“لعبة المحاكاة”.. شيفرة الإنسان التى لم نحلّها أبداً!
لا يكفى أن تكون القصص حقيقية لكى تصنع أفلاما جيدة، لابد أن يكون هناك سيناريو يكتشف الدراما فى هذا الواقع، ثم يعيد تقديمها بقوانين فنية تجعلنا نرى ما حدث من زاوية أعمق، الفن إذن يصنع حقيقته الموازية للواقع، يعيد تأمله من خلال موهبة الفنان، فى هذه اللعبة ما يستحق المشاهدة،مثلما فعلت وتفعل الأعمال الفنية العظيمة.
الفيلم البريطانى الأمريكى The Imitation Game أو “لعبة المحاكاة” يقدم ترجمة نموذجية لما سبق. قبل أن نبدأ تظهر العبارة الشهيرة على الشاشة:”مأخوذ عن قصة حقيقية”، وتقول عناوين النهاية إن الفيلم مأخوذ عن كتاب بعنوان “آلان تيرينج الغامض” من تأليف أندرو هودجز، والأحداث كلها عن شخصية حقيقية هامة للغاية هى عالم الرياضيات البريطانى الشهير آلان تيرينج، الذى نجح فى ابتكار آلة خاصة أمكن من خلالها فك الشيفرة الألمانية المعقدة أثناء الحرب العالمية الثانية، والتى تحمل اسم “إنيجما”، وهو أيضا الرجل الذى حوكم فى أوائل الخمسينات بتهمة المثلية الجنسية، وانتهى الأمر بانتحاره، بعد أن ظلت حكاية دوره فى فك الشيفرة الألمانية فى إطار السرية التامة، ولم يُكشف عن هذا الدور إلا بعد نصف قرن، مما أدى الى قيام ملكة بريطانيا بالعفو عن تيرينج بعد وفاته بسنوات طويلة، تقديرا لدوره العظيم الذى ساهم فى انتصار بريطانيا والحلفاء، وأدى الى إنقاذ حياة الملايين من المدنيين والجنود.
ولكن ما يجعل فيلم “لعبة المحاكاة” عظيما هو هذا الربط الذكى بين النجاح فى مهمة فك شيفرة “إنيجما”، وفشل الآخرين فى أن يفكوا شيفرة تيرينج نفسه، حيرتهم فى تقييمه أو فهمه، من هذا التناقض تنشأ دراما رائعة قد لا تكون حدثت فى واقع القصة الأصلية بهذه الطريقة بالذات، ولكن السيناريو البديع الذى كتبه جراهام مور عثر على مفتاح مذهل للدراما وللشخصية معا، وأفترض أنه كان موجودا أيضا فى الكتاب الذى لم أقرأه، لولا هذا المفتاح (بل المفاتيح) كما سأشرح لك حالا، لانشطر الفيلم الى جزءين مختلفين أو حكايتين منفصلتين: قصة فك الشيفرة، وقصة اتهام تيرينج بممارسة اللواط.
أن تكون مختلفا
هناك جسر قوى وهائل يربط بين القصتين، لقد اختار الفيلم منذ البداية أن يقدم بطله الأستاذ الجامعى فى كامبريدج باعتباره شخصية استثنائية ومختلفة، أصبح الإختلاف هو عنوان الدراما كلها، فدخل تحت العنوان بسهولة موضوع فك شيفرة “إنيجما” الغريبة والسرية، ودخلت تحتها مثلية تيرينج السرية والمجهولة، هكذا ببساطة، وبضربة واحدة، اجتمع الجزءان بلا تنافر، بل لقد اكتسبت قصة تيرينج بأكملها عمقا كبيرا بوصفها حكاية عن رجل استثنائى دفع ثمن اختلافه، ولعله بدا كما لو أنه قد جاء لمهمة محددة أنجزها ثم رحل، اختلافه هو الذى خدم البشرية، وليس أى شىء آخر.
