معالجة التيمة في فيلم”الزين اللي فيك”

“الزين اللي فيك”فيلم سينمائي طويل للمخرج المغربي المثير للجدل نبيل عيوش، اكتسب شهرة عالمية بعد حظر عرضه بالمغرب في سابقة نادرا ما وقعت في بلد امتازت فيه الرقابة السينمائية بليبرالية ملحوظة.  

يعني عنوان الفيلم باللغة العربية الفصحى “الجمال الكامن فيك”، واختار مخرجه لإطلاق فيلمه دوليا عنوانا أنجلوسكسونيا هو”Much Loved”.

تدور أحداث الفيلم بمدينة مراكش جنوب المغرب ، من خلال قصةأربعفتيات هن نهى وسكينة ورندا وحليمة، يمتهنن الدعارة في ليل المدينة الحمراء ينتقلن بين فنادق المدينة ومراقصها  والحفلات المنظمة تحث حماية سائق التاكسي لملاقاة زبناء المتعة وهم إما خليجيون مغرورون أو أوربيون مسنون أو زبناء الجنس الرخيص كما في حالة حليمة.

امتاز الفيلم بالمٌباشرة في خطابه سواء على مستوى المشاهد الساخنة أو الحوارت البديئة المستفزة، ولعل ذلك ما جلب عليه خنق الرقابة ومحاكمة أخلاقية واسعة من لدن فئات واسعة من المغاربة، لكنها جلبت له بالمقابل جوائز في مواعيد سينمائية كثيرة، وتعاطف لا تخطئه العين سيما في فرنسا التي اختار موزعوها عرضه على نطاق واسع في القاعات السينمائية، ورشحت بطلته لبنى أبيدار لجائزة السيزار عن أول دور نسائي.

قبل فيلم “الزين اللي فيك” تعاطت السينما العالمية مع ظاهرة الدعارة في عديد أعمال أصبح بعضها اليوم من كلاسيكيات الفن السابع، وقلما أثارت الأعمال التي تناولت هذه التيمة السينمائية نقاشا إعلاميا وجدلا مجتمعيا مثل الذي أثاره فيلم نبيل عيوش حتى إن المتتبع ليشك حقا فيما إذا كان المخرج المغربي قد شاهد عيون الأفلام العالمية في هذه التيمة وإستوعب معالجتها للموضوع.

منذ البداية، يجب التنويه إلى أن المعالجة السينمائية لظاهرة الدعارة ظلت دوما تيمة شائكة في السينما، حتى في البلدان المتحررة التي تعيش ليبرالية القيم، والدليل هو أن المعالجة المباشرة للظاهرة في الفيلموغرافية العالمية تكاد لا تذكر إذا ما قورنت بالأعمال التي تطرقت لظواهر مماثلة كتعاطي المخدرات والإدمان على الكحول والعصابات المنظمة والقتل وغيرها وعلى التعاطي الحذر للسينما مع الظاهرة بسبب أبعادها الاجتماعية والأخلاقية، قدمت السينما العالمية روائع سينمائية اشتركت في معالجتها للظاهرة في احترام مجموعة من الضوابط الفنية.

حرص مجمل الذين اشتغلوا على الموضوع على الابتعاد عن معالجته في إطار إروتيكي Erotique   بكل ما يعنيه المصطلح من أبعاد، لأن القيود التي يحيط بها المجتمع الظاهرة والنظرة القيمية لممتهنيها والملتجئين لخدماتها تحد وحدها  من درجة استقبال الفيلم دون الحاجة إلى إغراقه بتوابل أخرى منفرة كالجنس والكلام البذيء.

والتوجس في محله لأن الأفلام لا تصنع لتظل حبيسة العلب وإنما يُصرف عليها بسخاء لتصل إلى الجمهور العريض وتسترد تكاليفها بل وتحقق مكاسب هي من كنه صناعة السينما، من هنا كان الرهان على المشاهدة العائلية إحدى عقائد صناع السينما، فكلما أمكن مشاهدة الفيلم على نطاق واسع سواء في الصالات المظلمة أو في إطار العرض المنزلي كلما علت إيراداته وازدادت مردوديته المادية، ومن الشواهد على هذا المعطى أن فيلم “امرأة جميلة” Pretty Woman الذي يعتبره نقاد السينما وهواتها الفيلم الخالد film cult في هذه العينة، بطولة جوليا روبرتس في دور فتاة الليل وريتشار غير في دور رجل الأعمال الباحث عن المتعة، على غناه بالمضامين الموضوعية والجمالية، فإن سحره نابع من  أن مخرجه كاري مارشال صنع فيلما نظيفا عن ظاهرة يعتبرها المجتمع غير نظيفة ؛ فباستثناء مشهدين لجوليا روبيرتس أحدهما على رصيف بفيرلي هيلز وآخر في الحمام، يحتار المتفرج هل هو حقا أمام فيلم عن دعارة الأعمال أم أمام مقدمات قصة حب رومانسية.

