قراءة في وثائقيات هاشم النحاس: “النيل أرزاق” و”الناس والبحيرة”

Print Friendly, PDF & Email

من هو هاشم النحاس؟

يعتبر هاشم النحاس واحد من ابرز صناع السينما التسجيلية المصريين وأحد الرواد الحقيقيين لهذا النوع السينمائي الذي يعتبر البعض أصل السينما، حيث صنف الكثير من مؤرخي السينما افلام الاخوين لوميير الأولى عن خروج العمال من المصنع والقطار الذي يصل إلى المحطة على اعتبار انها افلام “تسجيلية” وذلك قبل اختراع المصطلح وتنظيره على مدار قرن كامل.

كتب هاشم النحاس وأخرج نحو 40 فيلماً تسجيلياً، وهو أحد الأعضاء المؤسسين لجمعية التسجيليين المصريين وجماعة السينما الجديدة بالإضافة إلى أنه عضو مؤسس لاتحاد التسجيليين العرب.  وفي عام 1987 أسس مهرجان الإسماعيلية القومي للأفلام التسجيلية والقصيرة وكان أول من تولى إدارته.

حصلت أعماله على العديد من الجوائز المحلية والدولية كان أولها الجائزة الأولى في مهرجان “ليبزج” الدولي عام 1972 بأولى أيقوناته التسجيلية “النيل ارزاق”، واحتفالا بمئوية السينما العالمية عام 1995 اختير نفس الفيلم ضمن برنامج “100 فيلم من القرن” الذي قدمه المهرجان الدولي للأفلام القصيرة في كليريموفيران (فرنسا) . وأختير مؤخراً في فرنسا كأحد أهم الأفلام في تاريخ السينما التسجيلية في العالم .

النيل والبحيرة

في أولى افلامه (النيل ارزاق) يقدم النحاس نموذجا للعناوين التي سوف تصبح سمة أساسية في تجاربه التالية، حيث إضافة كلمة نكرة (أرزاق) إلى كلمة معرفة (النيل) الذي هو أسم علم، وهو في نفس الوقت يمكن اعتباره فلسفيا (ظرف مكان)، حيث يختصر هنا الحياة بالكثير من تفاصيلها الخاصة ومشتملاتها المعنوية، فهو اقرب لنهر الحياة المتدفق من قديم الأزل وإلى الأبد بينما الأنسان هو ذلك الملاح العابر او الصياد الصبور او المزارع المقيم على الضفاف، ومصطلح أرزاق هو واحد من المصطلحات المحلية المعروفة للكثير من الطبقات الأجتماعية الدنيا والمتوسطة والتي تختصر حكمة داخلية ومتجذرة ان كل ما يتكسبه الانسان ماديا ومعنوي ما هو إلا (رزق)  من السماء وهو مصطلح يفيد التسليم بأن الانسان ليس في يده سوى السعي والعمل و(الأرزاق على الله) أي ان نتاج هذا العمل سواء مادي او معنوي لن يأتي بسبب العمل فقط ولكن العمل مضافا إليه التوفيق الألهي وهي أحد سمات البشر عامة والمصريين خاصة فكلمة ارزاق تمثل مختصرا هائلا للأيمان الداخلي بوجود قوى علوية مانحة، لكن منحها لا يأتي سوى عبر السعي إلى هذا المنح، أي ان الكلمة تختصر معنيين هامين من معاني الحياة والأنسانية (الايمان والعمل).

لقطة من فيلم “النيل أرزاق”

أن اللقطة الاولى من الفيلم او اللقطتان الاولى المتتاليتان من الفيلم هما لقطة عامة من زاوية مرتفعة لمياه النيل والموجات النيلية الصغيرة المتكسرة التي تجعله اشبه بسجادة من الماء في لقطة لا تستغرق ثوان قبل أن تتبعها اللقطة التالية مباشرة والتي تمثل لقطة عامة متوسطة لرجل/ صياد يقف في ثلث الكادر الأيسر ويقوم بعملية اعداد لشبكة صيد (رمز الرزق المنتظر او الأرزاق المنتظرة من هذا النيل والتي سوف يستخرجها منه هذا الأنسان البسيط عاري الصدر الذي يقف وخلفه الأفق/ السماء رمز الأيمان تكشف عنها خلفية الكادر ويمينه الخالي .

إذن في اقل من ثوان معدودة من بداية الفيلم وبلقطتين متتاليتين قصيرتين وكأنهم لقطة واحدة استطاع النحاس ان يضمن لنا رسالة الفيلم ومغزاه واسلوبه في آن واحد (النيل رمز الحياة والصياد هو الأنسان والشبكة رمز العمل والسماء في الخلفية رمز الأيمان) هكذا دون كلمة واحدة أو آيه قرآنية او صوت معلق مهيب النبرات! فقط ثوان معدودة على الشاشة كثفت بشكل (جيني) كل ما يريد الفنان اعلانه عن موقفه الوثائقي من الحياة.

