معنى الزمان في فيلم “المومياء”

محمد فاروق *

لا شك في أن تفرُّد فيلم “المومياء” لشادي عبد السلام صار مقطوعًا به وسط السينما المصرية والعربية، وأضحى من البديهيّ اختياره في أي قائمة تضم صفوة الأفلام المصرية أو العربية (الثالث في قائمة 1996 لأفضل مائة فيلم مصري والأول في قائمة 2013 لأفضل مائة فيلم عربي) غير أن التفرُّد لا يُعزى فقط لجودته ومستواه وامتيازه على كل الأصعدة، بل لأنه فوق كل هذا متفرّد بمعنى الكلمة، مختلف عن السواد الأعظم مما تعوّدت عليه الذائقة المصرية والعربية طيلة سنوات تمرّسها للسينما، حتى راق للبعض أن يسمّي ما صاغه شادي هنا شعرًا بصريًا تمييزًا له عن طبيعة السينما المعروفة في الذهن الشائع على اعتبارها حكيًا بالصوت والصورة لحكايةٍ ما، ولا أحد يقول أن شادي عبد السلام ابتدع ما لم يأت به أحد من قبل لكنه بكل تأكيد أتى بما هو جديد بالنسبة إلى البيئة المحيطة، وحتى على المستوى العالمي جاء فيلم “المومياء” قبل أهم علامات السينما الشاعرية وقبل نضوج أعلامها.

حبكة الفيلم بسيطة ويمكن تلخيصها في فقرة واحدة بدون إهمالٍ لعديد التفاصيل، هي تدور عن قبيلة الحُرَبات الّتي تعيش في صحراء غرب الوادي وتعتاش على دفينة من الكنوز والمومياوات الفرعونية في قلب الجبل، وعندما يموت رب القبيلة يتعين على سر الدفينة أن ينتقل إلى ابنيه، يرفض الأول (أحمد حجازي) أن يعتاش على تمزيق لحم الموتى فيُقتل نتيجة رفضه، أما الثاني وهو “ونيس” بطل القصة (أحمد مرعي) فيتردد ويتوه، ونتابع رحلته حتى يصل إلى قراره الحاسم، رحلة يرى فيها تاجر الآثار أيوب (شفيق نور الدين) الّذي يشتري آثار الدفينة بالمال، وصبي تاجر الآثار مراد (محمد نبيه) الّذي يحاول أن يخلق عملًا مستقلًا لصالحه فيشتري آثار الدفينة بالنساء، والغريب القادم من الوادي (محمد مرشد) الّذي يعمل مع الفريق الأثري الآتي من القاهرة، والفتاة زينة (نادية لطفي) الّتي جلبها مراد لإغوائه، ثم في النهاية أحمد أفندي كمال (أحمد خيري) قائد الفريق الأثري حينما يقابله في مقرّه، حيث سيقرر أخيرًا الإبلاغ عن المومياوات، فيستخرجها الفريق الأثري ويشيّعونها عبر سفينة نيلية في مشهد جنائزي مهيب لإيداعها المتحف المصري بالقاهرة.

إذن فهي قصة متماسكة صالحة للحكي العادي إن جاز التعبير، بل هي لها أصول حقيقية بالفعل، قصة استخراج مومياوات الدير البحري أو المقبرة DB320 التي عثر عليها أفراد عائلة عبد الرسول من قرية شيخ عبد القرنة في سبعينيات القرن التاسع عشر، ثم حينما اختلف أفرادها فيما بينهم حول توزيع كنوزها فأبلغ أحدهم السلطات ليتم استخراج المومياوات في النهاية وإرسالها إلى القاهرة.

أما الجديد الّذي قدمه شادي عبد السلام فهو السرد البصري الشاعري لقصة كان يمكن أن تكون جافة بحتة حول اختلاف بين جماعة من اللصوص، لذا فرواية القصة عبر لقطات الكاميرا والصور الشاعرية المتدفقة هي العنصر المُبهر الصانع لتفرّد الفيلم، غير أن الشكل لا ينفصل عن المضمون لا سيّما بين يدي مخرج مثل شادي عبد السلام، فرغم أن العنصر الطاغي في الحديث عن الفيلم هو العنصر البصري، ورغم أن أي تناول للفيلم لا يخلو من الحديث عن جماليات الصورة، وضرب المثال بالمشهد الأخير الّذي جرى تصويره في أربعين يومًا، فإن الأسئلة الّتي يطرحها فيلم “المومياء” والمعاني الّتي يتناولها تستحق أن يُبحث فيها، ومن ثمّ ربطها بالأسلوب البصري المُبهر وملاءمته لها.

