العودة إلى تحفة صلاح أبو سيف “السقا مات”

عزت العلايلي وفريد شوقي في "السقا مات" عزت العلايلي وفريد شوقي في "السقا مات"

 هو الذي مات قبل أن يعيش

في فيلم “السقا مات” (1977) أحد أهم أفلام صلاح أبو سيف المقتبس ببراعة عن رواية يوسف السباعي، هناك رجلان يدور حولهما محور الفيلم وموضوعه: الأول هو السقا “المعلم شوشة” الذي يسقي الناس الماء، أصل الحياة للكائن البشري، والثاني “شحاتة أفندي” الذي يزف الموتى إلى قبورهم وهم يودعون الحياة.

الأول رغم صلته الوثيقة بالحياة، يعيش في الموت، بل هو في الحقيقة ميت- حي، حرم نفسه من متع الحياة الدنيا بعد أن آثر العزلة والخوف والكآبة منذ وفاة زوجته الوفية المخلصة الجميلة “آمنة”، التي رحلت بعد ولادة ابنهما الوحيد “سيد” مباشرة. لقد أسره الموت، وسيطرت عليه فكرة النهاية المفاجئة التي تأتي من دون ميعاد، فانزوى وابتعد عن كل ما يشده إلى الحياة رغم استمراره في العمل الذي ورثه عن أجداده، والذي يتلخص في تزويد أهل الحارة بالماء، يصحبه ابنه الطفل المشاغب “سيد” الذي يطرح أسئلة أكبر من سنه.

يمتنع المعلم “شوشة” (عزت العلايلي) عن الاختلاط بالآخرين، ظل يرفض بإصرار أن يتزوج ويعيش حياته. وبعد أن ينتهي يوم العمل المرهق، ينزوي وحده في غرفته في انتظار أن تأتيه “أم آمنة” بالطعام والشاي، تلك السيدة العجوز الكفيفة التي تسير بصعوبة، والتي عاشت معه منذ وفاة ابنتها آمنة.

أما شحاتة أفندي (فريد شوقي) رجل الموت، “مطيباتي الجنازات” كما كان يطلق عليه في مصر في عشرينات القرن الماضي وهي الفترة الزمنية التي تدور فيها أحداث الفيلم، فهو رغم قربه من عالم الموت، يعيش الحياة بكل زخمها، حتى الثمالة، فهو يشرب ويدخن الحشيش ويلهو ويحتال في المقاهي والمطاعم، وأما آفته الكبرى فهي ولعه الشديد بالنساء، فهو لا يستطيع كبح جماح رغباته الجنسية، بل وعلى استعداد للتضحية بأعز ما يملك من أجل قضاء سهرة جميلة في أحضان امرأة من عيار “عزيزة نوفل” (شويكار) غانية الحارة اللعوب المغوية ذات الفتنة التي لا تقاوم.

هذه “الثنائية” التي تدور بين الرجلين، أي حول الحياة الموت، هي ما تجعل من تجربة “السقا مات” تجربة ثرية ربما غير مسبوقة في السينما المصرية. وكما أعاد هذا الفيلم صلاح أبو سيف إلى أجوائه الحميمية القريبة من قلبه وعقله وتاريخه، أجواء الحارة المصرية والشخصيات المصرية البسيطة في عنفها ونبلها، شراستها وشجاعتها، فقرها واستعدادها للتضحية من أجل الآخرين فهو أيضا من إبداع كاتب السيناريو الكبير الراحل محسن زايد. هنا تتلاقى عقلانية أبو سيف مع فكر محسن زايد، لتصنعا معا هجائية للموت، وأنشودة للحياة.

عزت العلايلي في دور السقا أمام شويكار (عزيزة نوفل) عاهرة الحارة

“السقا مات” يعتبر أيضا أحد أجمل الأفلام المصرية والعربية التي ظهرت حول الصداقة بين الرجال: الصداقة الخالصة، التي لا يوجد وراءها سوى الخير والحب، والتي تجمع بين رجلين رغم تناقضاتهما: شوشة المنغلق على نفسه الذي يرفض مواجهة العالم منذ وفاة زوجته، وشحاتة المقبل على الحياة، ينهل من مباهجها طبقا لقناعاته ورغباته، دون أن يحسب حسابا لما هو آت، فهو يعلم أن “لكل أجل كتاب”، وتتلخص فلسفته البسيطة في أن “الموت جبان” يتخفى ويأتي فجأة، ويجب أن يكون المرء أشجع منه، لا يخشاه بل يواجهه ويهزمه بأن يخلق السعادة والبهجة في حياته، ويعرف كيف يستمتع بها.