أضاف الفيلم عمقا آخر لتأمل القصة الحقيقية، فبينما سينجح تيرينج فى فك شيفرة الآلة “إنيجما”، وفى صنع آلة تتعامل معها، فإنه عانى وسيعانى من عزلة ووحدة سببها اختلافه، وقد أدى ذلك الى ظهوره كرجل غامض لا يستطيع الآخرون فهمه أو تصنيفه، يقول الفيلم من هذه الزاوية الأعمق إننا قد نفك أعقد الشيفرات، ويمكننا أن نفهم أعقد الآلات، ولكن أصعب شيفرة تستعصى على الفهم هى الإنسان نفسه، الحقيقة أن تيرينج نفسه يبدو حائرا فى التعامل مع ميوله المثلية، بل ويبدو على درجة واضحة من “الغباء الإجتماعى” فى التعامل مع زملائه، فى حين يشهد له الجميع بالتفرد فى مجال الرياضيات، أو كما يقول هو عن نفسه: “أنا أعظم عالم رياضيات فى العالم”.
امتلك الفيلم إذن مستويين رائعين غزلهما كاتب بارع: قصتان مثيريتان عن فك الشيفرة الغامضة فى سرية، وعن تهمة مشينة لأستاذ فى جامعة كامبريدج فى خمسينيات القرن العشرين، والقصتان قدمتا بصورة مشوقة فعلا لدرجة أن بعض النقاد صنفوا الفيلم على أنه فيلم إثارة رفيع المستوى، ولكن المستوى الأعمق للفيلم ينقله الى مجال آخر، إنه عمل يتأمل معنى وأهمية أن تكون مختلفا، بل لعل الفيلم يرى أن هؤلاء المختلفين هم وحدهم الذين غيّروا العالم، تتكرر دائما هذه العبارة: “إن الذين لا تتوقع منهم شيئا، يحققون أشياء فوق تصورك”، الفيلم يطالب الجميع بأن يعترفوا بالأفراد المختلفين، وبأن يتقبلوا ذلك، وإذا كان تيرينج قد كتب فى مقال شهير يحمل نفس عنوان الفيلم “لعبة المحاكاة” إن اختلاف الآلات عنا، لايعنى أبدا أنها لا تفكر، ولكنه يعنى أنها تفكر بطريقة مختلفة، أفلا يمكن ببساطة أن ننقل المقولة الى عالم البشر فنقول إن اختلاف الآخرين عنا لايعنى أنهم ليسوا بشرا، أو انهم فى مرتبة أدنى، ولكنه يعنى أنهم مجرد بشر مختلفين؟!
مستوى اللعبة
بعد أن أسس السيناريو لأفكار من الوزن الثقيل، جاء وقت اللعب، الدراما لعبة تستخدم أدوات مشوقة تستطيع أن تنقل من خلالها أعقد وأعمق الأفكار، وقد لجأ السيناريو بوضوح الى اللعب مع المتفرج سواء بإخفاء بعض المعلومات مثل حكاية مثلية تيرينج التى تظهر فى الثلث الأخير، بعد أن تكون حكاية إختلاف وتفرد تيرينج قد استقرت وترسخت تماما، أو مثل حكاية البحث عن جاسوس للسوفيت وسط العلماء الستة الذين يحاولون فك شيفرة “إنيجما” فى منطقة منعزلة تحمل اسم “بليتشيلى بارك”، وهناك مستوى آخر للعبة الدرامية بإدارة الأحداث عبر ثلاثة أزمنة ننتقل بينها بشكل سلس وبارع :العام 1951 حيث يقوم رجل بوليس بالتفتيش وراء ملف العالم تيرينج إثر الإبلاغ عن اقتحام لص لمنزله، ومع ذلك لم يسرق اللص شيئا، كما بدا العالم غريب الأطوار بطريقة تسترعى الشك، والفترة من 1939 الى 1941، وهى الجسم الرئيسي للدراما حيث محاولات فك شيفرة “إنيجما” بعد بناء آلة عملاقة أقرب ما تكون الى جهاز كمبيوتر بدائى تكلف 100 ألف جنيه استرلينى، وبموافقة شخصية من تشرشل الذى لجأ إليه تيرينج إثر تعنت دينستون القائد العسكرى الذى قام بتجنيد العلماء لفك الشيفرة، والعام 1925 حيث نتعرف على الطالب آلان تيرينج الذى يعانى من زملائه بسبب تفوقه واختلافه، يقومون بإهانته وإخافته، ولا يحميه إلا الطالب كريستوفر، الذى يفتح أمام تيرينج عالم فك الشيفرات، ويهديه كتابا عنها، يشعر تيرينج بميول مثلية تجاة كريستوفر الذى يموت بالسل، فيما بعد ستحمل آلة فك الشيفرة التى ابتكرها تيرينج اسم صديقه كريستوفر.
