“عندي صورة”.. الكومبارس هو البطل

الكومبارس خلف العملاق محمود المليجي الكومبارس خلف العملاق محمود المليجي

يمكن اعتبار الفيلم التسجيلي المصري الطويل “عندي صورة: الفيلم رقم 1001 في حياة أقدم وأشهر كومبارس في مصر” لمحمد زيدان فيلما تجريبيا بكل معنى الكلمة. فهو يطرق دروبا جديدة بعيدة تماما عما هو مألوف في الأفلام التسجيلية حتى تلك التي تميل إلى كسر التقليدي والسائد منها.

محمد زيدان الذي عمل طويلا كمساعد مخرج، يخوض هنا تجربته الأولى في الإخراج، لكنه يختار أيضا ألا يكون مخرجا بالمعنى التقليدي المستقر والمتعارف عليه، بل يترك لنفسه العنان، أولا: للارتجال أمام الكاميرا، فهو يظهر بصورته وصوته في الفيلم، سواء في المقدمة وسط بطلي فيلمه، أو في مؤخرة المشهد، ويظهر معه مساعدوه ومنتج الفيلم، ويحرص على الاحتفاظ في الفيلم بالأحاديث والمناقشات التي تدور بين أفراد الطاقم وبطل الفيلم الممثل الثانوي (الكومبارس) مطاوع عويس.

ثانيا: لا يحرص زيدان كثيرا على المحافظة على مسار واضح محدد من البداية لمسار السرد narrative، بل كثيرا ما يقفز فوق اللقطة والموقف وما ترويه الشخصية الرئيسية التي يدور حولها الفيلم، لكي ينتقل في المكان والزمان، ليربط بين الخيال (عشرات المقاطع من الأفلام المصرية القديمة والصور الفوتوغرافية) وبين الشخصية التي تتذكر، خاصة وأنها شخصية مطاوع عويس الذي يعتبره زيدان أقدم ممثل كومبارس في مصر بل وصاحب أكبر عدد من الافلام “في العالم”، وهي معلومة غير مؤكدة لكنها تأتي في سياق حماس زيدان الواضح في الفيلم، ربما لتشجيع بطله ودفعه أكثر للتجاوب معه وتقديم المزيد من الشهادات والاعترافات عن فترات عمله الطويل في الأفلام مع كبار نجوم السينما المصرية.

ثالثا: لا يكتفي محمد زيدان- وهو مثقف سينمائي مولع بوجه خاص بالسينما المصرية الشعبية من عصر أفلام الأبيض والأسود- بدور المخرج، بل يكسر عامدا دور المخرج المهيمن على الشخصية بحيث يجعل “الكومبارس” عن البطل، ويكسر بالتالي رتابة الفيلم التقليدي وبما يتلاءم مع “الخلطة” المقصودة بين صناع الفيلم (المنتج والمخرج والمصور ومهندس الصوت، الذين يتحدثون ويظهرون ويناقشون) وبين الكومبارس الشهير مطاوع عويس، ثم يأتي دور مساعد المخرج المخضرم كمال الحمصاني الذي يبدو أنه أصبح- بالصدفة- طرفا في الفيلم بعد أن التقاه المخرج- كما يروي- في مقهى، وعرف أنه يرتبط بصداقة قديمة مع عويس، وهو الذي أوصله إليه بعد أن قيل له إنه توفي، فعرض عليه زيدان العمل معه مساعدا للإخراج، لكن كمال لا يقف وراء الكاميرا بل يظهر في الصورة معظم الوقت مع مخرج الفيلم وإلى جانب عويس، بل وقد ارتضى زيدان أن يترك العنان لكمال الحمصاني الذي يتدخل كثيرا بالتوجيه والاعتراض والتصويب وكأنه الموجه الحقيقي للتصوير في الفيلم.

