محمود عبد الشكور: آفاق واسعة لاكتشاف النقد والسينما
تبدو الكتابة عن تجربة مجلة “عين على السينما” بعد عشر سنوات من التأسيس (2011- 2021) أمرا مثيرا للذكريات وللأفكار، فعلاقتي بالمجلة ومؤسسها الناقد أمير العمري قديمة وهامة، واكتشاف هذا التراكم في رصيد المجلة وكتابها ودورها في مجال الثقافة السينمائية عموما، وفي مجال النقد السينمائي بشكل خاص، لهو أمر يبعث حقا على السعادة.
مصدر السعادة في هذه الأجيال المتتالية التي أتاحت لها المجلة فرصة الظهور، فالمساحات ضيقة وشحيحية عموما في مجال الصحف والمجلات السينمائية الجادة والرصينة، مطبوعة أو أليكترونية، في عالمنا العربي، بل إننا لا نكاد نجد برنامجا سينمائيا يحتفي بهذا الفن، ويحلل روائع وكلاسيكياته، على شاشات فضائياتنا التي تكتظ بكل شيء، وبأي شيء، ويملأ هواؤها على مدار اليوم الكثير من الهراء.
لا أضع “عين على السينما” كمشروع منفصل عن المشاريع السابقة لأمير العمري وجيله، هذا الجيل تثقف وتأسس معرفيا بصورة ممتازة، تعرف على السينما من خلال جمعية الفيلم، ونادي سينما القاهرة، وكتابات العمري الأولى نشرت في ملاحق ثقافية مرموقة، أو في نشرة نادى السينما، وكان يستقبل هذه المقالات، ويتحمس لنشرها، أسماء بحجم عبد الفتاح الجمل، وسامي السلاموني، الأول كان مشرفا على ملحق جريدة “المساء” في عصرها الذهبي، والثاني كان مشرفا على نشرة نادي السينما، التي طالما أعتبرتها أهم مطبوعة نقدية سينمائية مصرية، رغم صفحاتها القليلة، ورغم إمكانياتها البسيطة، وتقريبا لا يوجد ناقد أو اسم كبير لم يكتب في هذه النشرة، وقد اعتمد العمري نفسه على مواد النشرة في كتابه الهام عن عصر نوادي السينما.
ما أردت قوله إن مجلة “عين على السينما” تترجم حلم العمري وجيله كله، وإنها لم تنشأ من فراغ، فقد سبقتها محاولات لتقديم ثقافة سينمائية جادة، بل إنني عرفت أمير العمري شخصيا من خلال اتاحته النشر لي، ولعدد كبير من النقاد من مختلف الأحيال، في مجلة صدرت عن جمعية نقاد السينما المصريين، عندما كان العمري رئيسا للجمعية، وكانت المجلة الورقية المطبوعة تحت اسم “السينما الجديدة”، وقد أفردت لنا المجلة صفحات في نقد الأفلام، بينما كانت مساحات الكتابة النقدية في المجلات الرسمية التي نكتب فيها محدودة وقليلة.
ربما تكون فكرة المجلة الإليكترونية قد حلت مشكلات كثيرة، أبرزها إمكانية الوصول الى قطاعات واسعة تتجاوز ما تتيحه مجلة ورقية مطبوعة، كما أن جيلا جديدا من القراء، صار جديرا بالوصول إليه، عبر ما يفضله من عالم المواقع الإليكترونية، دون التنازل عن شرط تعميق النظرة الى الأفلام، والى النقد السينمائي، ودون تجاهل الخبر والمعلومة والصورة والحوار ومقاطع الفيديو، بل ونشر واتاحة نسخ الأفلام في بعض الأحيان.
هنا يمكن القول إن المجلة قد جمعت بين نظرة جيل لا ينظر الى السينما بخفة وسطحية، وبين حيوية أجيال جديدة، تثمن المعلومة، ويمكنها أن تقوم بتحميل عشرات الأفلام بسهولة، بينما كان جيلنا يذهب الى المراكز الثقافية، والى نوادي السينما، لمشاهدة فيلم واحد كل يوم.
الى حد كبير نجحت المجلة في تحقيق هذا التزاوج، ولكن نجاحها الأهم في رأيي في إتاحة الفرصة لأسماء جديدة كتبت في السينما لأول مرة، واكتسبت ثقة عالية في مواصلة الكتابة والمتابعة، وهذا بلا شك دور هام للغاية، وخصوصا مع تضاؤل مساحات النقد السينمائي في الصحف والمجلات المطبوعة، وغياب مجلات الثقافة السينمائية المصرية الرصينة، باستثناء مجلة يصدرها مركز الجيزويت، وهي مجلة تصدر كل عدة شهور.
