فيلم “المتوفاة”.. بين وهم الحياة وحقيقة الموت
إعداد: أحمد ابراهيم الصافي
يعتبر فيلم A Falecida (المتوفاة)– 1965 عملا بارزًا في تاريخ السينما البرازيلية، فهو يجسد بأبعاده الدرامية والنفسية، عمق التفاوتات الاجتماعية والسياسية التي ميّزت المجتمع البرازيلي في منتصف القرن العشرين.
الفيلم، الذي أخرجه ليون هيرزمان عام 1965، واستند إلى مسرحية الكاتب البرازيلي نيلسون رودريغيز، ينتمي إلى حركة “السينما نوفو” (أو السينما الجديدة) “Cinema Novo“، التي نشأت في الستينيات بوصفها صرخة فنية ومجتمعية ضد الظلم الاجتماعي والاقتصادي.
ومن خلال شخصية زولميرا، التي جسدتها الممثلة البرازيلية فرناندا مونتينيغر، يرسم الفيلم صورة دقيقة لامرأة عالقة بين إحباطاتها الشخصية وقيود بيئتها الاجتماعية، لتصبح قصتها انعكاسًا مأساويًا للطبقات المهمشة التي سعت السينما نوفو إلى تمثيلها بواقعية وتجريد بعيد عن التزييف، أو تقديم “أوهام هوليوودية”.
يبدأ الفيلم بزيارة زولميرا – التي تعيش حالة من القلق المستمر – إلى عرافة، أملاً في كشف الغموض الذي يحيط بمستقبلها أو تهدئة مخاوفها. وخلال اللقاء، تصف العرافة وجود امرأة شقراء في حياتها، من دون تحديد هويتها بشكل مباشر، وهو ما يُطلق موجة من الشكوك في عقل زولميرا. تنظر البطلة إلى كلمات العرافة كرسالة غامضة محمّلة بالدلالات التي قد تُغيّر مسار حياتها.
هذا الوصف الغامض لا يمر مرور الكرام، إذ تبدأ زولميرا في البحث عن المعنى الكامن خلفه، محاولة ربط الكلمات بحياتها الشخصية.
مع تطور الأحداث، وبعد محادثة قصيرة مع زوجها “تونينو” تستنتج أن الوصف ينطبق على ابنة عمها غلورينها، المرأة التي كانت دائمًا نموذجًا للنجاح الاجتماعي الذي لم تحققه زولميرا.
وعلى الرغم من أن شخصية غلورينها تعد أحد المحاور المؤثرة التي تبرز عمق الصراع النفسي لشخصية زولميرا، إلا أن حضورها في القصة محدود للغاية. في الواقع، غلورينها لا تظهر في الفيلم سوى في مشهد عابر ومقتضب، تمر فيه بجانب زولميرا دون أن توليها أي اهتمام أو نظرة. كما أنها تُظهر -من خلال وضعها الاجتماعي المزدهر- صورة مثالية تثير في زولميرا شعورًا بالحسد، خاصة وأن غلورينها تجسّد ما تطمح إليه زولميرا: حياة مريحة واعتراف مجتمعي.
هنا يبدأ يتحول الشعور المبدئي بالخوف الذي أثارته كلمات العرافة إلى غيرة مستعرة تدفع زولميرا نحو التفكير في خطة لتحطيم هذه الصورة، ليس فقط لتجاوز غلورينها، بل لتغيير نظرة المجتمع لها بالكامل.
يصبح الموت، من وجهة نظر زولميرا، أداة لتحقيق هذا الهدف، حيث تخطط لجنازة فاخرة تأمل أن تُعيد تشكيل إرثها الاجتماعي، وتجعلها شخصية محط اهتمام واحترام، على عكس ما كانت تعانيه خلال حياتها.
يساهم في تعزيز هذا القرار شعورها بالمرض وقربها من الموت أكثر من أي وقت مضى، منذ اللحظة التي بدأت تعاني فيها من أعراض جسدية ضعيفة وغير مفسرة وألم مستمر في رئتيها، لذلك تقصد زولميرا رجلا مختصا بتجهيز الجنازات لتحديد ترتيبات جنازتها الخاصة. لكنها تلجأ إلى حيلة لإخفاء نواياها الحقيقية، حيث تعرض قصة مختلقة عن صديقة مريضة على وشك الموت، زاعمة أن هذه الجنازة تُعدّ خصيصًا لهذه الصديقة، وتختار زولميرا خطة فاخرة تبلغ تكلفتها 85 ألف كروزيرو، وهى تكلفة ضخمة جدا تفوق كثيرا إمكانياتها المالية.
