فيلم “وداعاً” الهندي.. الحياة في مواجهة الحزن!

Print Friendly, PDF & Email

د. ماهر عبد المحسن

مثل كبار نجوم الشباك في السينما العالمية، يتجه أميتاب بتشان، الذي قارب على الثمانين، إلى الأدوار الإنسانية. فبعد رحلة حافلة بالمطاردات وأصوات الرصاص، ورائحة البارود، يقف بتشان في فيلم “وداعا” الذي أُنتج عام ٢٠٢٢، في مواجهة الموت، ليس كبطل مغوار هذه المرة، لكن كإنسان عادي يعاني محنة فقد شريكة حياته، ولا يعرف كيف سيعيش حياته الباقية بدونها.

الفيلم من تأليف وإخراج فيكاس باهل، ومن بطولة أميتاب بتشان، راشميكا ماندانا، نينا جوبتا، بافيل جولاتي.

وتدور الأحداث حول هاريش بهالا (أميتاب بتشان) الذي تموت زوجته جاياتري (نينا جوبتا) في غياب أبناء أربعة، أخذتهم الحياة في اتجاهات شتي بعيدا عن الأب والأم اللذين كافحا طوال حياتهما من أجل سعادة الأبناء، الابنة تارا(راشميكا ماندانا) التي كسبت أول قضية لها في مجال المحاماة، وذهبت للاحتفال في ناد ليلي راقص، والابن ناكول (أبهيشيخ خان) الذي سافر في مغامرة لتسلق جبل إفرست، والابن بالتبني أنجاد (ساهيل ميهتا) الذي يعيش في دبي، وكاران(بافيل غولاتي) الذي تزوج أمريكية (إيلي أفرام) وأقام هناك كي يدير مشروعاته الاقتصادية.

أرسل الأب رسائل، على الموبايل، لحضور مراسم دفن الأم، ومن خلال مراسم الدفن كشفت الأحداث عن اختلافات جذرية بين الأب والأبناء، وانعكست هذه الاختلافات على الطريقة التي عبّر بها كل منهم عن حزنه على الأم. وضح من خلال الفلاش باك أن الأم كانت هي أساس حياة الأسرة، وهي التي دفعت الجميع لأن يشق طريقه في الحياة، لكن وضح أيضا أن كل فرد في الأسرة أصبح له أسلوبه ورؤيته في الحياة حتى فيما يخص موت الأم نفسها ومراسم دفنها.

فالحياة دائما هي الأقوى، ومهما بدا الموت مفجعا ومروعا، فإنه ما يلبث أن يتوارى، ليفسح المكان للحياة كيما تواصل دورتها، وهو ما عبّر عنه الجد عندما شفي من مرض الموت، فذكر أن طريقه إلى الموت قد أعاده للحياة! وهو نفس المعنى الذي عبّر عنه هاريش وهو يداعب كلبه عندما ذكر أنه ربما عاد من حياة أخرى! والمسألة تتجاوز فكرة تناسخ الأرواح، فالموت ليس استنساخا للروح، لكن انعطافا لها. وربما كانت هذه هي الرسالة الاقوى للفيلم. فعن طريق الفلاش باك نري هاريش في طفولته وهو يقف أمام باب المدرسة وينظر في حزن إلى حيث ذهب أبواه جهة اليمين من الطريق، ولم يعودا مرة أخرى. وفي واحدة من الجمل البصرية الفريدة، المعبّرة عن فلسفة الموت، تقف مدرّسة هاريش بجواره في نفس المكان حيث تركه أبواه قبل أن يغيبهما الموت، وتطلب منه أن ينظر في الاتجاه الذي مضوا فيه، وعندما يرى رجلا يقود دراجة وينعطف في الاتجاه نفسه ثم يغيب عن الأنظار تقول له إن أبويك مثل هذا الرجل، لم يموتا، لكنهما غابا عن الأنظار، وأن الموت بهذا المعنى هو انعطافة للروح.

ومن هذا المنطلق، يمكن أن نفهم الحزن المقيم بوصفه تعبيرا عن الموت كلحظة عدمية، أما الذين يقاومون هذا الحزن فهم الذين لم تنطفئ فيهم جذوة الحياة. إن دراما فيلم “وداعا” يمكن أن تُفهم بوصفها صراعا عبثيا بين الحزن واللامبالاة، لكن النظر للأحداث من منظور فهم الموت كانعطافة للروح من شأنه أن يجعلنا نفهم الكثير من المشاهد بنحو مختلف.