كان استغناء هاشم النحاس عن التعليق الصوتي عام 1972 عندما انجز “النيل ارزاق” مثار لدهشة وترقب واستنفار المتلقين وصناع الأفلام التسجيلية على حد سواء في ذلك السياق الزمني الذي كان فيه التعليق الصوتي هو الوسيلة الأساسية للسرد والحكي وتقديم المعلومات وابراز الأهداف والقضايا التي يتناولها الفيلم.

ولما كان النحاس على ما يبدو يخطط بشكل ما إلى معالجة قضايا مغايرة عن تلك التي كانت سائدة او منتشرة في ذلك الوقت فكان عليه ان يبحث عن صوت سردي مغاير أيضا، وبالتالي اصبح التعامل مونتاجيا مع اللقطات والمشاهد الفيلمية اكثر حساسية ودقة وتركيزا وكثافة من التجارب التي سبقته او حتى من تجارب معاصريه، وهو ما يمكن رصده عبر النماذج الفيلمية التي اشرنا إليها في بداية حديثنا بل وحتى في التجارب التالية لها والتي تعامل فيها بشكل اساسي مع بيئات الفن التشكيلي والرسامين كجزء من دراسته للانسان في مختلف تجلياته.

في “النيل ارزاق” يمكن بسهولة ان نستمع إلى هذا الصوت (البصري) في السرد عبر ترتيب اللقطات التي تصور طبيعة الارزاق المرتبطة بالنيل بداية من الصيد ثم الزراعة ثم النقل النهري بمختلف انواعه سواء نقل البضائع على الصنادل الحديثة او المراكب الشراعية أو نقل البشر عبر المعديات البدائية التي تستعمل السلاسل الحديدية.

هذا في المستوى الاول للسرد اما في المستوى الثاني فأن ما نراه عبر هذه اللقطات هو عملية تكثيف للحضور الانساني في اشكال مختلفة عبر قيمة العمل لتحقيق معنى للحياة، فثمة دوما تركيز على الأيدي التي تجدف في لقطات قريبة او التي ترفع الشادوف او تقوم بتحميل البضائع او تلقي بشبكة الصيد .

لقطة من فيلم “الناس والبحيرة”

اعتمد النحاس على بث صوت سردي مغاير عبر الصورة وتتابع اللقطات وايقاع الزمن وحركة الكاميرا ولكن ليس معنى هذا ان النحاس استغنى كلية عن شريط الصوت أو الأصوات التي يمكن ان تشكل ملامح مساعدة أو اساسية في عملية السرد وطرح الرؤية الفيلمية والأنسانية في تجاربه.

لقد افسح استغناء النحاس عن التعليق الصوتي شريط الصوت لعناصر اخرى على رأسها الأصوات الطبيعية والموسيقى وأغنيات الصيد والحصاد والحدو لتصبح ايقونات مميزة تلمع في سمع المتلقي وتقوم بدور رئيسي في رسم صورة ذهنية وشعورية للبيئات والموضوعات التي يتناولها، وعلى رأسها بالطبع موضوعه الأثير (الانسان والحياة).

هذه إذن هي اولى اللبنات التي سيضعها النحاس كقاعدة عامة في تجاربه اللاحقة عبر سياقات عناوين مثل (الناس والبحيرة) و (البئر) فهذا الكلمات رغم أنها تبدو معرفة بشكل اعتيادي إلا أننا امام حالة تجريد فلسفية وإنسانية واضحة، فلم يكتب مثلا (الناس وبحيرة المنزلة) تحديدا أو (البئر الفلاني) كعادة اهل الصحراء في أطلاق الأسماء على الأبار لتمييزها عن بعضها، يتحدث السياق التسجيلي عن (ناس) يتكسبون (ارزاقهم) من (العمل) في (بحيرة) وبما ان التعليق الصوتي غائب والتحديد الجغرافي بصريا ومعلوماتيا مستبعد عن قصد فأن تلقي الفيلم يحتوي على قدر كبير من التجريدية التي تجعله اكثر اتصالا مع القيم والنشاط الأنساني العام اكثر من اتصاله برسالة محلية محددة الهدف.

ولو تصورنا أن متفرج أجنبي يشاهد الناس والبحيرة فإنه على سبيل المثال لن يحتاج إلى جملة واحدة مترجمة بما فيها اغنيات الصيادين والتي تشبه اغنيات الصيادين التراثية في كل العالم، ولن يتساءل المتلقي الأجنبي أين تقع هذه (البحيرة) ولا ما هي جنسية هؤلا (الناس) بل سيتابع بشغف تلك الانتقالات الشاعرية جدا واللقطات المنمقة بعناية لما يمكن أن يكون احتفاءا بقيمة العمل الانساني بل وبالأنسان نفسه الذي يخلط الغناء بالجهد ويعرف كيف يتعايش مع بيئته ويطوعها لصالح أن تستمر حياته وحياة من حوله ومن بعده محملا بأيمان عظيم بأهمية ما يفعله وقيمة ما يمثله هذا الجهد، سواء كان صيدا او زراعة يريد الفنان اعلانه عن موقفه الوثائقي من الحياة.