ومن القواسم المشتركة بين التحف السينمائية التي تناولت التيمة، أنها عكس فيلم نبيل عيوش، حاولت عن وعي أن تجنب حوارتها توظيف المعجم الساقط لعالم الدعارة، وعيا من مخريجها بأن التركيز على معجم تحث الحزام بداعي الالتزام بالواقع هو إفلاس فني وبؤس في المعالجة يتوخى في ظاهره تقديم الواقع كما هو، لكنه ينطوي عن بحث عن الإثارة الرخيصة، في نفس السياق أيضا غيبت الأفلام التي عرضت للظاهرة المشاهد الجنسية المباشرة ، وحتى إن فرضتها الضرورة الفنية، فقد كان يُومئ إليها رمزا وتورية مع الوقوف في معظم الحالات عند المقدمات دون مجاوزتها، لأن العمل الذي يتصدى لمعالجة ظاهرة الدعارة ليس مطلوبا منه أن يقدم مضمونا إروتيكيا حتى يقنع.

ومقابل الإعراض عن الكليشيهات اللفظية والحسية، نجد انصراف صناع أفلام هذه التيمة إلى الاشتغال على سبر أغوار الخلفيات النفسية والسوسيولوجية للمومسات، وفي هذا قدمت السينما كل النماذج التي يمكن تصورها للمومس من الفتاة البسيطة ضحية الظروف الاجتماعية والأسرية إلى المومس المثقفة، في فيلم  Pretty Woman قدمت النجمة الهوليودية جوليا روبيرتس دور الطالبة الجامعية التي تضطر لامتهان الدعارة من أجل تغطية مصاريف دراستها، وفي فيلم ” شيئان أو ثلاثة أشياء أعرفها عنها ” Deux ou trois choses que je sais d’elle، رسم  فيلسوف السينما الفرنسية جون ليك كودار بورتريه لربة بيت جسدتها مارينا فالدي  تمارس الدعارة العرضية لمواجهة الأعباء الأسرية، ومن خلالها حاول كودار أن يجري نقدا لمجتمع الاستهلاك الذي تشكل في أحضان الرأسمالية المتوحشة.

 وفي فيلم “حسناء النهار”  Belle de Jour قدم المبدع الاسباني لويس بونيل النجمة الفرنسية كاترين دونوف في دور الزوجة البورجوازية لطبيب شاب التي تبحث عن المتعة المفقودة في الشقق السرية المفروشة، وقدم موهوب السينما الايطالية الجديدة جيوسيبي تورناتوري النجمة الحسناء مونيكا بيلوتشي في فيلم “مالينا” Malèna في دور الزوجة التي تتعرض للإستغلال الجنسي نتيجة انقطاع أخبار الزوج في الحرب وقصر ذات اليد في ظروف الحرب الصعبة، حتى إن المجتمع الصقلي المحافظ عاقبها بعد التحرير بقطع شعرها ونفيها، ثم عاد ليعفو عنها حينما عادت إليه متأبطة دراع زوجها الذي أصبح من معاقي الحرب في قصة إنسانية مؤثرة  تؤكد أن لا أحد يختار قدره، إذا عرجنا على التجارب العربية، فسنقف على فيلم |درب الهوى” للمخرج المصري حسام الدين مصطفى، والذي امتاز بتمثل المعالجة العالمية للظاهرة من خلال اشتغاله على الخلفيات النفسية والاجتماعية للشخصيات التي تعيش في ماخور درب الهوى حيث تدور أحداث الفيلم.

ورغم أن الفيلم لم ترد به مشاهد جرئية وألفاظ نبية مثل فيلم نبيل عيوش، فقد طاله المنع من طرف الرقابة في منع جسد حسب كثيرين حالة النفاق الذي يتعامل به المجتمع الشرقي مع ظاهرة الدعارة، فهو يشتكي من استفحالها وقد يغض الطرف عنها ويتعايش معها لكنه يمانع  في معالجتها الدرامية، وهي النظرة التي جسدها في الفيلم الممثل حسن عابدين في دورالوزير ورئيس حزب اسمه”الفضيلة والشرف” الذي ينادى بغلق بيوت الدعارة في خطبه النارية نهارا بينما هو دائم التردد عليها ليلا.

على الإجمال، يمكن أن نجزم بأن سقطة نبيل عيوش لم تكن فنية فحسب حينما حاد عن ضوابط المعالجة الدرامية التي وضعها كبار المخرجين العالميين في معالجتهم لظاهرة الدعارة، ولكن سقطته كانت فكرية أيضا لأنه لم يحسن تقدير معالجة الموضوع في مجتمع محافظ محكوم بمجموعة من القيم المتداخلة  منها ما هو ديني وأخلاقي وعرفي، كما لم يقدر حساسية الموضوع الذي يمس إحدى الطابوهات الثلاث الممنوع الاقتراب منها في المجتمعات العربية  ألا وهي السياسة والدين والجنس، فضلا على أن الجرأة الزائدة  في المعالجة ليست محبذة دائما في عمل مفروض أنه موجه للجمهور العريض في وقت يُطلب فيه من السينما في بلداننا أن تساهم في تثبيت أقدامها في محيط مناوئ لا يفتأ يوسع من دائرة الخطوط الحمراء، ولنا في الأفلام التي سردنا نماذج منها أسوة، فقد قدمت تحفا سينمائية دون أن تجرح ولا أن تسقط في الإسفاف الفني والأخلاقي.

لقد بدأ نبيل عيوش في بداياته الأولى واعدا متمكنا من أدواته التقنية، لكن في بعض أفلامه الأخيرة يخيل إلي أن الرجل يبحث عن إثارة الجدل أكثر من تقديم أفلام يمكن أن تطاول بعض تجاربه الأولى كمكتوب وعلي زاوا.

* ناقد من المغرب

Visited 230 times, 1 visit(s) today