يقوم الفيلم إذن على لعبة تبادل الأدوار بين المخرج ومساعده، وعلى المزج بين الذاتي والموضوعي، أي بين الذكريات الشخصية لمخرجه وبطليه (عويس والحمصاني) وظروف تصوير الأفلام القديمة، وبين صناعة السينما في أبعادها وتقنياتها وفكرة الإيهام بالواقع، وكيف نفرق بين الحقيقة والخيال، بين ما يجري على الشاشة وما يدور أثناء التصوير، والأهم كيف يُستخدم “الكومبارسوما هو دورهم في تأكيد واقعية الصورة، وهو موضوع يستغرق فيه طويلا كمال الحمصاني الذي يبدو ملما بالكثير من الجوانب الحرفية في العمل السينمائي.

عندي صورة

تتكرر في الفيلم عبارة “عندي صورة” يكررها عويس تأكيدا على مشاركته في فيلم ما إلى جانب ممثل أو ممثلة من المشاهير، ومنها استمد زيدان اسم فيلمه مضيفا إليه، على سبيل المبالغة، “الفيلم رقم 1001 في حياة أقدم كومبارس في مصر”.

يروي عويس كيف يطغى أداء الممثل الثانوي أحيانا على الممثل النجم، وهو ما يسبب غيرة النجم منه وغضبه الشديد. ونشاهد هنا مقطعا طريفا من فيلم إسماعيل يس في مستشفى المجانين” يغني فيه الممثل الثانوي حسن اتله المونولج الذي أصبح شهيرا “أنا عندي شعرة.. ساعة تروح وساعة تيجي” أمام إسماعيل يس، وكيف طغى على نجومية النجم وأصبح ملتصقا بذاكرة الجمهور منذ هذا المشهد.

جلسة التقليب في الماضي

ويشرح كمال الحمصاني كيف أنه كان وراء الاستعانة بممثل ثانوي يرتدي زي الجندي (في فيلم “الرصاصة لا تزال في جيبي”) يقف في خلفية الصورة بينما يتحدث حسين فهمي إلى زميله الضابط في مقدمة الكادر قبل عبور قناة السويس في حرب أكتوبر 1973، حيث نرى الجندي وقد وضع قبعته معكوسة يؤم الصلاة على الرمال وخلفه ثلاثة من الجنود، تأكيدا، كما يقول، على الدافع الديني قبل بدء المعركة، والهدف هو ملء فراغ الكادر في خلفية اللقطة. وفي مشهد آخر يشرح كمال للمصور كيف يمكنه تفادي انعكاس الضوء على العدسة عندما تكون الكاميرا في مواجهة الشمس، وهناك أحاديث وتفاصيل كثيرة حول عمل كبار الممثلين أمثال يوسف وهبي (في فيلم أولاد الشوارع) وكيف أنه ركل الكاميرا أثناء التصوير بعد أن اندمج تماما في دوره، ثم كيف التقط ممثل زجاجة حقيقية وضرب بها رأس ممثل آخر وإن كنا لا نعرف بالطبع ما إذا كانت هذه الحكايات حقيقية أم من وحي الخيال، لكن زيدان من خلال بحثه الطويل الشاق بين المئات من الأفلام المصرية، يلتقط ببراعة وذكاء لقطات ومشاهد من الأفلام القديمة، للمواقف المختلفة التي يأتي ذكرها على لسان عويس وكمال بتركيز خاص على اللقطات التي يظهر فيها عويس كممثل ثانوي إلى جانب نجوم التمثيل، ومنها اللقطة الشهيرة له مع أحمد زكي في فيلم “أبوالدهب”.

جرأة الموضوع

يروي زيدان عن علاقته بالسينما وولعه بها منذ الطفولة، وهو يصحب بطليه إلى الإسكندرية للمرور على ما تبقى من دور العرض السينمائي واستعادة تجربة الذهاب إلى السينما، ومتعة اكتشاف السينما في ظلام القاعة، وكيف كان الجمهور يتفاعل مع الفيلم. ولعل فكرة الفيلم نفسها التي بدأت باهتمام زيدان بوجه الممثل الثانوي الذي يتكرر ظهوره كثيرا بجوار أبطال الافلام، ثم بحثه الشاق عنه وإصراره على الوصول إليه، هي في حد ذاتها فكرة جريئة تنم عن اهتمامه الشديد بالسينما ومشاهدته الذكية للأفلام.