يبدأ الفيلم بظلام ينقشع عن صورة قناع تابوت مشوّه مفقود العين، تصاحبه موسيقى ماريو ناشيمپيني الطنانة الغامضة الّتي تُسمع كهمهمة أرواح محتجبة تحت ستارٍ غليظ ولامتناهٍ، كأنها تخبرنا أن ما يتسرّب إلى آذاننا منها لهو نذرٌ يسير مما يقبع هناك حقيقةً، ثم تتجلّى الافتتاحية النصّية مكتوبةً بالخط الكوفي:

يا من تذهب ستعود
يا من تنام سوف تنهض
يا من تمضي سوف تُبعث
فالمجد لك
للسماءِ وشموخها
للأرض وعرضها
للبحار وعُمقها

الكلمات هنا مقدّسة وحاسمة وصارمة، هي تملك الزمان (الأفعال والتسويف) وتملك المكان (السماء والأرض والبحار) فتشترك مع الصورة والصوت في إشعارنا بأننا جزء من حقيقة أكبر، حقيقة لا يصل إلينا منها إلا أقل القليل، وهي حقيقة مطلقة، واسعة، تملك في طياتها المكان كله والزمان كله، ولا يخرج منها شيء إلا وقد عاد، حقيقة لا يعنيها الحال المادي أو تشويه الحاضر، فلا معنى لفقدان عين أو بلاء جسدٍ ما، فالوعود قاطعة وصريحة وكونية، النائم سينهض والذاهب سيعود. وأول سؤال يطرحه الفيلم في افتتاحيته هو سؤال كبير بالمعنى المطلق للكلمة، وقطعًا لا ينتظر إجابة.

الافتتاحية مكتوبة وليست مقروءة لأنها لا تُتلى من إنسان، وإنما هي باقية في ذاتها، مما يضفي عليها المزيد من القدسية، فيتلوها المشاهدون بأنفسهم في هذه اللحظة كلٌ منهم على حدة، لتتمادى الوعود في تناقلها وتستمر الحقيقة في تمددها، ثم يكمل تتر الفيلم نفس منوال الخط الموحي بالقدسية، عنوان الفيلم الّذي يظهر أولًا هو “يوم أن تُحصى السنين”، وهو الاسم الأوقع والمناسب للفيلم بشكلٍ أكبر من “المومياء”، فالفيلم لا يدور عن «الـ» مومياء، كما لا يدور عن مومياء واحدة، واختيار عنوان عربي فصيح للفيلم ليس معناه أن المخرج يريد التشدّق أو حتى التفصّح، فهو على العكس انحاز لسهولة وأُلفة النطق على حساب صحة القواعد، فالجملة الفصيحة هي يوم أن تُحصى السنون (نائب فاعل مُلحق بجمع المذكر السالم) لا السنين، وسنرى خلال الفيلم انحيازه لعربية سهلة أليفة على حساب دقتها، فمثلًا معظم الكلمات التي تُنطق سيُسكّن الناطقون آخرها، ومثلما سنرى أحد أبناء عم ونيس يخبره بلسانٍ عاميّ أنهم «ولاد عم» بما للكلمة العامية محذوفة الهمزة من إيحاء بالقرابة والحميمية والأُلفة، كما يتضح أن الممثلين قد حظوا بمساحة فضفاضة أثناء الأداء، فمثلا نجد شخصية الأم (زوزو حمدي الحكيم) في أحد المشاهد وهي تقول عبارة «.. حتى لو كان ابنَه» غير أننا نرى شفاهها تضم نون «ابنه» بشكلٍ واضح، مما يعني أن التصحيح اللغوي قد حُمل في بعض المواضع على عاتق المكساچ الصوتي لاحقًا دون تضييق على الممثلين.

إذن فاختيار اللغة العربية للكتابات والحوار ليس بغرض التفصح، وطبعًا ليس للدقة التاريخية، فلغات الفيلم لو ابتغينا الدقة هي هيروغليفية للكتابات الفرعونية، ولهجة صعيدية جبلية لقبيلة الحُربات، ولهجة صعيدية جوّانية لأهل الوادي، وقاهرية للفريق الأثري (الأفندية كما يطلق عليهم أهل الجبل) وحتى عربية بلكنة فرنسية للعالم الفرنسي چاستون ماسپيرو، لكن الفيلم آثر قولبة كل الحوار داخل إطار اللغة العربية، لسبب ظاهري بيّن وهو تحقيق الشاعرية الّتي قد يخدشها اختلاف اللهجات وتفاوت نظم الحوار ونسقه، لكننا اتفقنا على أن الشكل لا يصح أن ينفصل عن المضمون، فخيار اللغة العربية ينطوي على معنى باطنيّ، فأحد أسئلة الفيلم الكبرى هي عن سبب الانفصال عن التاريخ القديم وماضي الحضارة المصرية، والإجابة السهلة المعلّبة قد تكون في ابتلاع مصر لثقافاتٍ شتّى عبر العصور كان من شأنها تضييع الهوية، وآخر تلك الثقافات وأبرزها هو الثقافة العربية، وافتتاحية الفيلم لا تعرض لنا سوى قداسة وتبجيل النصوص المصرية داخل إطارٍ عربي، أي أن الفيلم يطرد الإجابة الجاهزة سريعًا ومبكرًا، لأننا مقبلون على رحلة تأملية بطيئة وعميقة لا تستدعي الإجابات الجاهزة والحلول السهلة.