نقطة ضعف شحاتة ترتبط بشهوته التي لا تعرف حدودا. هو مثلا يظن أنه يمكنه أن ينال “المعلمة زمزم” (تحية كاريوكا) صاحبة المطعم الشعبي، عندما يغازلها وتستجيب هي لمداعباته الكلامية في دلال انثوي مألوف دون أن تعد بشيء. لكن شهية شحاتة تنفتح للطعام فيسرف في طلباته ويغالي، وتكون النتيجة عجزه عن دفع ثمن طلباته الكثيرة. هنا تنقلب المعلمة زمزم الى وحش كاسر، ويتعرض شحاتة للإهانة والتجريس.

شوشة الطيب القلب يتدخل بشهامته وينقذه من مصيره، فهو يرفض إهانة الإنسان على هذا النحو. ورغم فقره وتواضعه الشديد، إلا أنه بمروءة وشهامة أبناء البلد من سكان الأحياء الشعبية، يستضيف شحاتة في منزله ويكرمه ويتركه يقيم في إحدى غرف المنزل، فهو في حاجة الى الصداقة. وشحاتة كذلك يعترف أنه للمرة الأولى في حياته يجد صديقا يستمع إليه. وتنمو الصداقة وتتوطد بين الرجلين.

النص السينمائي يعرف كيف يرسم ملامح تلك العلاقة العذبة الآسرة بين الشخصيتين على تناقضهما، ويعرف كيف يتعاطف معهما، يفهم سر أزمة المعلم “شوشة”، ويتفهم دوافع “شحاتة أفندي”.

لكن الصداقة تجمع أيضا بين شوشة والمعلم “خوشت” الكريم الذي لا يتردد قط في مد يده بالمساعدة والعون إلى شوشة كلما اقتضى الأمر. الحنفية العمومية في هذا الحي (الحسينية) من أحياء القاهرة الفاطمية، هي رمز الحياة بالنسبة للسكان. لكن هناك ذلك السقا المتجبر الذي يسخرها لحسابه الخاص، يغدق على من سينتفع منهم، ويمسك عن الفقراء. وهناك شجرة التمر حنة رمز الخير والنماء التي زرعها في الماضي، شوشة مع زوجته الراحلة “آمنة” والتي ستصبح رمزا لاستمرار الخير والنماء بعد ان يتولاها “سيد” ابن شوشة بالسقي والرعاية.

المعلم شوشة أرسل ابنه “سيد” الى “الكُتاب” لكي يتلقى تعليما دينيا على يد الشيخ. ولكن “سيد” على العكس من أبيه، متمرد أصيل، فهو يضيق ذرعا بثقافة التلقين والحفظ والتسميع التي تقوم على القمع والضرب والتوبيخ، يريد أن يتحرر من هذا القيد، وأن يعمل مع أبيه في توزيع الماء على أهالي الحي، ويظل يطرح الأسئلة ويتدخل في كل شيء بجرأة الكبار. في أحد المشاهد التي تمرد سيد على ما يلقنه الشيخ إياه: يردد الأطفال وراء الشيخ: “وما يدريك لعله يذكر”، بينما يكتفي سيد بهز رأسه ثم يخرج الطعام الذي أتى به ليلتهمه التهاما دو أن يلقي بالا الى ما يدور من حوله، وسرعان ما ينتبه زملاؤه فينصرفون عن الدرس ويتخاطفون منه الطعام، وهو مشهد لا يحتاج إلى أي تعليق!

لقطة من الفيلم وفيها السقا المعتمد يغازل عزيزة نوفل

المعلم شوشة الذي لا يفوت فرضا ويحرص على أداء الصلاة في مواعيدها، لا يبدو أنه قد وجد الراحة التي ينشدها في المطلق الديني، فهو مؤرق بفكرة الموت المخيفة. أما شحاتة أفندي، الغارق في “الخطيئة”، الذي تنضح ملابسه، برائحة الموت، فهو يجد السعادة في الطعام الحشيش وأجساد النساء. ومنذ أن وقعت عيناه على عاهرة الحي الشهية “عزيزة نوفل”، أخذ يحلم بليلة متعة معها ولو كلفه الأمر ما يساوي ثمن عمله في خمس جنازات!