بسبب هذه البناء الفذ القائم على (1) تعميق الأفكار والخروج بها من الخاص الى العام (2) الإنتقال من لعبة الكلمات المتقاطعة وفك الشيفرة الى لعبة الدراما المشوقة (3) تعميق الصراع ليس فقط بين الأشخاص (بين تيرينج وزملائه وقائده العسكرى الذى يتهمه بالجاسوسية ويطرده لفشل آلته فى البداية) ولكن أيضا بجعل الصراع مع الزمن (رغم الحصول على آلة ألمانية لشيفرة إنيجما إلا أن إعدادات الشفرة كانت تتغير يوميا مما يجعل الأمر فى حاجة الى تخمين ملايين الإحتمالات، ويتطلب ذلك 20 مليون سنة من العمل، لا حل إلا بألة تيرينج التى تسابق الزمن للبحث عن المجهول (4) الربط بين معاناة فك الشيفرة ومعاناة تيرينج لاكتشاف رجل الشرطة حكاية مثليته الجنسية، بسبب كل ذلك فإن الفيلم الذى يستغرق عرضه ما يقترب من الساعتين يمر بدون لحظة ملل، بل ويبدو شديد التماسك لأنه نجح فى أن يسرد تفاصيل حدثين مهمين هما فك الشيفرة ومحاكمة تيرينج، كما نجح فى أن يرسم بورتريها لشخص مختلف، كان اختلافه سببا فى إنقاذ 14 مليون إنسان كما تقول عناوين النهاية.
أسرار وحقائق
يضاف الى كل ذلك أن الحكاية كلها مشوقة ومليئة بالأسرار والخفايا : مشروع فك الشيفرة بأكمله ظل سرا لمدة نصف القرن، أحرق العلماء كل أوراقهم، وبدأوا حياة جديدة بعد انتهاء الحرب، وحكاية مثلية تيرينج ظلت سرا لا يعرفه سوى أحد زملائه العلماء، وخطيبته الوفية جوان كلارك التى تقف مع هذا العقل الإستثنائى حتى النهاية، أسرار النازية كلها تظل مخفية فى “إنيجما” حتى يتم فك الشيفرة فيبدو الأمر، كما يقول تيرينج، وكأنك تتنصت على تليفون جوبلز، ورغم ذلك يصر تيرينج على أن يظل اكتشاف الشيفرة سرا، وينقل اللعبة كلها الى رجل المخابرات البريطانية ستيوارت منزيس، لكى يتم تسريب بعض المعلومات وحجب البعض الآخر، حتى لا يشعر الألمان بكشف الشيفرة فيغيرونها على الفور، الأسرار والأكاذيب تنافس الحقائق وتسير معها ذراعا بذراع، مما يمنح الدراما ثراء هائلا، لا شىء يثرى الدراما مثل هذه التناقضات.
لو نظرنا بصورة أكثر عمقا إلى الفيلم لاكتشفنا أنه ينقل فكرة الشيفرة الى مستوى معاملاتنا العلنية أيضا. فى أحد أجمل مشاهد الفيلم، يقول الطالب تيرينج لزميله الطالب كريستوفر إننا نمارس الشيفرة والتشفير فى كلامنا، نقول عبارات وكلمات بينما عقلنا مشغول بأفكار أخرى لانستطيع أن نعلنها، لقد تعامل الفيلم الذكى مع الشيفرة ليس فقط باعتبارها أداة لكسب الحروب عسكريا، ولكن ايضا باعتبارها إحدى آليات البشر للتعامل مع غيرهم، إنها جزء من طبيعتنا، ولعلها أحد أسباب صعوبة فهم الإنسان أو الحكم عليه، ذلك أن كل واحد يصنع شيفرته وأسراراه الخاصة، هناك شيفرات بعدد البشر بالمعنى الحرفى لا المجازى، شيفرات طبيعية لإخفاء ما نريد أن يبقى مستورا، وهذا بالضبط ما يقوله رجل البوليس الحائر الذى ساقه الفضول للشك فى تيرينج فخرج بأسرار أكبر عملية لفك الشيفرة فى الحرب العالمية الثانية، وبقضية مثلية جنسية، بعد أن اكتشف أن اللص الذى يتستر عليه تيرينج ليس إلا عشيقا شابا استضافه العالم الكبير فى بيته، وجد رجل البوليس نفسه أمام بطل قومى، ورجل يمارس اللواط فى نفس الوقت، أسرار معقدة جدا اجتمعت فى شخص واحد.