بعد التتر تظهر رسومٌ على بردية يصاحبها تلاوة لصلاة من كتاب الموتى:

لك الخشوع يا رب الضياء
أنت يامن تسكن فى قلب البيت الكبير، يا أمير الليل والظلام
جئت لك روحًا طاهرة، فهب لى فمًا أتكلم به عندك
أسرع لى بقلبي يوم أن تتثاقل السحب ويتكاثف الظلام
أعطني اسمي في البيت الكبير
وأعد إلى الذاكرة اسمي، يوم أن تحصى السنين

يكشف الكادر بعدها عن اجتماع لمصلحة الآثار، وهو المشهد الوحيد في الفيلم الّذي لا تجري أحداثه في صحراء غرب الوادي، ويسهل التبين أن تكوين هذا المشهد ليس عاديًا بالمرة، فهو لا يصف محض اجتماع في مصلحة حكومية، بل إننا نرى طاولة اجتماعات تبرز كجزيرة وسط ظلام محكم مهيب، فلا نرى حوائط أو أروقة تحيط بالحاضرين، وهو تكوين يعطي إحساسًا عاليًا بالسرمدية، بوجود حبكة تقبع خارج المكان والزمان، استكمالًا لما فعلته بنا الافتتاحية النصية والموسيقى. إنه اجتماع يحدث في مكتب حكومي وفي عام 1881على وجه التحديد، لكن الحقيقة الكبرى تعم كل مكان مهما بدا عاديًا أو بيروقراطيًا، وتعم كل زمان مهما بدا بعيدًا أو حديثًا أو منفصلًا، هذا الاجتماع الّذي يفترض أنه حدث في مكان وزمان عاديين ترسم له الصورة بُعدًا خفيًا، بُعدًا يجعله جزءًا من الإرادة المُنفذة للوعود المقدسة، وانطلاقًا من كونه المشهد الوحيد الّذي لا يجري في أرض الأحداث الرئيسية، سيسهل استقباله على أنّه مكان علوي يتنزل منه على الأرض ما يتنزّل.

يشرح بعدها چاستون ماسپيرو (جابي كراز) معنى البردية قائلًأ:

صدًى بعيد يأتي من طيبة البعيدة، يفصله عن يومنا هذا ثلاثة آلاف سنة، لعلكم تبينتم أنه فصل من كتاب الموتى، وترديد هذه البردية يعيد للميت قدرته على أن يتذكر اسمه، أي روح بلا اسم تهيم في عناءٍ دائم، فضياع الاسم يساوي ضياع الشخصية.

