“نهايات سعيدة”.. الحب في زمن الثورة

Print Friendly, PDF & Email

عند النظر للحب والثورة للوهلة الأولى ربما نجد أنهما شيئان مختلفان، ولكن إذا دققنا النظر نجد أنهما متقاربان إلى حد كبير، تكاد تسكنهما نفس روح الاندفاع التي تتطلب قدراً كبيراً من الجرأة والشجاعة للتغلب على الخوف الذي يعيق إطلاق الشرارة الأولى، كما يشتركان أيضا في روح التضحية التي نشعر خلالها أننا أصبحنا كيانا واحداً مع من نضحي لأجله؛ ورغم حالة التأجج والغليان التي يحملها كل منهما إلا أن كلاهما يخمد بعد فترة من الوقت.

وليس المقصود هنا من حالة الخمود الموت، إنما هي مرحلة مؤقتة يعاد فيها ترتيب البيت من الداخل أو تصحيح بعض المسارات الخاطئة التي لم نكن لنعلمها لولا التجربة. الحب والثورة تجربة، تحفر داخلنا الكثير من الذكريات السعيدة والأليمة، فالحب لا يكون حبا حقيقيا إلا إذا كان ثورة، ولا تصبح للثورة قيمة إن لم تكن حبا.

ينطلق الفيلم التسجيلي “نهايات سعيدة” للمخرجة ندى رياض، الذي شهد عرضه العالمي الأول بمهرجان أمستردام السينمائي للأفلام التسجيلية عام 2016، مع اندلاع الثورة المصرية في 2011، حيث تقع ندى في حب أيمن، إلا أن الشعلة الأولى للحب سرعان ما تخبو عندما يقرر الأخير مغادرة البلاد بسبب تدهور الأوضاع الاجتماعية والسياسية عقب الثورة. تفعل ندى كل ما في وسعها لإثنائه عن قراره وإقناعه بالبقاء سويا، ولكن التصاعد المخيب للأحداث في مصر واختلاف وجهة نظرهما يضع التزامهما بالبقاء في بلدهما على المحك.

يبدأ الفيلم بمشهد احتفالي على أنغام أغنية شهيرة تحمل بين طياتها نوستالجيا التسعينيات تتداخل معها لقطات تغمرها فرحة المصريين في الشوارع إبان ثورة يناير 2011، ثم تستهل الراوية وبطلة الفيلم “ندى” حديثها حول أزمتين  إحداها شخصية تتمثل في علاقتها مع حبيبها أيمن الذي قرر السفر للخارج لاستكمال دراسته بالسينما بعد أن أصبح الوضع في مصر مخيبا للأمال عقب الثورة، والأخرى تتعلق بأحلامها وتطلعاتها تجاه هذه الثورة. من هنا ينشأ سؤالين في عقل ندى يستمران معنا طوال أحداث الفيلم المليء بلحظات الأمل واليأس، المقاومة والانكسار، ما هو السبيل لنجاح هذه الثورة المتعسرة التي تحكمها الفوضى والانقسامات؟ وكيف تتمكن من إنجاح علاقتها مع أيمن وإقناعه بعدم السفر مجددا؟

اعتمدت ندى منذ بداية الفيلم، على إيصال افكارها ومشاعرها تجاه علاقتها بأيمن وفكرة سفره بشكل غير مباشر؛ فهي لا ترغب في ذكر الأشياء بمسماها الواضح ظنا منها بأنه لن يستوعب بعض الأمور التي فاتته أثناء سفره، لكنها تبحث عن أجوبة ربما تدركها لكن لا ترغب في الاعتراف بها إلا من خلال مجموعة لقاءات مع عدد من الأزواج يمثلون مراحل عمرية مختلفة.

تتناول اللقاءات التي أجرتها ندى مع مجموعة الأزواج فكرة العلاقات بمفهومها الواسع، تتشابك معها محاولات ندى لإقناع أيمن بالتخلي عن فكرة السفر، ونكتشف من خلالها كيف كان الوضع في السابق وما هي ملامحه في الوقت الحاضر. يروي هاني الذي يمثل الجيل القديم (جيل ما قبل 52) كيف كان الغياب سببا في انتهاء زواجه الذي دام لمدة 18 عاما من أجل ملاحقة أحلامه في الخارج.

