فيلم “عيش حياتك”.. دعوة للتفاؤل والأمل

Print Friendly, PDF & Email

في تجربة تكافح الأنماط الاعتياديَّة يطالعنا فيلم “عِيش حياتك” للمخرج تامر بسيوني، ليواجه سينما خيَّمتْ على الأجواء المحليَّة من الممكن تسميتها بـ”سينما العنف” سواء كان هذا العنف جسديًّا أم لفظيًّا. ففي جوٍّ أصبح سماعنا للسُّوء ورؤيتنا إياه اعتيادًا يخرج علينا فيلم لطيف الجوهر والمظهر يدعونا إلى التفاؤل والأمل.

تعرِّفنا لقطات مقطَّعة منذ لحظات الفيلم الأولى على “إبراهيم” (سامح حسين)، و”كريمة” (سامية الطرابلسي) اللذين ينفصلان لاختلافهما الشديد، لتتزوج بعدها بصحبة ولدهما الذي يفقد هو الآخر ثقته في أبيه. إبراهيم يتحطم نفسيًّا بسبب هذا الانفصال، ويتأخَّر في عمله ويتقوقع حول نفسه خاصةً بعدما أثَّر فيه وصف زوجته السابقة له بأنه فاشل.

ثمَّ بعد مرور سنتين وبعدما تحوَّل إلى عبء على شركة الإعلانات التي ساهم في إنشائها مع “هشام” (إدوارد) تظهر على ساحة حياته “داليا” (ساندي) التي تعمل مصورة. وبوجود منافسة على حملة دعائيَّة ضخمة لإحدى أكبر الشركات عنوانها “عيش حياتك” (عِشْ حياتك) يستغل هشام الفرصة ليعيد صديقه القديم إلى التألق في العمل. ويكلَّفه بالسفر إلى عدد من المناطق السياحيَّة المصريَّة مع المصورة داليا ليصورا ما يلزم للحملة الإعلانيَّة. وفي أثناء السفر تحدث لإبراهيم العديد من المواقف والمحادثات التي ستغير حياته.

كما يتبادر إلى أذهاننا من سياق القصّة؛ فإنَّ الفيلم الذي كتبته “وسام حامد” نمطيّ ومتوقَّع. بل إنَّه كان تلميذًا جيدًا لما سبقه من صفوف الأفلام المُشابهة؛ أفلام الرحلة المُغيِّرة للشخصيَّة أو الأحداث. فقد سار الفيلم سيرًا أمينًا على ما رسمته أفلام الرحلة من تكوينات وتحولات ومفارقات بدرجات انحائها، وعددها حتى. لكنَّه ألقى بالكثير من العبء على الشخصيَّات الثانويَّة التي ظهرت في الفيلم مثل رجل الواحة (أحمد حلاوة)، والرجل من الأقصر (إبراهيم فرح)، وسائق النقل على الطريق (ياسر طوبجي) لتغيير شخصيتنا الأساسيَّة، وبالتالي التأثير على خط الأحداث العامّ.

كما وقع الحوار تحت وطأة الجُمل المباشرة التي تكاد تكون مُوجَّهة إلى المُشاهد لا إلى شخصيات الفيلم بعضهم لبعض. ونمطيَّة الحوار تبعت نمطيَّة الخطوط والشخوص والالتواءات في الفيلم. كما أنَّ الحوار لمْ يكن فعَّالاً في توليد الكوميديا، بل إنَّه غازلها مغازلة على استحياء شديد رغم وجود عوامل كثيرة تفترض وجودها منها أنَّ بطل الفيلم في الأصل كوميديان، ومنها أنَّ الفيلم به الكثير من المعطيات التي تؤدي إلى الكوميديا في حين أحسن استغلالها، لكنَّ الفيلم تأليفًا وإخراجًا لمْ يستطع أنْ يستغل تلك المُولِّدات الكوميديَّة لإعطائنا ثراء في تجربة المُشاهدة.

هل يعني ذلك أنَّ التأليف كان سيئًا أو أنَّه لم يضف شيئًا للفيلم؟ لا فقد صنع فيلمًا به شخصيَّة هي إبراهيم الذي يعيش حياته خائفًا من كل الأشياء التي لا تخيف أصلاً ولا تدخل تحت حيِّز الممنوع. شخصيَّة إبراهيم روتينيَّة إلى أبعد الحدود في كل مظاهر حياتها؛ في لباسها وطعامها، وما تشاهده في التلفاز، وما تقضي فيه فراغها. هي شخصيَّة تشبه الكثير من ملامحنا الداخليَّة التي قد تكون أصيلة فينا، وقد يزرعها نمط الحياة من الالتزام للحفاظ على الأسرة والعمل، والحرص على الاستقرار بكل أشكاله.