هذا الشرح أو التعقيب على البردية يملك مفاتيح عناصر وتساؤلات كثيرة في السرد، فالصدى البعيد عن يومنا بثلاثة آلاف سنة يقطع الزمن الّذي يمر ليبدّد معانيَ ويخلق أخرى وهو تساؤل كبير في الفيلم بلا شك، وضياع الهوية هو التساؤل الأكبر الّذي رُمّز في كتاب الموتى بضياع الاسم، والروح منزوعة الاسم عديمة الهويّة ستهيم في عناء دائم، ولفظة الهيام وتركيب العناء الدائم لهما دلالة شبحية، ستعبّر عنها الصورة خير معبّر حينما سنرى أفراد قبيلة الحُرَبات وسط اتساع الصحراء؛ مثل أشباح، أرواح هائمة، بقاع سوداء، لا يرسمهم التكوين في ترتيب منتظم راسخ أو مطمئن، بل هم أقرب إلى أشياء مهترئة تصفعها الرياح المحملة بالأتربة جيئةً وذهابًا، وقبورهم أنصاب صمّاء لا شواهد لها، وتباعًا لا يُحمل اسم عليها، والطبيعة الشبحية للشكل يصاحبها طبيعة شبحية بالمضمون، فهم لا يخالطون أحدًا ولا يستأنسون أحدًا، يكرهون أفندية القاهرة المغرورين وأهل الوادي ويضيقون ذرعًا بأي غريب. وحينما سيتقرّب غريبٌ إلى أحدهم سيوسعونه ضربًا ويهددونه بالقتل، ولن نعرف لأيٍ منهم اسمًا إلا ونيس الّذي سيخوض رحلة أشبه بالبعث هي محور الفيلم، لا يمكن تجاهل ارتباط ثيمة ضياع الاسم بسنة صدور الفيلم عندما كانت مصر محرومة من اسمها، فمُسمّى الجمهورية العربية المتحدة  – دون ذكرٍ لمصر- كان الاسم الرسمي للدولة (لن يعود لفظ مصر للظهور في الاسم الرسمي إلا عام 1971) رغم خروج سوريا من الوحدة منذ عام 1963، وعلاقة المضمون (الهوية) بالشكل (الاسم) كما هي على مستوى الفرد في الفيلم يمكن أن نلاحظها كذلك بشكلٍ جليّ على مستوى البلاد بأكملها وقت صدور الفيلم، فمصر الّتي فقدت اسمها فقدت أيضًا جزءًا من أرضها بعد حرب يونيو 1967، ودخلت في أغوار تيه وضبابية أحوال لم يرجُها أحد من أبنائها أن تصير عناءً دائمًا.

شادي عبد السلام يراجع المشهد مع أحمد مرعي

بعد تأكدهم من وجود شخص يعرف مكان المقابر الأثرية يتفق مجلس مصلحة الآثار على إرسال بعثة يرأسها أحمد أفندي كمال في الصيف إلى غرب الوادي لتقصّي الحقيقة والعثور على المقابر،  ننتقل بعدها إلى قبيلة الحُرّبات حيث سنبقى طيلة زمن الفيلم، نشاهد القبيلة وهي تشيّع كبيرها، ثم العم (عبد المنعم أبو الفتوح) وهو يسلّم سر الدفينة إلى ابني أخيه، يأخذهما عبر طريق سرّي إلى قلب الجبل، يشاهد الشقيقان العم وأحد الأقرباء (عبد العظيم عبد الحق) وهما يقطّعان في لحم إحدى المومياوات ويستخرجان قطعة حلي على شكل عينٍ ذهبية، يمسكها القريب بيدٍ مرتعشة رغم أنه سيدّعي بعد ذلك أنه لا يرى عيبًا أو خللًا فيما يفعله، تلك العين تذكّرنا بأول ما رأينا من شريط هذا الفيلم، القناع ذي العين المفقودة، وكأنها هذه هي عينه الأخرى، تحيا وتتجول وتراقب باختلاف الأمكنة والأزمنة، وتصوير الفيلم فعلًا لا يوحي بشيءٍ أكثر ما يوحي بالمراقبة، لقطات كثيرة ترتسم داخل إطار يصنعه باب أو نفق، هي مراقبة من نوعٍ علوي، سيصفها الأخ الأكبر حينما ينعت قطعة العين الذهبية قائلًا «قطعة من الذهب هي لك، لكني أراها عينًا تلاحقني».

تساؤل هام يطرحه الفيلم في شأن “الكود” الأخلاقي لقبيلة الحُربات، فهم يقدرون «الآباء والأجداد» ولا يرضون «إقلاق من انتهى وارتاح»، غير أن هذا الكود لا ينطبق إلا على تاريخهم الصغير، وآبائهم وأجدادهم القريبين، أما الأجداد البعيدون فهم ليسوا موتى وإنما «رماد وحطب من آلاف السنين لا آباء لهم ولا أبناء»، والإشكال أن الانفصال بين قبيلة الحُربات والمصريين القدماء ليس تامًا، ففي دار كبير القبيلة نشاهد النقوش الفرعونية في كل شبرٍ من الجدران، وسنستمع إلى ونيس يحكي عن اختبائه وأخيه بين التماثيل والأعمدة في طفولتيهما، بل إن بعض التصورات المصرية القديمة حاضرة بشدة، فسنرى الأم حينما تزجر ابنها الأكبر وترميه بوابل من اللعنات تقول له «اذهب فأنا لا أعرف اسمًا لك» وكأنهم قد اقتبسوا عن القدماء فكرة أن ثمة أرواحًا ينبغي لها أن تهيم بلا اسم في عناءٍ دائم.