ثم ننتقل إلى لقاء والدي ندى اللذين يمثلان جيل السبعينيات واستعادتهم لذكريات النضال الثوري واضطرارهم للسفر بحثا عن حياة كريمة، وكان هذا من وجهة نظر ندى، سبباً في فشل هذا الجيل في إحداث تغيير في ذلك الوقت. الأم تتصرف على سجيتها طوال الوقت بينما الأب دائم الحرص على مظهره وكلامه أمام الكاميرا مثلما يفعل أيمن تماما، ما جعل ندى تدرك أنها تقترب من تكرار نفس المأساة، خاصة وأن والدها هو من أتخذ قرار السفر في الماضي بينما عارضته والدتها بشدة.

أما الشاب المصري وزوجته المغربية فيمثلان الجيل الحالي (جيل ندى وأيمن)، الذي يؤمن بأن خيار البقاء من عدمه غير مرتبط بفكرة النضال الثوري، حيث وعد هذا الشاب حبيبته بأنه سيتزوجها في حال سقوط نظام مبارك، وكان شرطه الوحيد وقتها أن تعيش معه في مصر، لكن بعد فترة من الزواج يقرران السفر بسبب تردي الأوضاع الاجتماعية.

رباط مقدس

يذكر توفيق الحكيم في روايته الشهيرة “الرباط المقدس”: “إن لكل جيل أفكاره كما أن لكل عصر ثيابه.. إن الأفكار كورق الشجر تتساقط في كل خريف“.

يرى بطلا الفيلم الحب والثورة من منظورين مختلفين، فأيمن لا يريد الاصطدام مع موروثاته الاجتماعية المكبلة، ويبحث طوال الوقت عن شكل مناسب لعلاقته مع ندى يجعله يسير على المسار الصحيح، وعلى الرغم من إيمانه التام بأن علاقته بندى لا تشوبها شائبة إلا أنه غير قادر على مواجهة المجتمع، الذي يطاردهم باستمرار على الشاطئ من خلال عبارات دينية طبعت على جدران الصخور، مثل: (أترضاه لأختك)، (لو عاوز تتجوز أتق الله). لذلك يتكبد مشقة السفر لمئات الكيلومترات من الإسكندرية للقاهرة لكي يحظى ببعض الوقت مع ندى بعيدا عن أعين الناس. وأثناء تواجدهم في شقة القاهرة يعثر أيمن في مكتبته على رواية “الرباط المقدس” التي تتحدث عن مشاكل الزواج ويتذكر احتوائها على تفاصيل مهمة عن أول ليلة بين بنت وولد وهو أمر نادر الوجود في الروايات العربية.

أما ندى فلديها ما يكفي من المخزون الثوري الذي ورثته عن والديها وهو ما يجعلها غير قادة على التخلي عن حلم التغيير الذي أمنت به منذ يناير 2011، لكنها تعاني من التخبط وعدم وضوح الرؤية في كثير من الأوقات ما يجعلها في حالة صدام دائم مع أيمن، فهي متمسكة بعلاقتها معه وتبذل ما في استطاعتها لإنجاحها بأي ثمن، في حين يرى الأخير أن هذه المحاولات عززت من رغبته في السفر وليس البقاء.

إن الانتصار الذي تطمح ندى أن تحققه في علاقتها مع أيمن هو انتصار لفكرة الثورة في حد ذاتها، فهي لا ترغب في تكرار تجربة والديها السابقة حينما تركا نضالهما الثوري إبان فترة السبعينيات للبحث عن فرصة عيش كريمة في الخارج وعادا مهزومين لا يرددان سوى أغاني الشيخ إمام.