تأتلف الخطوط والأزمنة، لتقودنا الى وضع لا يقل غرابة عن بطلنا العجيب، نحن أمام عبقرى ساهم فى أن تكسب بريطانيا والحلفاء الحرب، وابتكر ما يمكن اعتباره أحد آباء أجهزة الكمبيوتر التى ستغير تاريخ البشرية، ولكنه أيضا رجل ارتكب ما يعتبره القانون جريمة بممارسة المثلية الجنسية، المشكلة الأكثر تعقيدا هى أنه لايستطيع إعلان ما عرفه المحقق عن دوره فى الحرب، لأن تيرينج تعهد بالسرية حتى الموت، فى النهاية سيحاكم تيرينج بتهمة اللواط، سيخيره القاضى بين السجن لمدة عامين، أو الخضوع للإخصاء الكيماوى عن طريق الحقن المنتظمة، يختار تيرينج الثانية، تزوره جوان كلارك، تحاول أن تحدثه عن دوره العظيم فى ابتكار الجهاز، تحاول أن تجعله يحل الكلمات المتقاطعة، يبدو منهكا وحزينا، تتركه وحيدا مع الآلة العملاقة كريستوفر، يبتسم وهو يشاهدها، يغلق النور، ويدخل الى حجرته، تقول عناوين النهاية إنه انتحر فى عام 1954.
العناصر الفنية
مثل برومثيوس عصرى، سرق تيرينج النار فدفع ثمن اختلافه، حصل على العفو بعد موته بسنوات طويلة، ينتهى الفيلم البديع على صورته مبتسما، وكأنه يزهو باختلافه الذى لولاه ما أنقذوا العالم، وكأنه يسألنا عما سنفعل لو شاهدنا شخصا استثنائيا، هل سنعترف بهذا الإختلاف أم سنطالبه بأن يقلدنا؟
عناصر الفيلم الفنية كانت كما هو متوقع فى مستواها الرفيع، المخرج مورتون تيلدوم يقود ببراعة ممثليه، ويتحكم مع المونتير ومؤلف الموسيقى التصويرية فى التأثير العاطفى الذى لا يصرفك عن التفكير والتأمل، ديكورات وملابس تعيد إحياء الأربعينات والخمسينات بدقة، وفريق مدهش من الممثلين الراسخين: بنديكت كيمبرباتش الذى قدم أداء استثنائيا استوعب كل تضاريس الشخصية وأعمارها ولفتاتها وسكناتها، دعابتها المرحة وآلامها العميقة، مشخصاتى من طراز رفيع سيحصد فيما أظن جوائز العام فى التمثيل، كييرا نايتلى فى دور جوان كلارك، كانت رائعة فى تجسيد شخصية فتاة عاشقة تحلم أيضا بتحقيق ذاته، والإستقلال عن أسرتها، مشاهدها قليلة ولكنها مؤثرة، وخصوصا مشهد لقائها الأخير مع تيرينج فى منزله، وممثلون أخرون رائعون مثل مارك سترونج فى دور منزيس رجل المخابرات، وتشارلز دانس فى دور دينستون القائد العسكرى، وماتيو جود فى دور هيو ألكسندر العالم المشارك فى فك الشيفرة.
“لعبة المحاكاة” عمل احترافى يقدم درسا فى اكتشاف الدراما من قلب الحياة، ويقدم التحية للإنسان الفرد المختلف الذى يمكنه أن يغير التاريخ، وأن يحمل فوق كتفيه صخرة تفرده، ثم يدفع الثمن ببساطة، تاركا الآخرين يحلمون بفك شيفرته الإنسانية .. دون جدوى!