مسألة مدى اتساق الكود الأخلاقي لأهل الجبل مع ذاته ومسألة انفصالهم عن التاريخ تبقيان إشكاليتين رئيسيتين يطرحهما الفيلم، سيُضرب الاتساق الأخلاقي ذاك ضربة كبيرة حينما نشاهد مراد صبي تاجر الآثار يشتري الآثار بالنساء، ونعرف أن تاجر الآثار أيوب قد بدأ حياته المهنية هنا بنفس الطريقة، وهو ما سيُزيد من مرارة حقيقة أبيه وأسلافه على ونيس وبالتالي سيساهم في اتخاذه قراره النهائي.

ونلاحظ أن كل الإشكاليات الّتي يطرحها الفيلم تندرج تحت فكرة واحدة هي معنى الزمان، صيرورته وتأثيره القريب والبعيد، ومفهوم البعث والنهوض، ومعنى ما هو خارجه إن كان ثمة ما هو كذلك، وهو ما يحفز على التفكير في بعض الرؤى الفلسفية للزمن، واستبيان مدى مواءمتها لأطروحات الفيلم وتساؤلاته.

العود الأبدي.. فلسفة نيتشه القديمة الجديدة

بالتزامن مع أحداث الفيلم بوجهٍ كبير من التحديد، أي في صيف 1881، لكن في مكانٍ مختلف، حيث سنضطر لقطع آلاف الكيلومترات شمالًا متضمنةً بحرًا ونصف قارة، لن نعود نسمع عويل الغريب ولا جدال ونيس وأهله ولا نحيب نساء القبيلة، بل سنلتقي رجلًا في أواخر ثلاثينياته يجتاز غابة على طول بحيرة سيلڤاپلانا على الحدود السويسرية الإيطالية، سيقف على مقربة من كتلة صخرية هرمية هائلة، وسيتأملها كما لم يتأمل من قبل، وستخطر له فكرة العود الأبدي كما لم تخطر له من قبل.

إن فريدريك نيتشه يعلم تمام العلم أن فكرته تلك ليست سبقًا أصيلًا خالصًا، فهو يدرك أنها تظهر في فلسفات قديمة مثل فلسفة هرقليطس الّذي اعتقد بأن نارًا تلتهم العالم بين فترة وأخرى، ثم يعود ليخرج منها مجدّدًا ويستمر فترةً أخرى تنتهي بأن تلتهمه النار من جديد وهكذا، ومثل فلسفة أنبادقليس الّتي تقول بتتابع أبدي لعوالم متعاقبة، تكون ثم تفسد ثم تكون ثم تفسد وهكذا أبدًا، إذن الفكرة الّتي خطرت على بال نيتشه في رحلته بالقرب من سيلڤاپلانا ليست جديدة كل الجدة، وإنما يمكن القول أن فكرة العود الأبدي قد «عادت» بدورها للظهور حينئذٍ، لكن هذه المرة ليس بشكلٍ أسطوري كما كانت من ذي قبل.

فكرة نيتشه باختصار هي أن الكون مكانٌ محدود، وبالتالي سيصل إلى حالة كان عليها تمامًا من قبل حينما يتوفّر له زمنٌ كافٍ، وحينها سيُعاد كل شيء مثلما كان عندئذ، هذه هي الصورة الّتي تكاد تتخذ نسقًا علميًا والّتي تبنّاها نيتشه ليُلبس نظرية العود الأبدي ثوبًا مغايرًا لثوب الأسطورة الّذي كانت عليه في الفلسفات والميتافيزيقا القديمة، وقد رغب نيتشه في أن يكرّس فصلًا من حياته لدراسة الرياضيات والفيزياء لتقديم برهنة علمية حقيقية بإمكانها دعم فكرته، فهو على هذه الصورة من النظرية لم يثبت محدودية العالم بعد، ولم يأخذ مفهوم الإنتروبي (القصور الحراري) في الاعتبار، وهو الاصطلاح الوليد حديثًا بالنسبة إلى زمانه، والّذي يمثل قيمة فيزيائية تتحرك في اتجاه واحد لا يعود، لكن الزمن الّذي لا يعود هو نفسه ما لم يمهل نيتشه للقيام بمشروعه الكبير، فحال اعتلال الصحة العقلية ومن ثم الموت بين الفيلسوف الكبير وبين هدفه المنشود.

يمكن مطابقة نظرية العود الأبدي – على نطاقٍ ما – بحبكة فيلم المومياء، سنلحظ هذا جليًا حينما نتأمل قول د. فؤاد زكريا في رسالته الّتي حملت عنوان «النزعة الطبيعية عند نيتشه»:

وإذن ففكرة العود الأبدي تخلص الإنسان من خشية الموت، الّذي هو أخطر ما يهدد الإنسان خلال حياته. بل إن من شأن العود الأبدي أن ينفي الموت أصلًا: فكل موت نسبي، وعقب كل موت حياة، بل إن الموت لا يعود إلا مرحلة معينة من مراحل حياة أبدية تتكرر على الدوام. وليس للخلود هنا درجات أو مراتب، وإنما تدوم نفس الحياة للجميع.