ولا تختلف اللقطة الأولى في “النيل ارزاق” عن اللقطات الاولى والثانية في “الناس والبحيرة” حيث مراكب شراعية صغيرة في غبشة الفجر تتحرك فوق سطح البحيرة الساكن في لقطة لا تستغرق ثوان، ثم تليها لقطة لأثنان من الصيادين يقومان باعداد الشباك في ضوء الفجر الباكر بينما تبدو السماء في الخلفية وزرقة البحيرة المائلة للرمادية في قاع الكادر وثلثه الأيسر، في حين تحتل الثلثين الايمن والاوسط جلسة الصيادين/البشر فوق احد هذه المراكب الشراعية الصغيرة التي رأيناها في الثوان الاولى.

الصوت والزمن

يمكن الوقوف على تعامل النحاس سرديا مع فكرة تكثيف الزمن سواء الزمن المادي او الزمن المعنوي – في شكله الفلسفي المفتوح- عبر رصد تتابع اللقطات والأحجام التي يقدمها في سياقات مثل تجسيد قيمة العمل الانساني في الحياة مع مرور الزمن ففي “النيل ارزاق” يقوم بتقديم لقطة عامة لعربة كارو تسير محملة بحمولة من الطوب النئ المصنوع من طمي وماء النيل تليها مباشرة لقطة عامة واسعة لعربة نقل حديثة بحمولة من الأحجار المنقولة عبر النيل من المحاجر إلى الشاطئ فهنا يمكن أن نرصد التطور الزمني الواسع الذي يختصر ويكثف في لقطتين متتاليتين دون اي تدخل صوتي/فوقي أو شرح او معلوماتية.

هذا على مستوى الزمن المادي اما على مستوى الزمن المعنوي فيمكن ان نراه في تتابع لقطتين في الحجم المتوسط لفتى مراكبي يقوم بالتجديف في نشاط وهمة ثم يقطع المخرج بنفس الحجم والزاوية على مراكبي عجوز يقوم بالتجديف بنفس النشاط والهمة لنجد انفسنا أمام حالة تكيف زمني معنوية شديدة التأثير وعميقة المغزى تلخص لنا فكرة أن جزء من قيمة الانسان كصانع للحياة أنه يظل يعمل طوال حياته منذ سن الفتوة حتى الشيخوخة طالما كان قادرا على العمل (والتجديف).

يمكن ان نبدأ رصدنا لقوة شريط لصوت لدى النحاس وطبيعته المؤثرة من “الناس والبحيرة” الذي منذ بداية العناوين وقبل أن تظهر أي لقطة على الشاشة نستمع إلى صوت ايقاعي مميز من طرقات الخشب والصفيح وذلك في هارمونية ايقاعية ذات حلاوة موسيقية، وكأنما هي من عزف فرقة محترفة، ويستمر معنا الصوت الأيقاعي خلال العديد من لقطات الفيلم يخفت احيانا ويختفي لتحل محله موسيقى تصويرية عبارة عن تقاسيم صولو على القانون والتي تبدا في الانطلاق صوتيا مصحابة لعملية غزل الشباك واصلاحها والتي تتم بأصابع خبيرة نراها في لقطات قريبة ومتوسطة لتصبح الانامل والأصابع التي نراها تقوم بالغزل على انغام القانون كأنها تقوم بالعزف لا بالغزل واصلاح التالف والممزق من الشباك اثر كل عملية صيد في البحيرة.

ويظل النحاس محتفظا بماهية الصوت الايقاعي الذي بدأ به شريط الصوت إلى منتصف الفيلم ليكشف لنا عن ان تلك الأيقاعات المحفزة والممتعة ما هي إلا معزوفة بدائية تلقائية وفطرية جدا يقوم بها (ناس البحيرة) لتحفيز الاسماك على الحركة في القاع والاتجاه ناحية الشباك المفرودة هنا وهناك لتكتمل عملية الصيد.

وبالاضافة إلى تلك المقطوعة الأيقاعية وتقاسيم القانون التي تنقل لنا عزف الأنامل على الشباك ياخذنا الثلث الأخير من الفيلم صوتيا مع غناء فردي لاحد الصيادين الذي يغني اغنية صيد تراثية بصوت عميق ويجيبه في الخلفية كورس متناسق مرة أخرى الأنسان حاضر في شريط الصوت (بصوته) وهو اختيار يدعم رؤية فرضيتنا فلم يختم النحاس الفيلم بالموسيقى صوتيا ولكن بصوت غناء انساني جميل ومتفرد.

Visited 163 times, 1 visit(s) today