يحدث أحيانا تداخل بين الأصوات في الفيلم، وانتقالات مفاجئة تقطع السياق، ومشاهد ربما تؤدي إلى هبوط في الإيقاع مثل المشهد الذي يحاول زيدان خلاله تصوير مفترض لعودة عويس إلى بلدته في الصعيد، من خلال لوحة تحمل عنوان “الطريق إلى محافظة سوهاج”. هذا المشهد يبدو عبثيا تماما ولا فائدة منه خاصة بعد تدخلات الحمصاني ورفض عويس الانصياع لتوجيهاته وعدم تجاوبه مع المشهد، ولكن زيدان يعود بعده إلى مشهد طريف من أحد الأفلام المصرية القديمة حيث نشاهد كيف يسير عسكري يقبض بيده على مجرم يريد تسليمه للجهات الرسمية فيظل يتنقل من محافظة إلى أخرى من محافظات الصعيد سيرا على الأقدام. ولا شك في طرافة المشهد وفي استعادته لكن المشكلة أنه لا يضيف كثيرا إلى الفيلم.

ويصور زيدان كيف تتصاعد الخلافات بين كمال الحمصاني الذي يصر على التدخل في حركة عويس وتحريكه داخل الكادر، وارتباك عويس واحتجاجه وشعوره بعدم القدرة على الأداء الطبيعي في فيلم تسجيلي تغيب عنه الدراما، ويبدو مخرجه وقد ترك الباب مفتوحا أمام مختلف الآراء بحيث بدا موضوع تصوير عويس في الإسكندرية على سبيل المثال- محيرا ليس فقط لنا كمشاهدين بل لعويس نفسه الذي يقول إنه لا يعرف لماذا أتى به المخرج إلى هذه المدينة، لكن ربما يكون هذا الارتباك جزءا من متعة مشاهدة الفيلم.

حكايات من التاريخ

يتحدث الحمصاني في مشهد يدور على كورنيش الإسكندرية عن بداية السينما المصرية على يدي محمد بيومي من الإسكندرية. وهذا صحيح، لكنه في موضع آخر من الفيلم يروي لزيدان كيف انطلقت الواقعية الجديدة الإيطالية من مصر، مؤكدا أن روسيلليني الذي يعرف بـ”أبي الواقعية الإيطالية”، كان يعمل في ستديو مصر في ذلك الوقت حين كان كمال سليم يصور فيلم “العزيمة (1939)” وأنه نقل تأثره إلى الأفلام التي صنعها. ويضيف أن فيلم “سارق الدراجة” (وهو من إخراج فيتوريو دي سيكا وليس روسيلليني) مقتبس من قصة “حرامي البقرة” التي كتبها كمال سليم، ولكن سبق أن روى المخرج الراحل صلاح أبوسيف- وكان مساعدا لكمال سليم- أن سليم باعها لشخص يدعى ستولوف، كما تؤكد الدراسات السينمائية أن سيزار زفاتيني هو الذي كتب سيناريو “روما مدينة مفتوحة” لروسيلليني أول أفلام الواقعية الإيطالية، عن كتاب ليجي باتيلوني.

ما يسوقه الحمصاني من معلومات تبدو شديدة الطرافة، خاصة وأنه يبدو واثقا ثقة كبيرة من معلوماته. ولا يناقشه زيدان بل يكتفي بالاستماع إليه مبديا دهشته. وربما يكون الحمصاني يخلط هنا بين روسيلليني الذي لم يعرف أنه أقام أو عمل في مصر، وبين مخرج آخر إيطالي كان يعمل في مصر في الفترة بين الحربين هو غالبا جوفريدو اليساندريني، لكن فيلمنا هذا ليس بالطبع مشغولا بمراجعة المعلومات، فموضوعه يقبل هذا النوع من المبالغات التي تتداعى من ذاكرة بطليه.