إن مطابقة تلك الفكرة بالفيلم نستنبط منها أن المومياء لم يعرض حدثًا استثنائيًا أو فذًّا وإنما هو حلقة سبقتها حلقات وستتبعها حلقات، وهو ما يصدّق عليه تقسيم الفيلم لأزمنة وحُقب كما عرضناه مُسبقًا، فالموت والنسيان الّذي عانته المومياوات على يد قبيلة الحُربات لم يكن الأول، والبعث الّذي ساعد فيه ونيس وأهل الوادي وأفندية القاهرة لن يكون الأخير، فقد علمنا من الفيلم أن كهنة آمون المتأخرين هم من نقلوا المومياوات إلى مخبأ الجبل بعدما نبش بها النابشون، وهو ما يعني أن كهنة آمون قاموا ببعثٍ أسبق مماثل لبعث القرن التاسع عشر في مشهد نهاية الفيلم، وذلك عقب نبشٍ أسبق مماثل لنبش قبيلة الحُرَبات، أي أننا نصب حلقة مفرغة من الموت والبعث، من الانحطاط والنهوض.

تبدو فكرة العود الأبدي مغرية وملائمة جدًا لتفسير حلقات الموت والبعث المتتالية، غير أننا لا يمكننا ببساطة تجاهل الطبيعة التاريخية للزمن، فمن الغفلة الاتكال على أن ما حدث سيحدث وأن القديم سيُعاد، علاوة على أن هذا لن يفسر الآثار التاريخية الواضحة مثل تغيّر الحدود وتبدّل الثقافات وامتزاج الأعراق، وهو ما يحتم محاولة التوازن بين رؤية دائرية للزمان وأخرى تاريخية خطيّة كمسار سهم لا يتوقف ولا يحيد.

الزمان.. بين العود الأبدي والرؤية التاريخية

يمكننا أن نرى الزمان دائرة تعود من حيث بدأت حسب منظور فكرة العود الأبدي، وهو منظور الإنسان القديم والمجتمعات القديمة، ويمكننا أن نراه خطًا ينطلق في اتجاه واحد ولا يعود حسب المنظور التاريخي الخطّي، وهو المنظور السائد عند إنسان العصر الحديث، وقد تعرض الفيلسوف ومؤرخ الأديان الروماني مارسيا إلياد إلى كلتا الرؤيتين في كتابه «أسطورة العود الأبدي»، ووصل في مبحثه إلى أن الإنسان القديم يخاف التاريخ الحسي المنطلق كسهم، ويفضّل عليه التكرار الأبدي لما يضفيه من معنى على آلامه أو معاناته، فكما يقول إلياد:

حين ندرس المجتمعات التقليدية تستوقفنا هذه السمة: رفض الزمن الحسّي التاريخي من قبل هذه المجتمعات، وحنينها إلى العودة دوريًا إلى زمن الأصول الميطيقية (الأسطورية) أي إلى الزمان الكبير. فالمعنى والوظيفة لما دعوناه بالنماذج والتكرار يتكشّفان عندما نقف على ما ترمي إليه هذه المجتمعات عندما كانت ترفض الزمن الحسّي، وتقاوم كل محاولة تاريخية مستقلة يراد منها الدخول في تاريخ لا يحكمه نظام النماذج البدئية.

إذن يرفض الإنسان القديم فكرة خطّ ينطلق إلى مالانهاية ولا يعود، فهذا أشبه بالعناء الدائم الّذي طالما خاف أن يكون مصيره، بينما يرى الإنسان الحديث نفسه ابنًا للتاريخ، بعدما قدّمت له الأديان التوحيدية ما يضفي المعنى على هذا الخط الّذي لا يرجع، أي بتقديمها التصورات الاسكاتولوچية (الأُخروية/المتعلقة بنهاية العالم) وجعلت للخط نهاية ونزعت عن التاريخ صفة العناء الدائم، ففي المسيحية مثلًا قد خلّص المسيح البشر من الخطيئة الأزلية مرة واحدة وإلى الأبد، فلا داعي لأي تكرار، ثم في الأفكار العلمانية ظهرت تصورات مختلفة تشترك في هدف إضفاء الغاية على خط الزمان، ففلسفة هيجل أظهرت الجدلية التاريخية محركًا يحرك التاريخ إلى غاية نهائية، ثم أتت فلسفة ماركس الّتي جعلت الصراع الطبقي هو ما يحرك التاريخ إلى غاية تحقيق اليوتوبيا الشيوعية، وأصبح الأمر مهيأ نظريًا لتقبل الإنسان الحديث المنظور التاريخي للزمان، غير أن من التسليم المتعجل البت في هذا الأمر هكذا، لأن إنسان العصر الحديث على الأغلب تضعه صراعاته وحروبه ومشقته تائهًا بين سيناريوهات كلتا الرؤيتين.