يظهر “تونينو”، زوج زولميرا – وهو رجل عاطل عن العمل ـ كشخصية غير مبالية تمامًا بمشاكل زوجته ومعاناتها. وطوال الأحداث، يبدو منفصلاً عن الأزمات النفسية والاحتياجات العاطفية لزولميرا، حيث يكرّس معظم وقته واهتمامه لتشجيع فريق كرة القدم المفضل لديه فلومينينسي. ويتضح من تصرفاته أن شغفه بكرة القدم يطغى على أي محاولة للتقرب من زولميرا أو فهم ما تمر به.
يتجلى ذلك في عديد من المشاهد التي تكشف الفجوة العاطفية بينهما، إذ يختار تونينو الابتعاد عن زولميرا في أكثر لحظاتها احتياجًا للدعم. هذا التجاهل لم يكن مجرد انعكاس لتدهور علاقتهما الزوجية، بل يظهر أيضًا كرمز لتناقض الأولويات بينهما؛ حيث تعيش زولميرا أزمة وجودية تدفعها نحو التخطيط لجنازة فاخرة تعيد لها مكانتها المفقودة، بينما يبقى تونينو منشغلاً تمامًا بمباريات فريقه المفضل.
هذا الانفصال العاطفي يساهم في تعقيد حياة زولميرا، ويجعلها تشعر بمزيد من العزلة والإحباط، ما أضاف طبقة جديدة من المعاناة إلى أزمتها الشخصية.
تعكس هذه العلاقة المتوترة الجانب الاجتماعي والطبقي الذي تناوله الفيلم، حيث يبدو أن الشخصيات محاصرة في عوالمها الشخصية دون أي تواصل حقيقي.
في مشهد شعري بإمتياز، تتقدم زولميرا ببطء نحو المطر المتساقط من السماء، في لحظة انفصال تام عن الواقع، وكأنها تجيب نداءً خفياً يدعوها للتطهر والتجدد. تفتح ذراعيها برفق وتترك جسدها يندمج مع قطرات المطر، مع موسيقى تنساب بخفة لتخلق انسجامًا مثاليًا بين الصورة والصوت، كأنها في حضن الطبيعة الأم، حيث تتحول هذه اللحظة إلى حالة من السكون والاحتواء، رغم شدة الإحساس بالضعف الذي يعتريها، كانت بمثابة إشارة إلى خلاص داخلي، وهروب من واقعها المأساوي، حيث تنسى لحظات الألم والهزيمة، لتغرق في هذا السكون المليء بالنقاء.
منذ اللحظات الأولى في الفيلم، تأسر فرناندا مونتينغرو الأنظار بحضورها الطاغي وقدرتها الفائقة على تجسيد مشاعر زولميرا المتناقضة، واستطاعت نقل الصراع الداخلي لشخصيتها بواقعية شديدة، حيث كانت تبرز في كل كلمة معاناة الشخصية وحيرتها. بمهارة، أظهرت الحزن العميق الذي يرافق زولميرا بسبب شعورها بالفشل الاجتماعي والنقص العاطفي الذي يطغى على حياتها، كما أدت بدقة شعورها بالتهميش الاجتماعي، ومعاناتها من خيبة الأمل في محيطها، على الرغم من قسوة الظروف، تمكنت مونتينغرو من نقل رغبة زولميرا في الهروب من هذا الواقع عبر الموت، الذى تظنه الحل الوحيد لها.
في لحظاتها الأخيرة، بعدما ساءت حالتها على فِراش المرض، تطلب زولميرا من زوجها تونينو التوجه إلى شخص يُدعى جودو بنتيميل، ليقترض منه المبلغ اللازم لتغطية تكاليف الجنازة، نظرًا لعجزهم المالي لتحقيق هذه الرغبة، وبالفعل يتبع “تونينو” طلب زوجته بالتوجه إلى بنتيميل ويدّعي أمامه أنه أحد أقربائها لتبرير حاجته الملحة للمال، ويتضح لاحقًا مفاجأة درامية في القصة، يُظهر من خلال الحوار وهو يحكي عن علاقته الجنسية مع زولميرا ويستدعي ذكرياته معها عبر تقنية الفلاش باك حيث يتبين أن بنتيميل كان عشيقها السابق.