لقد نجح أميتاب بتشان في تجسيد الحزن الصارم بنحو مدهش، يتناسب وتاريخه الطويل في استوديوهات بوليوود، وكان هذا النجاح هو أساس دراما الفيلم. فلم يكن الصراع بينه وبين جميع الأطراف، الأبناء غالبا، سوي صراع بين الموت والحياة، بين التوقف فجأة عن الحياة، وبين الاستمرار في الحياة بالرغم من فداحة الثمن، وهو فقدان شخص عزيز. ففي مشهد يبدو ساخرا يحرص أصدقاء الأم المتوفاة على التقاط صورة سيلفي بجوار النعش، وفي مشهد آخر يتجادل نفس الأصدقاء حول اختيار اسم لجروب جديد يعتزمن إنشائه على الواتس يخص المتوفاة! ربما تبدو المسألة هزلية، في ظل فهم للموت يحترم جلال الحدث بنحو ما كان يفعل هاريش، لكنها قوة الحياة والرغبة في الاستمرار.

تتضح المسألة بنحو أكثر عندما يدق هاريش باب حجرة ابنه كاران صبيحة وفاة الأم، ويلاحظ الأب، بعد أن يفتح الابن الباب، أنه وزوجته الأمريكية كانا يمارسان الجنس، وفي حوار معبّر يسأل هاريش ابنه “ماذا كنت تفعل؟!” وعندما يصمت كاران من وطأة الحرج، يقول له الأب “أنا لا أقصد ماذا كنت تفعل” لكن “بماذا كنت تشعر؟!”، وهنا يوضح له كاران، بعد أن نفد صبره، أنه لم يكن مسرورا، لأنه وزوجته يتلقيان علاجا من أجل الإنجاب، وأن العلاقة الحميمية في هذا التوقيت ضرورة يحتمها العلاج. إن الأب يسأل بمنطق الحزن، لكن الابن يجيب بمنطق الحياة.

وفي مشهد آخر، تصر تارا على إيجاد مبرر منطقي لإلقاء رماد جثث المتوفين في نهر الجانج، خلافا للأسطورة التي رواها الجار بانديت جي (سونيل جروفر) الملم بتفاصيل طقوس الجنازة، عن زوجة الملك التي تطلب منه أن يسمح لها بإغراق أبنائها السبعة في نهر الجانج حتى تتم نجاتهم من دورة الحياة المنتهية بالموت، وترى أن التفسير المنطقي يكمن في أن رماد الجثث يحتوي على عنصر الفوسفات، مما يساعد في تسميد الأراضي التي يرويها نهر الجانج. والحقيقة أن منطق الحياة هو الذي يهيمن على كلا التفسيرين الأسطوري والعلمي، فزوجة الملك كانت تروم لأبنائها الخلود، والأرض المخصبة بالفوسفات تنطوي على قدرة أكبر على النماء والعطاء غير المحدود.

وفي مشهد ثالث، يرفض كاران الانصياع لتعاليم الدين التي تحتم على الابن أن يقص شعره تماما فداء للأم المتوفاة. يرفض لأنه لا يجد تفسيرا منطقيا لهذا الطقس، بالرغم من أن الجار، المسؤول عن طقوس الجنازة، يبرره بأنه يقضي على كبرياء الإنسان، ويطهره من خصلة سيئة، لكنه يصر على الرفض لأسباب دنيوية تخصه، وهي كونه رجل أعمال تقتضي مهنته التعامل مع الناس، وهي مسألة تتطلب الحفاظ على رونق المظهر وجمال الشكل. غير أنه يعود في نهاية الفيلم للانصياع لتعاليم الدين ويقبل قص شعره بعد أن يعود الأخ الأصغر ماكول من مغامراته فوق قمم الجبال ويقدم، دون تفكير، على قص شعره. والحقيقة أن قص الشعر ذاته يمكن فهمه على أنه رمز للحياة المتجددة، أو أنه جزء من مغامرة الحياة، التي تستحق التحدي.