حينما يقابل ونيس الغريبَ القادم من الوادي سيدور بينهما حوارٌ يمكن أن نستشف منه الصراع الداخلي للإنسان بين كلتا الرؤيتين للزمان، فشخصيتا الغريب والونيس هما على الأحرى يعبّران عن ذاتٍ واحدة، نلحظ هذا في اختيار ممثلَين للدورين يمتازان بملامح متقاربة هي قسمات وجه مصرية نقية، ونرى أيضًا أنهما يتعرضان للضرب والاعتداء في وقت واحد تقريبًا، هذا من أهل القبيلة وهذا من رجال أيوب تاجر الآثار، فالغريب القادم من الوادي والونيس الساكن في الجبل يعبران عن هويّة مصرية واحدة، تعاني ذات الصراع وتدميها نفس الجروح.

الغريب: لا وجوه لهم

هنا يشير الغريب إلى تماثيل منزوعة الرؤوس، وقطع رؤوس تلك التماثيل حدث تاريخي، ربما يُختلف على فاعله، ربما هو من فعل الآشوريين أو المتطرفين في العصور المسيحية الأولى، أو حتى قد يكون حتى نتاج خلاف بين الأسرات الملكية المصرية وبعضها، المهم أن ثمة حدثًا تاريخيًا يمحو الوجوه ويغيّب الهويّة، أي أن عبارة الغريب هنا تجسّد رؤية تاريخية خطية للزمان.

ونيس: نعم، ولكن هنالك وجهٌ كبيرٌ في حجم رجل.

ونيس يشير إلى وجود وجه ضخم لم يستطع مرتكب الحدث الأول أن يمحوه كما فعل مع التماثيل الأخرى، أي أن عبارة ونيس تشكك في إطلاقية قدرة الأحداث التاريخية على محو الهويّات والوجوه، وبالتالي تنطوي على شيءٍ أقوى من خطية الزمان، جوهرٍ قادر على البعث والنهوض في كل مرة.

ونيس: هل أنت غريبٌ عن الجبل؟

الغريب: نعم.

ونيس: أليس في الوادي عندكم مثل هؤلاء؟

الغريب: لا. ألم يخيفوك يومًا؟

ونيس: كانوا رفاق طفولتنا، كنا نختبئ بينهم أنا وأخي.

الحوار السابق بين ونيس والغريب يجسّد هوية واحدة للإنسان المصري رغم الحركة التاريخية، لا مثائل لتلك الآثار في الوادي، هي الآن في الجبل كما الأمر مع الدفينة الّتي انتقلت من طيبة على يد كهنة آمون هربًا من اللصوص والنابشين، وونيس يخبر الغريب بأن له تاريخًا مع تلك الصروح والآثار في طفولته أي أنه لم ينفصل عن تاريخه مطلقًا، وفيما بعد سنرى الغريب وسوف يجده ونيس هناك يختبئ بين الآثار بعدما سيتعرّض للاعتداء من أهل القبيلة، هنالك عودٌ وتكرار حتى مع كل الحركات التاريخية.

الغريب: هذا كفٌ يقبض على مصيره، لن يُقرأ أبدًا.

ونيس: أي مصير يُقرأ في كفٍ من حجر؟

عبارة الغريب فيها دلالة للعود الأبدي أو على الأقل ما يشير إلى الحقيقة الغامضة الكبرى، وسؤال ونيس الاستنكاري يستعجب من وجود قيمة ميتافيزيقية في أثر يراه المنظور التاريخي كفًا من حجر لا أكثر ولا أقل.

الغريب: مصير من شيّدوا كل تلك القصور والتصاوير، رجالٌ تسير إلى لا مكان، وسفنٌ ترحل إلى لا مكان، وأعمدةٌ لا ترفع سقفًا.

إجابة الغريب تقول بحتمية وجود مصير لكل هؤلاء، فهم في المنظور التاريخي رجال يسيرون إلى لا مكان وسفن لا ترسو وأعمدة تمتد إلى لا شيء، وهذا هو العناء الدائم ولا شيء غيره، ولا بد من مصير يتضمن بعثًا ونهوضًا جديدًا لهم.