يقوم أسلوب صلاح أبو سيف على الانتقال بين الحاضر والماضي، لتعميق شخصية المعلم شوشة السقا وتصوير علاقته بزوجته الراحلة التي ضحت من أجله كثيرا، أو ينتقل بين الواقع والأحلام التي تتدفق في خيال شحاتة تحت تأثير المخدر، يحلم بعزيزة. وتنتقل الأحداث من الحارة، إلى “مقهى الأفندية” حيث يذهب شوشة مع شحاتة، أو إلى منزل شوشة، والمقابر القريبة حيث يتجاور الأحياء مع الموتى. والشخصيات الرئيسية في الفيلم محدودة وهي تحديدا 4 شخصيات: شحاتة وشوشة وسيد وام آمنة. والباقي شخصيات فرعية. وهو ما يسمح للسيناريو بالتركيز على موضوعه.

عندما يقتنع شوشة أخيرا بالإقدام على طلب الزواج من جارته الشابة “زكية” ابنة المعلم “خوشت”، يفاجأ بأنها مخطوبة بالفعل وسيزوجونها بعد ذلك لرجل لا تحبه وهي احدى صور إقصاء المرأة في تلك الفترة. أما شحاتة ففي اللحظة التي يستعد فيها ويتأهب من خلال طقوس طريفة لقضاء الليلة المشهودة مع عزيزة، يأتيه الموت.

موت شحاتة يأتي كضربة أخرى قاسية تصيب شوشة الذي يفقد صديقه الوحيد الذي كان يملأ فراغ حياته، فيلجأ إلى الله، يصرخ في مشهد من أهم وأفضل واقوى مشاهد الفيلم كله وأكثرها حيوية وقدرة تعبيرية عن الهاجس الموجود في الرواية الأصلية: هاجس الخوف من الموت.

يدور المشهد أولا وسط المقابر. لحظة نزول جثمان شحاتة الى القبر تتبدى لشوشة صورة زوجته الراحلة “آمنة”. تزداد حيرته ويزيد اضطرابه ويأسه، فيهرع بعيدا عن الرجال، يقف وحده في الفراغ يعلن احتجاجه على الموت: “الموت جبان”. اللقطة له من زاوية مرتفعة كثيرا. تتراجع الصورة من خلال عدسة الزووم لنراه من أعلا وقد تضاءل حجمه كثيرا وبدا ضائعا بين الأعمدة التي تفصل فتحات المياه في القاهرة العتيقة.

تستمر الحركة داخل المشهد، حركة شوشة الحائر الممزق وصوته الذي يتردد في صدى قوي، وحركة الكاميرا وهي تفسح المجال أمامه، فخلافا لمعظم مشاهد الفيلم، تسيطر الحركة على المشهد، يتسع حجم الصورة وتكشف ضآلة الفرد، تكثف ذلك الشعور بالتشوش والاضطراب والضياع.

يتساءل شوشة في غمرة احتجاجه المباشر على الموت: ايه اللي بتكسبه لما تفرق الحبايب وتيتم العيال.. إيه؟  اظهر أنا مش خايف منك. انت مابتجيش لما نطلبك.. وبتيجي لما نكون مش عايزينك.. وزي البهلوان تخطف الروح بإيد خفيفة.. تسرقها. تهرب. تختفي تاني عشان نفضل العمر كله مستنين لعبتك اللي جاية. بتستفيد إيه؟ ايه اللي بتكسبه لما تفرق الحبايب وتيتم العيال. إيه؟ تعالى خلصنا من ألاعيبك”..

وهكذا يدور الممثل وتدور معه الكاميرا ويأتي صوته من خارج الكادر يعكس ما يدور داخل نفسه، في أقوى احتجاج على الموت، في واحد من أكثر المشاهد جرأة في تاريخ السينما المصرية. ينتهي المشهد بصوت الأذان، وحركة زووم معاكسة تقترب من جسد شوشة وهو يجثو على الأرض ويسجد ويرفع يديه يتضرع الى الله. لقد ثاب الى رشده أخيرا وأدرك أن الحكمة الإلهية أقوى من تساؤلاته المعذبة. وربما لو لم يفعل صلاح أبو سيف هذا لوجهت إليه الاتهامات وواجه الفيلم اعتراضات من الرقابة.

تحية كاريوكا في دور المعلمة “زمزم”

موت شحاتة يلخص فلسفة الفيلم: أي أن الموت قادم، ولكننا يجب أن نعيش الحياة قبل أن يأتينا الموت. وبهذا المعنى ففيلم “السقا مات” صحيح أنه فيلم عن الموت، لكنه أيضا دعوة للحياة. لانتصار للإنسان على الموت، بالحب والصبر والتساند الإنساني.