عززت الصورة أسلوبية صانع الفيلم بشكل كبير، فاختيار نوع الكاميرا والكادرات البسيطة كان قراراً واعيا من جانب المخرجة. إن المشاهد المصورة التي تجمع أيمن وندى في البيت أو الشارع تشبه إلى حد كبير اللقطات التي وثقتها ندى لمشاهد المظاهرات وهو ما يخدم فكرة تأثير العام على الخاص والثورة على الحب. وتداخل واقع العلاقة المتأزمة التي يمر بها الحبيبين مع مشاهد لبعض الشوارع المتكدسة بأكوام القمامة. ويلخص مشهد الدراجة التي ترغب ندى في تعلم قيادتها حالة العجز والتخبط، فالدراجة التي ستسمح لها بحرية الحركة لا تعرف كيف تتعامل معها رغم محاولاتها المتكررة في التعلم على يد أيمن. كما وظفت المخرجة فكرة الأرجوحة المعلقة في الهواء بأكثر من مشهد للتعبير عن احساسها بالحرية في اتخاذ قرارات تبدو أصعب على حبيبها، الذي، على ما يبدو، استنفذ في النهاية محاولات البقاء وقرر الرحيللتعود ندى إلى مكانها المفضل (الأرجوحة) وتواصل الدوران داخل حلقاتها المفرغة من جديد.

جنة مفقودة

في مقطع من رواية “خارطة الحب” تقول المؤلفة أهداف سويف: “مصر، أم الحضارة، تخلق نفسها في الأحلام عبر القرون. تحملنا جميعا، أبناءها، الذي يستمرون ويعملون من أجلها ويشتكون كذلك منها، والذين يرحلون عنها ويعودون يشتاقون إليها ويلومونها بمرارة على مغادرتهم“.

يروي هاني في لقائه مع ندى، أنه رأى الجنة مقدما، حين عاش في الفترة الذهبية لمصر، في وقت كان يهاجر الجميع إليها حيث كانت منفتحة على الكثير من الثقافات والأجناس. يتبعه لقاء الشاب المصري وزوجته المغربية وهما يطرحان لها مثالًا يخص شكل الحياة الاجتماعية التي وصلت إليه البلد، إذ أن التحرش والقيود الاجتماعية زادت بعد مضي أعوام على الثورة، وكان ذلك سببا كافيا للرحيل.

مع اقتراب نهاية الفيلم، نرى أحلام ندى تتحطم تدريجيا على صخرة الواقع فتعترف بفشل الثورة بشكل صريح: “احنا كنا ممكن نعمل ايه مختلف عشان نوصل لنتيجة غير دي”. بمرور الوقت تكتشف ندى أن الحرية التي كانت تتباهى بها في الماضي هي حرية منقوصة، فهي تتردد طوال الوقت في إخبار والديها بعلاقتها مع أيمن، لترى هل يؤمنان فعلًا بما نشأت عليه من حب للحرية والاستقلالية.

في بداية الفيلم تحكي ندى عن الشاب الذي قابلته يوم 28 يناير واعتذر لها عن معاكسته لها في الماضي ويعدها بعدم تكرر الأمر مرة أخرى، وبعد مرور أكثر من عامين طلب منها أحد الأشخاص وضع إيشارب على رأسها لأن معظم الناس المراد مخاطبتهم محافظين، لتعلق: “فهمت إن يوم ما هتفنا ثورة.. ثورة حتى النصر.. كان كل واحد فينا يقصد حاجة غير التاني.

الصدمات المتتالية التي تعرضت لها ندى تدفعها للعودة إلى غرفة المونتاج لشحن معنويتها من خلال مشاهدة مقاطع من لقاءتها السابقة، لتتيقن بعد أن اعتلت شفتيها ابتسامة يملأها الأمل أن الزمن لن يعود إلى الوراء مرة أخرى. ينتهي الفيلم بمشهد لندى وهي تقف على الشاطئ وقد قررت الاستمرار في أحلامها وأمالها المتجددة ومواجهة تلك الأمواج العاتية مع جملة مفادها بأنها قامت بتصوير الفيلم كي تذكر نفسها لماذا فضّلت البقاء في مصر إن ساورها الندم بعد 20 عاما.

Visited 66 times, 1 visit(s) today