عويس في حالة حيرة بين الماضي والحاضر

ولعل من “المعلومات” التي يسوقها مطاوع عويس هذه المرة، ما يذكره عن أن أنور وجدي كان مغرما بليلى فوزي وقد أراد أن يتزوجها لكنها رفضت، فتزوج بدلا منها من ليلى مراد، لا لأنه كان يحبها، بل لأن اسمها ليلى فقط!

يتحدث محمد زيدان بتعاطف كبير عبر التعليق الصوتي عن دور الكومبارس الذي لا يشعر به أحد، وعن تكراره الدور نفسه الذي قد يستغرق ثوان على الشاشة مرات ومرات، دون أن يفكر أحد في هذا الممثل وكيف يستعد لأداء دوره في كل مرة. ويبدو تعليق زيدان الصوتي بشكل عام تلقائيا وعفويا ينسجم مع طابع الفيلم وأسلوب المونتاج الذي يميل للإيحاء بالطبيعية من دون تحكم دقيق في طول اللقطة والمشهد، بل ويترك كثيرا من اللقطات تخرج عن البؤرة أو تنحرف بعيدا عن الهدف (لقطات عمود الساري في الإسكندرية) إلا أن التعليق الذي يأتي في الجزء الأخير من الفيلم يبدو أكثر إحكاما ودقة في الصياغة، فهو يريد أن يلخص من خلاله التجربة التي لا شك أنها صنعت بحب: للسينما وللكومبارس وللناس وللعالم.

مشاكل الفيلم

من ضمن مشاكل الفيلم الصورة الضعيفة في الكثير من المقاطع المستخدمة من الأفلام القديمة، وضعف الإضاءة في الكثير من المشاهد المصورة، بحيث بدت الصورة قاتمة، ومشاكل أخرى ترجع إلى تداخل الأصوات (التعليق فوق مشاهد يدور فيها الكلام)، وغياب الأسماء من على مقاطع الأفلام القديمة وإن كان زيدان يضعها كقائمة طويلة في نهاية الفيلم وكان الأفضل دون شك، أن تظهر فوق كل مقطع، خاصة وأن المتحدث لا يذكر دائما أسماء الأفلام التي يتكلم عنها كما في حالة الحمصاني عندما يتحدث عن التعامل مع خلفية المشهد، فهو لا يذكر اسم الفيلم بل يذكر وجود حسين فهمي فيه بينما يغيب هذا الممثل عن المقطع الذي نشاهده، وهناك الكثير من المقاطع التي كان يمكن استبعادها من الفيلم خاصة التي لا يظهر فيها عويس، فربما جاء الفيلم مركزا أكثر.

أراد محمد زيدان أن يروي تاريخ السينما المصرية من خلال شخصية الكومبارس” الذي عمل في المئات من الأفلام، وشهد تطور الصناعة من الأربعينات، وتعامل مع كبار النجوم والمخرجين، وتوفي عام 2015 عن 86 عاما. ورغم عيوب التجربة الأولى ومشاكلها التي اقتضت من المخرج العمل لسنوات عدة في الفيلم، وخاصة في مرحلة المونتاج وما اكتنفها من معوقات، إلا أن التجربة ممتعة دون شك، وتعيدنا إلى التأكيد على أهمية الحفاظ على تاريخ السينما المصرية، وأهمية وجود سينماتيك حقيقية، ومعامل قادرة على استعادة نسخ الأفلام القديمة وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من التراث السينمائي.

توفي عويس والحمصاني دون أن يشاهدا الفيلم، ولكن أعمالهما باقية في ذاكرة الأجيال، وهذا هو “سحر السينما” وسر جاذبيتها وقدرتها على المقاومة والصمود الأبدي في وجه الزمن.

https://www.youtube.com/watch?v=txx0moNyDFk
Visited 86 times, 1 visit(s) today