ونرى أن تأرجح المنظور التاريخي والمنظور التكراري بين لساني ونيس والغريب يدل على جدلية مضطربة داخل ذاتٍ واحدة كما أشرنا، بل إن اسم ونيس في ذاته يدل على هذا الجدال وحده، فهو من ناحية تاريخية اسم عربيّ، أي اسم منتمٍ للثقافة الحديثة من المنظور التاريخي، وهو من ناحية أخرى يحمل نفس وقع الأسماء المصرية القديمة مثل رمسيس وأوزوريس وغيرها، أي أن له وقعًا يشير إلى العود والتكرار.

المنظور التاريخي يفسّر تقدير قبيلة الحُربات لأجدادهم القريبين وانفصالهم عن الأسلاف البعيدين، فالتاريخ في هذا المنظور خطّ مستقيم، ومسألة القرب والبُعد بين نقطتين على خط واحد هي مسألة بديهية ومنطقية جدًا، ومن هنا يبدو اتساقهم الأخلاقي مع أفعالهم وقد حمل قدرًا من الوجاهة، أما البعث والنهوض المتكرر فهو وحده ما يفسّر صراع ونيس الداخلي وقراره الأخير بإبلاغ فريق الآثار، فهو كما وصفه كبير الأفندية «تمثال قد عادت إليه الحياة»، والتماثيل بدورها عند ونيس هي كما وصفها للغريب «أحجار حيّة أمامي».

نهاية، أو بداية

جئت أعني بك وأحميك
من ذاك الّذي يصنع بك الأذى
ها هي عظامك تتجمع
وقلبك يعود إليك
وأعداؤك تحت أقدامك يُسحقون
ها أنت في صورتك الجميلة
تحيا وتُبعث كل صباح شبابًا من جديد

على صدى تلاوة صلاة البعث يبدأ الفريق الأثري عمله، يستخرج تابوتًا تلو الآخر، يحصونهم ويسمونهم بأسمائهم، يسترد كل ميّت اسمه نفاذًا لصدى صلاته البعيد من قبل، نفس الصدى الّذي عبر الأمكنة والأزمنة ووصل إلى الجوهر العلويّ الّذي مثّله الفيلم بصريًا في مشهد مصلحة الآثار، وها قد سُمع واُستُجيب. يشيع النساء والأهالي المشهد الجنائزي المهيب تحت نور الفجر، مشهد أصرّ شادي عبد السلام على أن يخرج بكمالية مطلقة تطلبت تأنيًا شديدًا كلّفه شهرًا وأكثر من الزمان، هو تأنٍ بمثابة خشوع قدسيّ، أو تحية سينمائية الطابع كالتحية العسكرية الّتي ألقاها البدوي بك قائد الحرس من فوق حصانه للسفينة النيلية المحمّلة بالملوك القدامي. هو مشهد تشييع لم يحدث للمرة الأولى وإنما يتكرر مرة بعد مرة منفذًا كل الوعود، بينما نرى أفراد القبيلة على حالهم مختبئين في الممرات كضباع أو أشباح، ويتحقق وعد الأخ الأكبر المقتول هو الآخر حينما يسأل ابن العم «هل هذا عيشُنا؟».

الوعود تنفذ، ولم يتمكن أحد من إيقافها، فهي ليست المرة الأولى ولا الأخيرة، ففي العام التالي لأحداث الفيلم 1882سيبدأ الاحتلال البريطاني لمصر، وهو موت واضمحلال طويل سيتطلّب بعثًا جديدًا بدوره، بل إننا نرى الآن أن حتى وعد الفيلم لزمن صدوره قد نفذ كذلك، عندما استردت مصر اسمها ثم استردت أرضها، وهكذا ينتصر الفيلم لعودٍ أبديّ يجاهد صيرورة التاريخ وخطيّته.

لم يتخلّص ونيس بالكامل من موقعه التاريخي الخطّي، فنراه رثًا متربًا حائرًا، يغلّفه الحزن لخذلان أجداده القريبين الّذين يربطونه بموضعه من خط التاريخ، لكن مع بزوغ ضوء الشروق تأتي كلمات بعيدة من جوهر الحقيقة المتجاوزة للزمان تحاول نفض التراب عنه أو ربما حتى الشد من أزره، كلمات بخطّ كوفيّ مقدس مرة أخرى، لتتم إقفال قوس الوعد النافذ الّذي فتحته لوحة الفيلم الافتتاحية، فالأحياء لم يلعبوا دورًا في بعث الأموات وحسب، وإنما الأموات أيضًا قدّموا البعث والهويّة بدورهم للأحياء.

انهض
فلَن تفنى
لقد نوديت باسمك
لقد بُعثت

  • كاتب من مصر
Visited 29 times, 1 visit(s) today