توفرت للفيلم كل عناصر النجاح: سيناريو متقن في تفاصيله وتوازنه ومساحاته المتاحة لجميع شخصيات الفيلم بما في ذلك أصغر الشخصيات وأكثرها هامشية.. صور بديعة بتفاصيلها المدهشة داخل ديكورات الحارة المصرية للقاهرة القديمة (ديكور مختار عبد الجواد). انتقال سلس وواضح ومتوازن بين الشخصيات والأماكن والمواقف (مونتاج رشيدة عبد السلام)، تصوير مرهف يجسد الفروق بين الأحلام والواقع، وبين استدعاء الماضي، ولحظات الحاضر (تصوير محمود سابو). إيقاع رصين يتيح مساحة عقلانية للتأمل أمام المتفرج، وكاميرا تعرف متى تتحرك ومتى تتوقف عن الحركة. وفضلا عن كل هذه العناصر، أداء عظيم من جانب فريق الممثلين جميعا وفي مقدمتهم عزت العلايلي في دور المعلم شوشة، في واحد من أفضل أدواره في السينما بعد فيلم “الاختيار” ليوسف شاهين. هناك ذلك الحزن الدفين الموجود في داخله، مع طفولية وخجل فطري، ورغبة في الخروج من القوقعة مع تردد وخوف ووجل. وفي المشهد الذي يجمعه مع المعلم شحاتة في المقهى بعد أن يدخن معه سيجارة حشيش، يستمع لفلسفة شحاتة البسيطة في الحياة، ويردد “كلام كبير وموزون” يصل أداء العلايلي إلى الذروة. بساطة وعفوية واندماج نادر.

وفي المقابل هناك فريد شوقي الذي يعتبر دور “شحاتة أفندي” أعظم أدواره في السينما، وفيه يصل إلى ذروة التعبير عن الأسى والود، الحزن العابر ورثاء الذات في نبرة ساخرة، الرغبة في الهرب من مرارة الحياة وخذلان البشر (الناس لا تحترم سوى من يملك المال حتى لو كان قد سرقه).

فريد شوقي يفهم الشخصية جيدا، ويتماهى معها ويعبر عن مشاعرها من داخله ومن خلال خبرته الخاصة في الحياة، فهو يعرف تلك الشخصيات ويفهمها جيدا أو هذا ما يوحي به أداؤه. وهو أداء ينتقل بين الرصانة والرقة مع لمسة الحزن إلى المرح والمزاح واللهو والحلم باللذة.. يلخص فلسفته البسيطة ويسوقها في عبارات مكتوبة ببراعة كبيرة شأن حوار الفيلم كله الذي يعتبر درسا في كتابة الحوار السينمائي. ورغم الطابع الكاريكاتوري الذي يشوب رسم ملامح شخصية شحاتة في البداية، إلا أنه يكتسب مع مرور الوقت، عمقا أكثر ورصانة وقدرة كبيرة على التأثير من دون السقوط في الميلودراما أو الهزل.

فريد شوقي في دور شحاتة أفندي مع رفاق الحنازات

إضافات صغيرة شديدة الإيحاء والخصوصية التقطها صلاح أبو سيف من معاينة الواقع مثل الحركات اللاإرادية لرأس ويدي “الشيخ سيد” زميل شحاتة أفندي في تشييع الجنازات الذي يقوم بدوره ببراعة حسن حسين، والعبارات الكثيرة المنتشرة فوق جدران غرفة المعلم شوشة التي تدعو إلى الصبر، وكيف تستخدم عزيزة نوفل قدرتها على الإغراء في الحصول على المياه لنفسها قبل باقي نساء الحارة. ربما يكون العنصر الوحيد (النشاز) في الفيلم هو أداء الطفل شريف صلاح الدين لدور “سيد” ابن المعلم شوية، فرغم اجتهاده في الدور إلا أن سرعة نطقه الكلمات مع نغمة صوته الحادة العالية، جعلا من الصعب علينا فهم ما يقوله خاصة وهو يقضم العبارات. وكان الأمر يتطلب تدريبا مكثفا على النطق أو الاستعانة بطفل آخر يكون أكثر إقناعا حتى من ناحية نبرة الصوت والنطق. وهي مشكلة يتحمل نتيجتها أبو سيف نفسه.

أتاحت رواية “السقا مات” أساسا دراميا شديد القوة لبناء سيناريو سينمائي وعمل بصري درامي، شديد القوة والأصالة، يتميز بروحه المصرية الخالصة وتفاصيله التي لا توجد سوى في قاهرة الماضي، وهو عمل يختلف عن سائر الأعمال في السينما المصرية، بموضوعه الجريء الذي يصل إلى جميع المستويات من المشاهدين، ليصبح من أهم كلاسيكيات السينما المصرية. فهو باق في الذاكرة رغم مرور الزمن.

فيديو من الفيلم

https://www.youtube.com/watch?v=lAk5dV0ud4w
Visited 18 times, 1 visit(s) today