وفي كل الأحوال، يظل الموت مرتبطا بالحياة، أو أنهما وجهان لعملة واحدة، فالحزن والفرح تجربتنا ذاتيتان، غير أنهما، يجدان تحققهما في شكل طقوس اجتماعية، ويحدث كثيرا أن يفقد الإنسان شعوره العميق بالتجربة، ويتمسك بالطقس الشكلي، أو أن يتحول الاستغراق في الشعور إلى إغراق في الأداء. ويمكننا أن نعثر على مثل هذه الدلالة الطقسية في الكثير من المواقف التي تعرضت لها زوجة كاران الأمريكية، نظرا لاختلاف العادات والتقاليد، في أثناء مشاركتها الأسرة الهندوسية طقوس الجنازة، بنحو ما تبدي في المشهد الذي خرجت فيه إلى جموع المعزين وهي ترتدي زيا أسود اللون تعبيرا عن الحزن في حين يرتدي الجميع الأزياء البيضاء، ما جعلها عرضة لاستهجان الجميع، غير أن الدلالة الأعمق، تكمن في أن الزوجة الأمريكية لم تكن ترتدي زيا أسود فحسب، لكن كانت ترتدي زيا أنيقا وكأنها قادمة إلى حفل بهيج. إن سلوكها إذن، ليس تعبيرا، في حقيقته، عن الحزن بقدر ما هو تعبير عن إرادة الحياة!

والكلام نفسه يمكن أن يُقال في موقف الزوجة الأمريكية، عندما تساءلت بعفوية عن سبب غياب الدجاج من الطعام الهندوسي. والمفارقة أن ارتباط طقوس الحزن بالأكل والشرب ظاهرة منتشرة في المجتمعات الشرقية، وقد عبّر عنها فيكاس باهل في مشهد بديع عندما وقفت أسرة هاريش عند مدخل أحد الأسواق، وهي ترى نوعا من المأكولات الشهية (كولي باتوري) يأكل منه الناس بنهم بينما يشعرون هم بالحرج ولا يستطيعون القيام بالسلوك نفسه حتي يخبرهم  بانديت جي أن ذلك سيجعل جاياتري ترقد في سلام، فيهجمون على الأكل دون محاولة البحث عن مبرر منطقي لهذا الطقس خلافا لموقفهم من الطقوس الدينية الأخرى! كما يتبدى، في المشهد نفسه، لحظة تحول هاريش من الشعور بالحزن إلى الرغبة في الحياة، عندما يقول له بانديت إن الأكل اللذيذ يشفي آلام القلوب! ويؤكد البائع المعنى نفسه من خلال عبارة لا تخلو من فلسفة للحبأة عندما يقول، نحن لا نعلم متى ستنتهي حياتنا، لذلك علينا أن نضع همومنا جانبا، ونأكل “كولي باتوري” حتى نشعر بالسعادة!

إن انعطافة الروح لا تعني فحسب أن المتوفى يقيم في عالم آخر، لكن تعني أيضا أنه مازال يعيش، بين أحبائه، في الدنيا من خلال ذكرياته الحية التي يحتفظون بها داخلهم، والتي تركها المتوفي من خلال كلماته وحكاياته التي سردها أثناء حياته معهم. حدث ذلك مع هاريش من خلال استدعائه لذكرياته مع جاياتري قبل وفاتها، وحدث مع كاران حين سمع صوت الأم ينادي عليه، بعد وفاتها، فيما يشبه الوهم. والحقيقة أنه ليس وهما، لأن الأم ربما تكون قد برحت العالم بجسدها، لكنها لم تزل تسكن أعماقه بروحها!

ولعل في المشهد المعبّر، الذي يصور احتفال الأسرة بعيد ميلاد الأب هاريش، لأول مرة، في غيبة الأم، ما يلخص فكرة الموت الفلسفية التي قدمها الفيلم بنحو جمالي خالص، بعيدا عن الجفاء الجدلي العقيم. فالأم كانت قد سجلت دعوة أرسلتها للأبناء قبل أن تغادر الحياة، ذكّرتهم فيها بضرورة الحضور للاحتفال بعيد ميلاد الأب، وهو ما حدث بالفعل، وإن كان قد حدث أثناء وجودهم بجوار الأب في الوقت نفسه، وهم يشرعون في الاحتفال بعيد ميلاده. ويلاحظ أن الاحتفال بعيد ميلاد الأب في نهاية الفيلم، يعكس تحولا مهما في حياة الأسرة، التي عادت للتماسك مرة أخرى بعد وفاة الأم، لكن على أساس آخر غير الحزن، لأن الاحتفال بعيد ميلاد هاريش كان بمثابة ميلاد جديد للأسرة كلها.

والمفارقة أن هاريش هو الذي استعاد فكرة الموت بوصفه انعطافة للروح، من ذكرياته البعيدة، وأعاد سردها على أبنائه، بعد أن عادت الابتسامة إلى وجهه وبات الجميع في حالة تصالح مع الموت، والحزن، من أجل الحياة..      

Visited 2 times, 1 visit(s) today