وبعد حوار طويل، يستجيب بنتيميل بدفع المبلغ بالكامل. بعد أن حصل تونينو على المال، اتخذ خطوة تعكس صراعه الداخلي وتوتر علاقته بزولميرا، حيث توجه مباشرة إلى الرجل المختص بتجهيز الجنازات، لكنه طلب أرخص نعش متاح، متجاهلًا تمامًا رغبة زولميرا الأخيرة في الحصول على جنازة فاخرة كما خططت لها.
تصرف تونينو بدا كأنه انتقام غير مباشر من زولميرا، يعكس شعوره بالخيانة والانزعاج من علاقتها السابقة ببنتيميل. وما زاد من غرابة المشهد، أنه لم يحضر مراسم الجنازة، وانطلق مباشرة إلى المدرجات ليشجع فريقه المفضل في مباراة كرة القدم. وينتهي الفيلم بينما دموعه تنهمر بشكل مفاجئ. هذا التصرف كشف عن النهاية المأساوية لحياة زولميرا، التي لم تتحقق حتى في الموت رغباتها وأحلامها التي تعلقت بها في حياتها.
في كتابه فن الشعر يحدد أرسطو المأساة على أنها قصة شخصية نبيلة تواجه الهلاك نتيجة لخطأ داخلي أو hamartia، والذي يطلق عليه أحيانًا “الخطأ المأساوي”. في الفيلم، تُجسد زولميرا هذا المفهوم من خلال هوسها بالأوهام المتعلقة بموتها ورغباتها في جنازة فاخرة.
يكمن عيبها في محاولتها الهروب من قسوة الواقع من خلال اختلاق خيال كبير، رغم أنها تدرك أن إمكانياتها المالية لا تسمح بذلك. هذا العيب يدفعها إلى اتخاذ خطوات مثل ترتيب جنازة فاخرة لنفسها رغم حالتها الاقتصادية المتدهورة. تتجسد مأساة زولميرا في سعيها المحموم للهرب من واقعها، ورغبتها في الموت الذي يحقق لها الرفاهية والاهتمام، ولكنها في النهاية تقابل النهاية القاسية التي لم تتحقق كما حلمت.
يتحدث أرسطو أيضًا عما يعرف بالـ catharsis (أي التطهير العاطفي)، وهو عملية التنقية العاطفية التي يمر بها الجمهور من خلال مشاهدة الانهيار المأساوي للشخصية. في حالة زولميرا، يمر الجمهور بتسلسل من المشاعر، من التعاطف مع حالتها إلى الوصول في النهاية إلى الإدراك بأن أفعالها كانت بلا جدوى، مما يؤدي إلى التطهير العاطفي وفهم مصيرها المحتوم. موتها لا يتوافق مع توقعاتها؛ إنه نهاية غير مبهرة وفارغة، وهو ما يتماشى مع مفهوم peripeteia (الانعكاس أو التحول المفاجئ في الحظ) حيث تنقلب الأمور بشكل مفاجئ وتصل إلى النهاية المأساوية المتوقعة.
في الختام، يمثل فيلم A Falecida (المتوفاة) أكثر من مجرد سرد لقصّة امرأة تعيش في معاناة نفسية واجتماعية. من خلال شخصية زولميرا، التي جسدتها المبدعة فرناندا مونتينيغرو، يُقدّم الفيلم تحليلاً عميقًا لعلاقة الإنسان بالطبقات الاجتماعية المتفاوتة، والظروف المعيشية القاسية، والانهيار الداخلي الذي يعيشه الأفراد في عالم مليء بالتناقضات. لم تكن زولميرا مجرد امرأة تائهة في أحلامها، بل كانت ضحية مجتمعية تعيش في عالم يسود فيه الفقر، وتفتقر فيه إلى الدعم العاطفي من أقرب الناس إليها، كما كان حالها مع زوجها تونينو الذي انشغل بمباريات كرة القدم على حساب احتياجاتها النفسية.