ربما نلاحظ قلة الحوارات السينمائية العميقة على صفحات “عين على السينما”، وربما لا نجد كتابات كثيرة عن مدارس السينما ونظرياتها، ولا نجد اهتماما بترجمة سيناريوهات كما كنا نجد في مطبوعات قديمة مصرية مثل مجلة “السينما”، ولكن مجلة “عين على السينما” صارت بالفعل أهم مجلة أليكترونية سينمائية تعنى بالنقد والنقاد، من مصر والعالم العربي، وصارت مرآة تنعكس عليها أبرز تيارات النقد والثقافة السينمائية خلال السنوات العشر الأخيرة.
تحدثت في أكثر من مناسبة عن تجربتي الشخصية مع المجلة، ورأيي دائما أنها كانت تجربة مفيدة وإيجابية على الدوام، فلا أعتقد أن مجلة أو وموقعا كان يمكن أن ينشر لي دراسة في ثلاثة ألاف كلمة عن فيلم واحد سوى “عين على السينما”، وتراكم مقالاتي المنشورة في المجلة، أتاح لي فيما بعد الانتقاء منها، والإضافة إليها، لنشرها في كتب نقدية سينمائية أعتز بها.
اكتشفت أيضا في بدايات النشر المنتظم في المجلة، أن اسمي صار معروفا للنقاد العرب، وكم من مرة أخبرني ناقد كبير عربي، أو مسؤول عن مهرجان شهير، خليجي أو مغاربي، أنه يتابع مقالاتي في “عين على السينما”، ولاشك أن ذلك مؤشر على ما حققته فكرة المجلة من انتشار وتأثير، وأظن أن كل جيل قد وجد في موضوعاتها ما يريد ويطلب.
هذا إنجاز حقيقي ليس سهلا على الإطلاق، لا يقلل منه أن المجلة لم تستطع أن تحقق تمويلا يمكنه تغطية مكافآت نشر المقالات والموضوعات، وهذه مشكلة قديمة أيضا عانت منها المجلات السينمائية الورقية، بل والمجلات الثقافية عموما في كل عصر وأوان.
أتمنى فعلا أن يناقش هذا الموضوع اقتصاديا وتسويقيا، فإذا كان هناك جمهور كبير مهتم بالسينما، ويحاول أن يقرأ عنها، وإذا كانت المجلة مقروءة ومؤثرة في الأوساط السينمائية، فكيف لا توجد معادلة لدعمها ماليا بصورة تضمن لها الإستقرار؟ كيف لم نصل بعد عشرات التجارب الى صيغة ما للرعاية أو للإعلانات تتيح ذلك؟ وما هي التجارب المستفادة من مواقع ومجلات معاصرة في أوروبا والولايات المتحدة ما زالت حاضرة ومستمرة وناجحة؟
لا ينبغي أن نتغافل عن الجانب الإقتصادي في المشروع الثقافي، حتى نتيح لهذه المجلة أن تواصل مسيرتها بثبات، هذا الأرشيف اللامع الذي يحصر موضوعاتها ومقالاتها وتغطياتها للمهرجاناتها وعروضها للكتب الهامة، كل هذه العناصر أراها ثروة حقيقية يجب استثمارها، ويجب العمل على بقائها واستمرارها.
“عين على السينما” في رأيي لم تعد الآن تخص مؤسسها الدؤوب، ولا كتابها المجتهدين والمميزين، ولكنا يجب أن تكون موضع اهتمام كل من تعنيه الثقافة والسينما في العالم العربي، ويمكن أن نتصور الفراغ الذي يمكن أن ينشأ عن غياب هكذا مجلة، إذا حدث ذلك لا قدر الله، ويمكن أيضا أن نتصور الأصوات والأسماء الموهوبة، التي يمكن أن تحتجب جراء هذا الغياب، والذي نتمنى ألا يحدث أبدا.
كيف يمكن أن تكون هناك حياة ثقافية بدون نقد جاد ومتنوع المدارس والاتجاهات والأجيال؟ لقد وصف طه حسين الناقد بأنه “مستشار القاريء”، عين إضافية ترى بها الفيلم، وتطرح الأسئلة، وتثير المناقشات، وتضع الفيلم في إطار أفكار عصره، وترسم الحدود والمسافات بين الحضارات والثقافات والفنون، بل إن الموجة الجديدة للسينما الفرنسية، خرجت من قلب مقالات نقاد صاروا مخرجين، نشروا وكتبوا عن سينما مختلفة في مجلة “كراسات السينما”.
لعلها فرصة لتأمل وتحية القيمة والعمل الجاد الذي لا يستخف بمن يقرأ، ولا يتعالى عليه في نفس الوقت، ولعل مناسبة الإحتفال تذكرنا بأهمية النقد والناقد، وبأهمية السينما كمستودع للثقافة وللترفيه معا، ولا تناقض بين الأمرين.
أتمنى للمجلة دوام التطوير والإبتكار، وأتمنى أن تكتشف دوما أسماء جديدة، تضيف الى حركة النقد السينمائي، مثلما تضيف الى الثقافة العربية.
- ناقد سينمائي من مصر