نجح الفيلم في تقديم الكثير من المعاني التي قد يتراءى لنا أولها منذ أول لحظات الفيلم عندما يكون الخوف نمطًا من أنماط الحياة، حينما يتحول الخوف إلى روتين الحياة. يخاف إبراهيم من تناول الطعام في الخارج كي لا يصاب بعسر الهضم، يخاف من تغيير التلفاز إلى غير المسرحيَّة التي اعتادها فمن الممكن أن يكون الشيء الآخر سخيفًا أو غير مُضحك، يخاف أن يأذن لابنه أن يلعب مع أصدقائه كرة القدم كي لا تكسر ساقه أو يصاب بالضرر.

كل هذا الخوف حوَّله إلى إنسان افتراضيّ؛ فلأنَّه يخاف لعب الكرة على أرض الواقع صار يلعبها على الألعاب الإلكترونيَّة، ولأنَّه لا يستطيع هزيمة عدوه في الواقع صار فخورًا بهزيمة منتخب الاحتلال في لعبة افتراضيَّة، ولأنَّه لا يستطيع مواجهة الناس على أرض الواقع صار يراقبهم من بعيد على صفحاتهم الشخصيَّة في “فيس بوك”، ولأنَّه يخاف من مرض بطنه صار يأكل سنتين من طبخه هو رغم رداءة طبخه، ولأنَّه يخاف ألا يضحك من الجديد يظلّ يشاهد نفس المسرحيَّة لسنوات ويضحك أو يمثل الضحك.

عرض الفيلم أيضًا لمعنى لطيف أنَّ ما يصيبك من سوء قد لا يكون سوءًا كما تتوقع؛ فالتمثلان اللذان -تمثالا ممنون وهما تمثالان فرعونيان- رآهما إبراهيم وداليا في الأقصر قد تعرَّضا للكثير من السوء في رحلتهما الطويلة في الحياة. ورغم ذلك صار كسرهما من أكبر أسباب الاهتمام بهما وداعيًا لزيارتهما من الرحَّالة والبشر. فليس كل ما يبدو سوءًا هو سوء على وجه الحقيقة.

كما أنَّ الفيلم نبَّه وعينا إلى أنَّ كثيرًا من الأمور لمْ نجربها بعد، وكثيرًا من الأماكن لمْ نزرها بعد بل لمْ نعرف أنَّ موجودة محيطة بنا. وفي الرحلة التي ذهب فيها إبراهيم وداليا الكثير من “شغف الاكتشاف” وهو الشعور المضاد للخوف من الحياة والاكتفاء بالحياة على الشاطئ. ومن ألطف ما جاء به الفيلم إثارته لشعور الحبس الاختياريّ الذي ندخل أنفسنا فيه حينما نجلس وراء شاشة نطل منها على الحياة في صورة مواقع التواصل الاجتماعيّ دون أنْ نعيشها حقًّا؛ فالبطل يحزن من خلال الفيس بوك بمراقبة “طارق” (محمد نور) زوج طليقته وهو يستحوذ على اهتمام ابنه منه، والبطل يحبّ عن طريق الفيس بوك حينما يراقب حساب داليا.

ولا شكَّ أنَّ تصوير أماكن خلابة آسرة لأيّ عين قد أضاف الكثير من التجربة البصريَّة التي قادها المخرج “تامر بسيوني”. فلديه في هذه التجربة تقدُّم وفرصة منذ البدء ليست في حاجة إلى كثير اجتهاد هي وجوده في سيناء، سيوة، الأقصر، أسوان. وفي أبهى ما فيها من مناطق، حتى القاهرة قد اختار وجوهها الجيدة لا تلك البشعة التي بجوارها في كادر اللقطات.

وقد أصرّ المخرج على لقطاته شديدة الاتساع حتى في العاصمة. لكن ما قد يسترعي الانتباه هو أنَّه لم يقترب من الجماليات الكثيرة التي أحاطت به بل اكتفى بمظهرها من بعيد وحسب. فكما تلتقط الصور المتسعة جمالاً تلتقط العدسات شديدة التقريب أيضًا جمالاً وأظنّ أنَّه فرصة ضائعة على التجربة البصريَّة في الفيلم.

فيلم “عيش حياتك” امتاز بأداء متوازن من بطلَيْ العمل سامح حسين وساندي؛ ليدعو مُشاهده إلى الحياة رغم أنَّه فيها، لكنْ ليس كلّ من في الحياة يعيشها هذا ما أراده الفيلم. وكما نجد الكثير من الاهتمام الجماهيريّ والنقديّ لأفلام تدعونا للإجرام دعوةً صريحة مباشرة وتقدمه لنا على طبق من ذهب فلا بُدّ أن تجد مثل هذه التجارب المُكافحة التقدير والإشادة فيكفي أنَّها تدعونا للحياة لا نقيضها.

Visited 167 times, 1 visit(s) today