسالة الى ابنها الذي أطلقت عليه اسم والده، هانز، التي انتزعوها منها على وعد بنقلها إلى أمها.
يعاني الفيلم من سوء اختيار الممثلة التي تقوم بدور هيلدا (ليف ليزا فرايز) التي ربما تكون مناسبة من حيث الشكل، إلا أن أداءها اتسم بالسطحية والجمود والتعبير الواحد الذي ظل مرتسما على وجهها طوال الفيلم. كما أن بناء شخصيتها من الأصل في السيناريو، يجعلها فتاة خجولة، انطوائية، مرتبطة بأمها، تقع في الحب وتخلص لحبيبها رغم انه لا يمانع من إقامة زملائه علاقات متعددة في وقت واحد، ويعاني الفيلم أيضا من ترهل الإيقاع، وهبوطه في النصف الثاني، ومن الإطالة والاستطرادات، فنحن أمام عمل يقوم أساسا على الوصف مع غياب للحبكة الدرامية أو لأي تصاعد في الأحداث من الناحية الدرامية، فالفيلم يبدأ باعتقال هيلدا ويبقى داخل هذه الحالي حتى النهاية..